الأحد 7 أيار 2023

الأحد 7 أيار 2023

04 أيار 2023

الأحد 7 أيار 2023
العدد 19
أحد المخلّع
اللحن 3، الإيوثينا 5


أعياد الأسبوع

7: الأحد الثالث بعد الفصح، تذكار علامة الصليب التي ظهرت في أورشليم، 8: تذكار القدّيس يوحنّا الإنجيليّ، القدّيس أرسانيوس الكبير،9: تذكار النبيّ إشعياء، الشّهيد خريستوفورس، 10: انتصاف الخمسين، تذكار الرسول سمعان الغيور، البارّ لفرنديوس، البارّة أولمبيّا، 11: تذكار إنشاء القسطنطينيّة، الشّهيد موكيوس، القدّيسين كيرلّس وميثوديوس المعادلَي الرسل، 12: تذكار القدّيس إبيفانيوس أسقُف قبرص، القدّيس جرمانوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة، 13: تذكار الشَّهيدين غليكاريّة ولاوذيسيوس.

حين يتلكّأ الإنسان

في "بيت حسدا"، "بيت الرحمة" كما تعني بالعربيّة، انتظر مخلّعٌ إنسانًا لِيُلقِيَهُ في البرِكة حين يحرّك ملاكٌ الماء. "ليس لديّ إنسانٌ"، 
هذا ما اشتكى منه بصبرٍ ورجاء. 

لكن هوذا الله الغنيّ بالرحمات ذاتُه قد حضر إليه واستمع إلى شجونه، مؤكّدًا له أنّ كل ما يتمنّاه سيحصل. 
استجاب الرحيم، طبيبُ النفوس والأجساد، إلى رغبة قلب المخلّع وافتقدَ ضعفَه وصبرَه.

ما من إنسان بين جميع الجالسين عند البرِكة تحنّن على هذا الرجل المخلّع. 
ثمّ لم يتحنّن عليه أحدٌ أيضًا، حتّى بعد شفائه. 

فقد توقّف قومٌ عند قداسة السبت، لا قداسة تدبير الله وعمل الرحمة وتجديد الخلق. 

هل استقال الله مِن مَهامِّه؟! 
جاء جواب الربّ يسوع مقتضبًا، ولكن كالعادة حكيمًا: "أبي لا يزال يعمل إلى الآن، وأنا أعمل" (الآية يو 5: 17). 

أيُّ بشريّ يفضّل أن يتوقّف نشاط الله الخلاّق المعطي الحياة؟ 
فمَن مِن الذين تحت الناموس الموسويّ لا ينتظر رحمة الله يوم السبت؟ 
ومَن لا يُنقِذُ ثَورَهُ إنْ وقعَ يوم السبت؟ 

ليس الربّ يسوع طبيبًا للأجساد وحسب، بل هو طبيب النفوس في المقام الأوّل. 
فكما حضر الإله-الإنسان الرحوم إلى البركة، هكذا أيضًا وجد المخلّعَ مجدّدًا في الهيكل، وأوصاه ألاّ يخالف مشيئة الله معطي الحياة: 

"هوذا قد أصبحتَ مُعافىً، فلا تُخطِئْ بعدَ الآن، لئلّا يُصيبَك ما هو أكثرُ شرًّا". 
يؤكّد الكتاب المقدّس في عهدَيه على أنّ سبب الشرور والقلق والأمراض يَكمُنُ في مخالفة مشيئة الله المقدّسة.

يشملُنا ربُّنا وإلهُنا بحنانه، ويشفينا ويحمينا، لكي يقودنا إلى برّه وقداسته. 
صنع الربّ يسوع معجزات كثيرة، لكي يبتهج الضعيف المنبوذ من البشر، فيمجّد اللهَ-الإنسان القدّوس في فمه وقلبه على حدّ سواء. 

أتى الرحوم إلينا، نحن المحتاجين إلى رحمته، لكي يرفعنا إليه... إلى قداسته.

