دير القديس يعقوب الفارسي المقطع - دده
رئيسة الدير: الأم ففرونيّا
 
عدد الراهبات: الدير29
 
كاهن الدير: الأب جورج اسبر
 
تقطنه مجموعة من الراهبات وهو محجّ للتأمل والصلاة والعمل فيه. يوجد مشاغل لرسم الايقونات والخياطة والتطريز وكل ما يتعلق بتجهيزات الكنائس
 
وقد أضيف إلى البناء جناحان كبيران لاستقبال الزوار وطالبات الرياضة الروحية
 
هاتف: 405176/ 06
 

حول تاريخ الدير والرهبنة

هو أحد الأديرة التابعة لأبرشيّة طرابلس والكورة وتوابعهما في لبنان. يحتلّ الطرف الشماليّ من قرية ددّه في منطقة الكورة. وهو موقع استراتيجيّ على هضبة ارتفاعها مائتان وثلاثون متراً تشرف على بلدة القلمون الساحليّة. 
يقع على بعد سبعة كيلومترات من مدينة طرابلس، واثنين وثمانين كيلومتراً من بيروت. يقدَّر عمر الدير بأكثر من ثمانمائة سنة. تؤكّد التحقيقات التاريخيّة أنّ البناء لم يُشَد
كلّه في عهد واحد، وهذا ما تشهد به حيطان البناء، القناطر المعقودة، السقف المعقود، سماكة الجدران
 
لا يوجد في الدير مستندات أو وثائق أو مخطوطات يمكن من خلالها تأريخ زمن نشوء الدير بشكل دقيق بسبب تعرّض الدير مرّات عديدة للحرائق ممّا أتلف الكثير من الإيقونات والكتب والمخطوطات التي كان من الممكن
 أن تؤرّخ زمن تأسيسه. وممّا زاد من غموض هذا التأريخ هو احتراق دار المطرانيّة كلّيّاً في طرابلس أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة. ووفق ما جاء حوالي العام 1600 
لدى الرحّالة الروسيّ بارسكي كانت مباني الدير تتحلّق حول الكنيسة وتضمّ اثنتي عشرة صومعة وقاعة طعام ومضافة للمسافرين وغيرها من الأبنية
 
في العام 1620 كان يعيش في الدير رئيسه زكريّا القبرصيّ الذي عيّنه البطريرك إغناطيوس الثالث (1619 – 1634) ومعه خمسة رهبان أو ستّة. كما أورد مؤرّخ الكرسيّ الإنطاكيّ الدكتور أسد رستم في كتابه "كنيسة مدينة الله إنطاكية العظمى" (الجزء الثالث. صفحة 50)، أنّه خلال جولة البطريرك مكاريوس الزعيم صيف 1648 جرى ما يلي: "وفي العشرين من الشهر نفسه قام إلى دير القدّيس يعقوب المقطّع، وقدّس في عيد دخول السيّدة إلى الهيكل"
 
وقد وجدت رسالة رفعها مطران طرابلس صفرونيوس إلى بطريرك أنطاكية في29 نيسان من العام 1864 تفيد بأنّ الدير كان يسكنه رهبان في تلك الآونة أيضاً، وأنّ العسكر
قد طلع إلى الدير وهجم على الرهبان بغية الحصول على ما هو قيّم، ولمّا رفض الرئيس تسليم ما قد ائتمنه عليه الله جرى ضربه ضرباً مبرّحاً كان من نتيجته أن فقد بصره وإحدى يديه
وممّا يؤكّد هذا القول أنّه عندما أتت الراهبات إلى الدير في العام 1956 أخبرهنّ أحد الأشخاص الذين عملوا في مزرعة الدير قصّة الدير التي تلقّاها عن والده والتي تفيد بأنّ رهباناً كانوا يقيمون فيه وأن رئيسهم كان أعمى
يوجد في الدير كتاب المواعظ الشريفة لأبينا الجليل في القدّيسين أثناسيوس بطريرك أورشليم المطبوع في حلب. على هامش الكتاب يوجد النصّ   التالي الذي يرجع  في تاريخه إلى أوّل شهر آب 1712م
" المجد لله دائماً، كيرلس برحمة الله تعالى البطريرك الأنطاكي وسائر المشرق هذه المواعظ الشريفة مواعظ القديس أثاناسيوس الكبير فهي (وقفاً مؤبداً وحبساً مخلّداً) على دير القديس المعظم مار يعقوب المقطّع خارج مدينة طرابلس". ممّا يدل على أنّ الدير كان عامراً في تلك الآونة. للقدّيس يعقوب إكرام مميّز في الشرق إذ تكثر الكنائس على اسمه هنا وثمّة في لبنان والعراق وسوريا .... منها الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة والمارونيّة.
 