الأرشمندريت يعقوب خليل
عميد معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ

طروباريَّة القيامة باللَّحن الثَّالِث

لتفرح السَّماويَّات، ولتبتهج الأرضيَّات، لأنَّ الرَّبَّ صنع عِزًّا بساعده، ووطئ الموت بالموت، وصارَ بكرَ الأموات، وأنقذنا من جوف الجحيم، ومنح العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

قنداق الفصح باللَّحن الثَّامِن

وَلَئِنْ كنتَ نزلتَ إلى قبرٍ يا من لا يموت، إلا أنّكَ درستَ قوّة الجحيم، وقمتَ غالبًا أيّها المسيحُ الإله. وللنِّسْوَةِ حاملاتِ الطِّيبِ قُلتَ: افْرَحْنَ، ولِرسِلكَ وَهبتَ السَّلام، يا مانِحَ الواقِعينَ القِيام.

الرِّسالة: أع 9: 32-42
رتِّلُوا لإِلهِنا رتِّلُوا            
يا جميعَ الأُممِ صَفِّقُوا بالأيادِي


في تلكَ الأيَّامِ، فيما كانَ بُطُرسُ يَطوفُ في جَميع الأماكِنِ، نَزَل أيضًا إلى القدِّيسينَ السَّاكِنينَ في لُدَّة، فوَجَدَ هناكَ إنسانًا اسمهُ إينِيَاسَ مُضَطجِعًا على سريرٍ مِنذُ ثماني سِنينَ وهُوَ مُخلَّع. فقالَ لهُ بطرُسُ: يا إينِياسَ يشفِيكَ يسوعُ المسيحُ. قُمْ وافتَرِشْ لنفسِك. فقام لِلوقت. ورآه جميعُ السَّاكِنين في لُدَّة وسارُونَ فَرَجَعوا إلى الرَّبّ. وكانت في يافا تِلميذَةٌ اسمُها طابيِتَا الَّذي تفسيرُهُ ظَبْيَة. وكانت هذه مُمتَلِئةً أعمالاً صَالحةً وصَدقاتٍ كانت تعمَلُها. فحدَثَ في تِلكَ الأيامِ أنَّها مَرِضَتْ وماتَتْ. فَغَسَلُوها ووضَعُوها في العِلِّيَّة. وإذ كانت لُدَّةُ بقُربِ يافا، وسَمعَ التَّلاميذُ أنَّ بطرُس فيها، أَرسَلُوا إليهِ رَجُلَيْن يسألانِهِ أنْ لا يُبطِئَ عن القُدُوم إليهم. فقام بطرُسُ وأتى مَعَهُمَا. فَلمَّا وَصَلَ صَعدوا بهِ إلى العِلِّيَّة. ووقَفَ لديِه جميعُ الأرامِلِ يَبْكِينَ ويُرِينَهُ أَقْمِطَةً وثِيابًا كانت تَصنَعُها ظَبيَةُ معَهَنَّ. فأخرَجَ بُطرُسُ الجميعَ خارِجًا، وجَثَا على رُكبَتَيْهِ وصَلَّى. ثمَّ التَفَتَ إلى الجَسَدِ وقالَ: يا طابيتا قُومي. فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا. ولـمَّا أَبْصَرَتْ بُطرُسَ جَلَسَتْ، فناوَلَهَا يَدَهُ وأنهضَها. ثم دعا القدِّيسيِنَ والأرامِلَ وأقامَها لَديهمِ حيَّةً. فشاعَ هذا الخبرُ في يافا كلِّها. فآمَنَ كَثيرون بالرَّبّ.

الإنجيل:( يو 5: 1-15)

في ذلك الزَّمان، صَعِدَ يسوعُ إلى أورشليم. وإنَّ في أورشليم عند باب الغَنَمِ بِرْكَةً تُسَمَّى بالعبرانية بيتَ حِسْدَا لها خمسةُ أَرْوِقَة، كان مُضطجعًا فيها جمهورٌ كثيرٌ من المرضى من عُمْيَانٍ وعُرْجٍ ويابِسِي الأعضاء ينتظرون تحريكَ الماء، لأنَّ ملاكًا كان يَنْـزِلُ أَوَّلاً في البِرْكَة ويحرِّكُ الماء، والَّذي كان ينـزِلُ أوَّلاً من بعد تحريك الماء كان يَبْرَأُ من أَيِّ مرضٍ اعتَرَاه. وكان هناك إنسانٌ به مرض منذ ثمانٍ وثلاثين سنة. هذا إذ رآه يسوع ملقًى وعلم أنَّ له زمانًا كثيرًا قال له: أتريد أن تبرأ؟ فأجابه المريض: يا سيِّدُ ليس لي إنسانٌ متى حُرِّك الماء يُلقِيني في البركة، بل بينما أكون آتِيًا ينـزل قَبْلِي آخَر. فقال له يسوع: قُمْ احْمِلْ سريرَك وامْشِ. فللوقت بَرِئَ الرَجُلُ وحمل سريرَه ومشى. وكان في ذلك اليوم سبتٌ. فقال اليهودُ للَّذي شُفِيَ: إنَّه سبتٌ، فلا يَحِلُّ لكَ أن تَحملَ السَّرير. فأجابهم: إنّ افيلَّذي أَبْرَأَنِي هو قال لي: احْمِلْ سريرَك وامشِ. فسـألوه: من هو الإنسان الَّذي قال لكَ احمِلْ سريرَك وامشِ؟ أمّا الَّذي شُفِيَ فلم يكن يعلم مَن هو، لأنَّ يسوعَ اعتزل إذ كان في الموضع جمعٌ. وبعد ذلك وَجَدَهُ يسوع في الهيكل فقال له: ها قد عُوفِيتَ فلا تَعُدْ تُخطِئُ لِئَلَّا يُصِيبَكَ شرٌّ أعظم. فذهب ذلك الإنسانُ وأخبرَ اليهودَ أنَّ يسوع هو الَّذي أَبْرَأَهُ.

في الإنجيل

يحدِّثنا إنجيلُ هذا الأحدِ عن مخلَّعٍ قابعٍ قُربَ بِرْكَةِ "بَيْتُ حِسْدَا"، أي بيت الرَّحمة، مدّةَ ثمانٍ وثلاثين سنةً، ينتظرُ مَن يَرأفُ به ويَرميه في الماء عندما يحرّكه الملاك، لكن كلّ هذه المُدّة لم يأتِ مَن يَرأفُ بِحالِه، بَقِيَ مَرمِيًّا كلَّ هذا الزّمن دون عون أو رحمة. 

يأتي الرّبّ يسوع ويطرح عليه السّؤال: "أتريد أن تبرأ"؟ 

لماذا لم يساعده أحد؟ 
هل المشكلة عنده أم عند الآخرين؟ هل قام هذا المخلّع بطلب مساعدة الآخَرين؟ 
هل كان لدى الآخَرين محبّةٌ تكفي للانتظار مع هذا المخلّع لِرَمْيِه في الماء باللّحظة المناسبة؟ 

تعدَّدَتِ الأسئلةُ ولكنَّ النتيجةَ واحدة: 
أنَّ هذا الرّجل لم يَجِدْ إنسانًا يُعينُه، "يا ربُّ ليس لي انسانٌ".
لم يستطع خلال هذه المدة أن يبني رباط محبَّة مع أحد، كما أنّه لم ينوجد من يمتدّ نحو هذا الإنسان ويتعهَّده ليعينه. 

هو أسقط الموضوع على الآخرين، كأنّه يقول المشكلة ليست فيّ بل في الآخَرين؛ فالخاطئ دائمًا يبرّر نفسه.
المسيح هو دائمًا البادِئ، وهو يريد الخلاص لكلّ انسان، لكنّ نعمة الخلاص تقتضي أيضًا إرادة الإنسان في خلاص نفسه. 
المسيح يريد أن يُظهر أنّ خلاص الإنسان هو بِيَدِ الإنسان وبِمعونة الله، والأهمّ هو شفاء الإنسان من الخطيئة، شفاء النَّفْس ومن ثَمَّ الجسد. 