من رسم ميخائيل مهنا القدسي العام 1884. إيقونة مار ميخائيل من رسم ميلاد الشايب عام 1939، أمّا إيقونة مار يعقوب فرسم ميخائيل بوليخرونيوس اليونانيّ الأصل والذي بقي في طرابلس بين العامين1816-1825 وقد رسم إيقونات كنيسة القدّيس نيقولاوس فيها. في الكنيسة إيقونات صغيرة الحجم (23×30 تقريباً) وهي تغطي سائر أيّام السنة الطقسيّة. راسمها مجهول الاسم، ويرجّح أن يكون يونانيّ الأصل. يحكى أنّ شخصاً ما مبتلى بمرض السرطان ومولوداً في ميناء طرابلس قد زار الدير
 
عندما شعر بدنو أجله. وقد طلب من القدّيس يعقوب أن يمنّ عليه بالشفاء ناذراً تقديم 365 إيقونة تمثّل الأعياد السيديّة وأعياد القدّيسين في حال تمّ مرامه. وهكذا كان، لكن بسبب الحروب التي توالت على الدير والتي عرّضته للنهب والسرقة تناقص عددها حتى أصبحت 94 إيقونة منتثرة على جدران الكنيسة. في الكنيسة أيضاً إيقونات جديدة من رسم الراهبات.
 

بقايا القديس يعقوب

في العام 1966،  وتحديداً صباح عيد القدّيس يعقوب استقبل الدير ذخائر شفيعه في موكب مهيب يحملها قدس الأرشمندريت جورج شلهوب. كانت الراهبات قد حجّت إلى أورشليم سنة 1964 حيث سجدن لبقايا مار يعقوب الموجودة هناك. فطلبن من المثلّث الرحمات البطريرك الأنطاكيّ ثيودوسيوس أبو رجيلي أن يستميح بعضاً منها من نظيره الأوروشليميّ بنيدكتوس. وقد تمّ لهنّ ما أردن.
  
كلّ من يدخل الكنيسة يستطيع أن يتبارك من الذخائر الموجودة أمام الإيقونسطاس قرب إيقونة القدّيس.
  
إنّ عالم الآثار ليفون نورديجنيان Levon Nordignian يقول إنّ كنيسة مار ميخائيل هي من القرون الوسطى، وإنّ كنيسة مار يعقوب الأصليّة ليست هي الموجودة الآن، فهذه كبيرة بالنسبة لدير صغير. 
 
أمّا كنيسة مار ميخائيل، فيقال إنّها أقدم من كنيسة مار يعقوب وهي ملاصقة لها. جُدّدت على أنقاض كنيسة يُعتقد أنّها كانت في المكان نفسه وإنّما أكبر حجماً وتحمل اسم الشفيع نفسه
 
الآباء في عرف الكنيسة هم إنجيل حيّ لأنّهم اغتصبوا ذواتهم لحفظ وصايا الربّ، وقد نقلوا خبراتهم العمليّة لنا في كتابات تنسجم انسجاماً تامّاً مع الكتاب المقدّس. لذا اهتمّت الراهبات باقتناء الكتب الروحيّة، وقد أنشئن مكتبة منذ استقرارهنّ في الدير أخذت تنمو شيئاً فشيئاً. وهي تحوي كتباً لاهوتيّة، روحيّة، عقائديّة، كتب آباء، سير، أدب، أديان، فلسفة، قواعد، اجتماعيّات، بالإضافة إلى مجلّدات مختلفة النشرات والقواميس باللغات العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة واليونانيّة 
 
 

أعمال الراهبات

للعمل في الحياة الرهبانيّة أهميّته الحيويّة، إذ بالعمل المقترن بترداد صلاة يسوع يُضبط الفكر عن تجواله وعن الانشغال بالأفكار الشرّيرة. وبالعمل أيضاً يؤمّن الراهب معيشته، ويستطيع أن يساعد إخوة يسوع المحتاجين. لذا تحرص الراهبات على ممارسة أعمال يدويّة من رسم وتطريز وخياطة كنسيّة، بالإضافة إلى لصق الإيقونات وبعض الأعمال الفنيّة الأخرى. كما تقوم الراهبات بنشاط فكريّ يشمل الترجمة وتنسيق وجمع لأقوال وسير الآباء.
 
في بدايات الرهبنة استلمت الأخوات ميتم الميناء مدّة 18 سنة، ولكن رغم نجاحهنّ الملحوظ مع الفتيات اعتذرن عن الاستمرار، لأنّ الانهماك بالمسؤوليّات، مهما كانت مقدّسة، تبعد الراهب عن  غايته الأساسيّة التي هي تقديس نفسه بالصلاة والصوم وقراءة الإنجيل المقدّس واقتناء الفضائل. يسعى الراهب لتقديس حياته لا لأجله فقط، بل لأجل الإخوة أيضاً على غرار المعلّم الذي قال: "من أجلهم أقدِّس ذاتي
 

مشاغل الرسم والتطريز والأعمال الحرفيّة

بعد سنتين من انتقال الأخوات من دير الحرف إلى دير مار يعقوب أي في العالم 1958 بدأن بالتعليم الدينيّ في مدراس المنطقة الحكوميّة ثمّ في مدرستيّ الإصلاح الأرثوذكسيّة والبلمند. وقد تابعن هذا العمل مدّة 42 سنة أي لغاية السنة 2000
 
 

أبنية الدير

يمتاز دير مار يعقوب بأنّه بُني على مراحل امتدّت حتى إلى قرون عدّة. وهذه ميزة ما زال يتمتّع بها إلى الآن، إذ مذ سكنت الراهبات الدير لم تمرّ عليهنّ سنة إلاّ أجرين فيها العديد من التصليح والترميم... فبالإضافة إلى الدير القديم هناك بناءان آخران حديثان. إذن الدير وإن كان واحداً فإنّه مؤلّف من ثلاث مبان:
* مبنى مار يعقوب وهو المبنى القديم الذي استظلّت تحت سقفه الراهبات سنة 1956. وهو عبارة عن عدّة غرف استقبال استُعملت في بعض الأوقات كزرائب للحيوانات، وكنيستين الواحدة تحمل شفاعة حامي الدير القدّيس يعقوب، والثانية شفاعة العظيم في رؤساء الملائكة ميخائيل.
  
*مبنى السامريّة وقد دعي كذلك تيمّناً بالمرأة السامريّة التي التقاها الربّ يسوع عند البئر، وذلك لوجود بئر في باحة المبنى. في العام 1986 تمّ تدشين البناء وهو مؤلّف من ثلاث طبقات: السفليّ ويضم مكتبة الدير. الأرضيّ ويضمّ مطبخاً كبيراً مع غرفة الطعام بالإضافة إلى قاعة فسيحة مع مطبخها لاستقبال زوار الدير. والأوّل وهو جناح خاصّ بقلالي الراهبات.

*مبنى الناصرة وقد تمّ تدشينه في العام 2001 وهو عبارة عن مبنى ضخم مؤلّف من أربعة طبقات:
 1 – طابق قلالي الراهبات مع كنيسة صغيرة
2 – طابق خاصّ بالضيوف مع جناح خاصّ بالراهبات المرضى وصيدليّة وصالون صغير وقاعة لاجتماع الراهبات.
3 – مشغل الدير بأقسامه الرسم والخياطة والتطريز والفنون.
4 – الطابق الأرضيّ ويضمّ غرف الصيانة والغسيل ولصق الإيقونات مع جناح خاصّ لصنع القربان والمنتوجات الحيوانيّة.
 

صالون العذراء

 

المقبرة

    بمحاذاة كنيسة مار يعقوب تستريح أجساد لا عدّ لها بانتظار القيامة العامة لتستوطن أورشليم السماويّة إلى الأبد حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهّد بل حياة أبديّة التي هي المسيح نفسه. لقد درج سكّان طرابلس وبعض القرى المجاورة على دفن موتاهم في مقبرة الدير طمعاً بصلوات تُرفع من أجلهم فتساهم في خلاصهم. لا تزال المدافن قائمة حتى الآن. كما أنّ هناك مدفن خاصّ بالراهبات كائن تحت هيكل كنيسة مار يعقوب.
 

الخدم الكنسية في الدير

يُستهلّ اليوم الكنسيّ بصلاة نصف الليل الساعة الخامسة صباحاً تليها صلاة السحر والساعة الأولى.
كما يُختم الساعة الرابعة والنصف مساءً بصلاة الساعة التاسعة تليها صلاة الغروب والنوم مع أبيات مديح العذراء. 
 