"لنفسي، المخلّعة جدًّا بأنواع الخطايا والأعمال القبيحة، أنهِض يا ربّ بعنايتك الإلهيّة، كما أقمت المخلَّع قديمًا. حتّى إذا تخلّصتُ ناجيًا أصرخ: أيّها المسيح، المجد لعزَّتك". (قنداق أحد المخلع)

ومعنى سؤال يسوع العميق هو: 
هل عندك إرادة أن تترك خطيئتك، لأنّ المسيح قال لهُ فيما بعد لا تعد تُخطئ أيضًا، إذًا مرضه الأساسيّ هو الخطيئة. 
والخطيئة لها نتائج وَخِيمة على الإنسان.

"قم اِحمل سريرك وامشِ". 

يأتيه الربُّ يسوع بالشفاء وهو في ذروة الإحباط، فحمل سريره على الفور، ومشى أمام الجميع.

الربُّ يسوع شَفاه بطريقةٍ لم تَخطُرْ على فكره، وهي ليس بإلقائه في البركة متى تحرّك الماء، وإنّما بكلمةٍ صدَرَتْ من فَمِهِ الإلهيّ فَشُفِيَ المريض حالًا.
"إنَّ المخلَّع لم تَشْفِه البِرْكَةَ لكنّ كلمتَكَ جدَّدَتْهُ..." (ذكصا الإينوس في أحد المخلّع).

يسوع، جابل الإنسان، يردّ إلى المخلّع كرامته البشريّة، لأنّ الشّخص البشريّ هو كائنٌ جسديّ وروحيّ معًا. 
كونه يمثّل أكبر قيمة حبّ عند الله الّذي خلقه على صورته ومثاله. 
وبشفائه للمُقعَد، أعاد خَلْقَه من جديد. 

ولكنَّ الرَّبَّ يسوعَ يُحَذِّرُ المُخلّع:
"ها قد عُوفِيتَ فلا تَعُدْ تُخطِئُ لِئَلّا يُصيبَكَ أَشَرُّ".ما هو الأشرّ؟

الشلل الجسديُّ ليس هو الأشرّ، بل الوقوعُ في الخطيئة والاستمرارُ بها دون توبة هو الأشرّ.

 كم نحن بحاجة، نحن "المُقعَدين" بسبب الخطيئة المُتحكّمة فينا، و"المُخَلَّصين" بالرّبّ، أن نلجأ إلى يسوع، عبر سِرِّ التّوبة والاعتراف، ليمنحنا المغفرة، كونه حمل الله الّذي يرفع خطيئة العالم...

لماذا لا يتوب المسيحيّون في الزمن المعاصر؟

لماذا تَنهار أُمَمٌ وتَنشَأُ أُمَمٌ جديدة؟ 
لماذا اختفَتْ أُمَمٌ مسيحيّةٌ عديدةٌ ونشأَتْ مكانَها أُمَمٌ أُمَميّة؟ 

في الزمن الأخير ستصارع المسيحيّة لأجل البقاء، حيث العالم كلّه سيجتمع "على الربّ وعلى مسيحِه". 

البقاء في الوجود هو البقاء في الإيمان الحقيقيّ بيسوع المسيح. 

لماذا يتخلّى الله عن شعبه؟ 
ألأنّه إله منتقم؟

حتمًا لا، إنّما إلهٌ كاملٌ يريد أبناء كاملين، يُحرّكُهم شوقٌ إلى بلوغ الكمال. 
أبناءَ يَحفظون بأمانةٍ وصاياه وكلَّ وديعة الإيمان.
 
إلهنا لا يريد مِن شعبه سوى شيءٍ واحد: الأمانة؛ 
أن يُطيعوه بإيمانٍ ولا يكذبوا عليه، أن لا يتظاهروا بالتقوى ويعيشوا بالخطيئة؛
أن لا يتكلّموا عن إنكار الذات وهم يعيشون بالأنانيّة وشهوات حبّ السلطة والمجد الباطل؛ 
أن لا يتفاخروا بالأرثوذكسيّة ويَخونوها في حواراتِهم. 

يَطلبُ الربُّ أن يكون شعبُه أمينًا له، وشيئًا واحدًا يحفظ هذه الأمانة في النفس البشريّة: التوبة. 

التوبة هي عودة لا تتوقّف نحو الله؛ علاماتها روح منسحقة ومتواضعة، تخلَّتْ عن كُلِّ شيء في هذه الحياة، وتَطلُبُ شيئًا واحدًا: رحمة الله. 
حين يبتعد الشعب عن الله يؤدّب الله شعبه، لا لينتقم منه، إنّما لكي يعرف هذا الشعبُ خطيئتَه ويتوبَ عنها. 
منذ زمن العهد القديم، يقول الله لشعبه، "ارجِعوا كلّ واحد عن طريقه الرّديئَة، وأصلحوا أعمالَكُم، ولا تذهبوا وراء آلهةٍ أخرى لتعبُدوها" 
(أرم15:35). 

يذهب المسيحيّ وراء آلهة غريبة في أمرين: 
حين يقبل الهرطقة كالحقيقة؛ 
وحين يتبع روح العالم ويخضع لفكره. 

لقد أراد الله دائمًا إيمانًا نقيًّا به، إيمانًا صالحًا للخلاص، هو كشفه لشعبه. 

لكن حرَّفَ البعض هذا الإيمان وتلاعبوا به. 
نشوء الهرطقات والبدع المختلفة مرتبط بقوّة بالأهواء البشريّة الفاسدة، خاصّة الكبرياء. 
فمن هذه الكبرياء المقيتة وعدم الطاعة نشأت كلّ هذه المسمّاة كنائس. 

فأهواء مملوءة شرًّا وتعظّمًا، كالكبرياء التي تتطعَّم من محبّة الذات، وأهواء حبّ السلطة والمجد الباطل المنتفخة من محبّة الأرضيّات، تُظلم النفس كليًّا، لتجعل مشيئتها وأفكارها الخاصّة معيار فهمها لعقائد الإيمان. 


هذه الظلمة الروحيّة تُبعد النفس عن روح الانسحاق، وتنسيها التوبة. 
لهذا بالتحديد يمقت الله الهرطقة ويدينها، وحكم عليها بأنّها تجديف على الروح القدس ولا مغفرة لها. 

لأنّها تُذكّر بالكبرياء الأولى، التي شوّهت طريق الخلاص، ولأنّها أيضًا، تمنع النفس من أن تتوب وتخلص. 
لقد جعلَتْ روحُ العصرِ إرادةَ الإنسانِ ضعيفةً وذِهنَه مُبَعثَرًا غيرَ قادرٍ أن يَذكُرَ اللهَ في القلب. 

فالقِيَمُ والفضائلُ وضَبطُ النفس، التي كان يتربّى الإنسانُ عليها منذ الصِّغَر، استبدَلَها روحُ العصرِ بتربيةٍ قائمةٍ على الاِستسلامِ للشهوات الرديئة، وتلبيةِ كلِّ رغبات الجسد ونزواته البهيميّة. 

هذه أصبحَتْ آلِهةً لَهُ في مكان الإله الواحد روح العالم المعاصر حين يتبنّاها إنسانٌ وتسيطرُ على فكرِه، تحطّمُ إرادتَه، وتجعلُها عاجزةً عن التفكير بالحقّ واقتناءِ روحِ التوبة.

شدّد المسيحُ في كلّ الكتاب المقدّس على الفصل بين روح العالم وروح الله. روحُ العالم هي روحُ كلِّ عصرٍ يَبذُرُ الاِستهتارَ بالحقيقةِ الأزليّة ومقدَّساتها، ويُرَوِّجُ بطريقةٍ خفيّةٍ للخطيئةِ والإلحادِ في ذهن الإنسان. 

لهذا أولئك الّذين يَدْعُونَ لِعَصرَنَةِ الكنيسةِ وَفِكرِها وطريقةِ حياتها، هم أوّلُ أعداءِ المسيح؛ لأنّهم يَجمعون الحقَّ مع الضلال، الّذي حاول المسيح أن يُفرّقه.
الكنيسة ذاتها التي كانت تملك في كلّ تاريخها هذا الحسّ العميق بالحقيقة الإلهيّة التي تسلّمتها، أخذت في هذا العصر ترضخ لروح العالم. 

كم تتكاثر تلك الدعوات، من أبناء الكنيسة ذاتهم، لتبنّي كلّ التغيّرات الإيمانيّة والأخلاقيّة التي يُنتجها روح العصر. 
مثل هؤلاء لا يعترفون بوجود هرطقاتٍ وَبِدَعٍ ولا حتّى شياطين، ولا بكنيسة واحدة ولا حتّى بإله واحد. 

مَن يرى الحقيقة في كلّ مكان، حتّى خارج المسيحيّة، يكون أعمى حقيقيًّا مات فيه كلُّ الحقّ، وأصبح آنيةً زانيةً لِشَيطانِ الضلال. 
مثلُ هذا كيف يتوب؟ 

حين يموت فينا هذا الإحساسُ بالحقيقة الواحدة، يموت اللهُ نفسُه فينا.
التوبة تحتاج إلى تواضعٍ عظيمٍ حتّى يَعِيَ الإنسانُ خطيئتَه ويُعاينَ الحقَّ الإلهيّ. 

لهذا قال السلّميُّ إنّه لا يمكن أن يوجدَ تواضعٌ لدى الهراطقة. 
لأنّ كلَّ هرطقة، صغيرةً كانت أم كبيرة، أَتَتْ ثمرةَ كبرياء وتعظُّمٍ شيطانيّ. 

لهذا خَطَرُ الحركةِ المسكونيّةِ المعاصرةِ يَكمُنُ أوّلاً في أنّها تُثبِّتُ النفسَ البشريّةَ في كبريائِها وقناعاتِها، عِوَضَ حثِّها على التوبة والبحث عن الحقيقة. 
نعمةُ الحقِّ يُعطيها إلهُ الحقِّ للتائبين، الّذين يتخلَّون عن مشيئتِهم وأفكارِهم الخاصّةِ ويبحثون بصلاةٍ لا تملُّ عن الإيمان الحقّ. 

الكنيسةُ لا تَكذِبُ، يَكذِبُ الّذين يَسعَونَ إلى مزجِ الحقيقةِ مع الضلال، ويُبرِّرون مخالفاتِهم للإيمان. 
المتكبّرون لا يتوبون، مهما كانت أعمالُهم الأرضيّةُ ممدوحةً وإحساناتُهم عظيمة، لأنّهم يُعطُون مجدًا لِذاتِهم لا لله. 

أمّا المتواضعون فيتوبون لأنّهم يعرفون ذاتهم على حقيقتها، 
واستطاعوا أن يُسلّموا ذاتهم بالإيمان للمسيح من دون شروط. 

خطيئة الإنسان الكبرى، ليست في تعدّي وصيّة فقط، إنّما في كبريائه وعدمِ خُضوعِه للكنيسة ولكلِّ تعليمِ الحقّ.

ليس كلّ المتكبّرِين هراطقةً، لكنْ هل يمكن أن يكون كلُّ الهراطقةِ متكبّرين؟ 
المتواضعون لا يتركُهم الربُّ يَنمُون في الضلالِ ولا أن تكون نهايتُهم الموتَ الأبديّ. 
إنّما يضعُ أمامَهم كلَّ ما يَقودُهم إلى معرفة الحقّ والثبات فيه. 

كلُّ هرطقةٍ ظهرَتْ في التاريخ، وكلُّ تعليمٍ مُخالِفٍ لما تسلَّمَتْه الكنيسةُ الواحدة، ليسوا سوى إلغاءٍ للإله الحقيقيّ وتنصيبِ إله كاذب في مكانه. 
فأيّة شركة يمكن أن تكون للمسيح مع الآلهة الكاذبة، صنيع الشياطين.

حين سيأتي المسيح ثانية على الأرض سيجد العالم مملوءًا ممّا يُسمّى كنائس، لكنّها ستكون كنائسَ كاذبةَ الإسم، ملتويةَ الإيمان؛ لهذا يسألُ مسيحُنا، "هل سيجدُ الإيمانَ على الأرض"؟ (لو8:18). 

ذلك لأنّ إيمانًا مشوّهًا بالله ومنحرفًا ليس إيمانًا. 
إيمانًا خارج الكنيسة الواحدة الرسوليّة لا يمكنه أبدًا أن يكون إيمانًا يقود إلى معرفةٍ حيّةٍ للإله الحيّ الحقيقيّ.

لقد هجر الربُّ شعبَه في هذه الأيّام الأخيرة، إنّه يتخلّى عن شعبه، الّذي رعاه قبلاً وثبّته وكثّره أيضًا، في أقسى عصور الظلمة والاضطهادات وسيطرة عمّال الشيطان. 

ها أرضُنا تُصبحُ مُقفِرةً من المسيح ومُسَحائِه الحقيقيّين، الأرض التي سبَّحَتِ الربَّ ومسيحَه كلَّ هذا الزمان وتَقَدَّسَ تُرابُها، صارت أرضًا للإرتداد، والسبب واحد: 

تخلّي هذا الشعب عن إيمان أجداده وبساطة حياة التقوى. 
ظنّ أنّ استمرار وجوده في هذه الأرض قائم بتحالفاته مع آلهة الأمم الغريبة، وليس بثباته في الإيمان الحقّ. 
لقد أخطأ هذا الشعب أمام الله. 
إنّه يذوب تدريجيًّا في روح العالم والعولمة، ولا يُريد أن يتوب. 

أين هم الرؤساء الّذين يتوبون عن كلّ هذه المخالفات؟ 
يتوبون عن أنفسهم وعن شعبهم. 

أولئك الّذين يلبسون المُسُوحَ والأصوام ويكونون أمثلةً لِشَعبِهم في التوبة والقداسة واستقامةِ الإيمان؟ 
أصحابُ البِدَعِ، ذُريّةُ بَلعام، يتنبّأون لِشَعبِنا، ويُغرّقونهم أكثرَ في الضلالاتِ الآتية، ورؤساءُ هذا الشعب يصمتون. 

"وليس من يدعو باسمِك أو ينتَبِه لِيتمسّك بكَ، لأَنّك حجبتَ وجهَكَ عنّا، وأَذَبْتَنا بسبب آثامنا... لا تَسخَطْ كُلَّ السُّخطِ يا ربّ، ولا تَذكُرِ الإثمَ إلى الأبد. ها انظر، شعبك كلّنا. 

مُدُنُ قُدسِكَ صارت بريّة، صهيونُ صارت بريّة وأورشليمُ مُوحشة. 
بيتُ قُدْسِنا وجَمالِنا حيث سبَّحَكَ آباؤنا قد صار حريقُ نارٍ وكلُّ مشتهَياتِنا صارت خرابًا. 
أَلِأَجلِ هذه تتجلّدُ يا ربّ، أَتَسكُتُ وَتُذِلُّنا كُلَّ الذلّ" (أش7:64، 9-12).
"ارجِعوا إلَيَّ، يقول ربّ الجنود، فأرجِعَ إليكم" (زخريّا 3:1)، (ملاخي 7:3). 

التوبة الحقيقيّة القادرة أن تذرف دموعًا على خطاياها، هي دائمًا علامة ثبات لا يتزعزع في الإيمان الحقّ؛ وحدها قادرة أن تجعلنا ذريّة مباركة يُكثّرها الله.