+خدمة القدّاس الإلهي: تقام ثلاث مرّات في الأسبوع على أقلِّ تقدير. ففي يوميّ الثلاثاء والسبت تقام الخدمة الساعة الخامسة صباحاً، وهي تُستهلّ بصلاة السحر يليها القدّاس الإلهي. أمّا يوم الأحد فتبدأ الخدمة الساعة الثامنة صباحاً بصلاة السحر يليها القدّاس الإلهي.
+ براكليسي القدّيس يعقوب: تقام كلّ يوم جمعة بعد صلاة السحر حوالي السادسة صباحاً.
 + مديح العذراء الشافية من السرطان: تقام كلّ يوم جمعة بعد صلاة الغروب والنوم حوالي الخامسة والثلث مساءً.
+ صلاة تقديس المياه: في القدّاس الأوّل من كلّ شهر تتمّ خدمة تقديس المياه، فيتناول الحاضرون منها لتقديس النفوس وشفاء الأجساد، ثمّ تُرشُّ كلّ أنحاء الدير بالماء للتبرّك والتقديس.
 

الضيافة

في الدير جناح خاصّ بالضيافة. تستقبل الراهبات فيه الراغبات بالخلوة الروحيّة، فيتبعن برنامجنا اليوميّ بشكل يتناسب مع قدراتهنّ ومزاجهنّ. تحرص الأخوات على تنويع البرنامج للضيوف: فبعد عمل يدويّ لطيف ينتقلن إلى صلاة يسوع، فيؤدّين قانوناً مخفّفاً يساعدهنّ على الصلاة من أجل أنفسهنّ والآخرين معاً. من ثم يستمعن إلى عظات مسجّلة تشمل النواحي الروحيّة والإيمانيّة والاجتماعيّة في حياة المؤمن. كما أنهنّ يشاركن الأخوات في المائدة فيستمعن إلى القراءات التي تقارن الوجبات فيجتنين الغذاء الروحيّ إلى جانب الجسديّ.
يتمّ قبول الضيوف بناء على موعد مسبق.
  

 تاريخ الرهبنة الحاليّة

إنّه ربيع 1942. و قد جاء الربيع هذه السنة مختلفاً إذ لم ينحصر في إطار الطبيعة وحسب، بل قد أزهر في الكنيسة الأنطاكيّة التي كانت قد التحفت بالشتاء وركدت بانتظار هبوب الروح. هبَّ الروح قويّاً، وهبّت معه همم شبيبةٍ كرّست كلّ خلجة من خلجاتها للربّ القدّوس. فكان من الطبيعيّ أن يبرز موضوع التكريس الرهبانيّ على الساحة كبكر لتلك الحركة الروحيّة.
 
بدأ التحرّك على محور اللاذقيّة – طرابلس. فاجتمع بعض من الفتيات والشباب وقرّروا العودة إلى الجذور، إلى جذور الرهبنة حيث يقدّس الراهب نفسه بالاعتكاف لا لأجل نفسه فقط بل لأجل إخوته أيضاً. إذ لنا في قداسة القدّيسين النصيب الأكبر لأنّها تستنزل علينا رحمات الله وبركاته. 
 
انتصبت العوائق متحدّيةً. لم تكن الكتب الروحيّة متوفّرة بين أيديهنّ، فكيف يتعرفّن على الرهبنة؟ لم يألُ الأخ اسبيرو جبور جهداً في تأمين كتب باللغة الفرنسيّة مع مقالات يترجمها بنفسه. ولكن بقيت المصادر غير كافية. 
 
كيف يقنعون أهلاً لم يعرفوا في الرهبنة سوى ملجئٍ للبؤساء الذين لا بيوت لهم، أو للمصابين بإعاقة ما؟ كيف يفرّطون بهنّ بعد أن علّموهنّ وبذلوا الغالي والرخيص في سبيلهنّ؟ استغرق الأمر سبع سنوات. ولكنّهنّ اضطررن أن يهربن في النهاية كمن ارتكب عيباً شائناً. 
 
في العام 1953 وتحديداً في الرابع من تمّوز بعد أن أقفلت الكلّيّة الأرثوذكسيّة أبوابها حيث كنّ يدرّسن، انطلقت الفتيات برفقة الأخ يوحنّا -المطران جورج خضر حاليّاً- من أرضهنّ كإبراهيم جديد. ولكن أين المبيت؟ إنّها شقّة استؤجرت لهنّ في فرن الشباك ريثما يحصلن على رضا أحد المطارنة فيأويهنّ في دير. وهنا عادت الكرّة إلى حضن الشيطان من جديد، إذ ألّب عليهنّ من كانوا رعاة الكنيسة. أمضين سنة في فرن الشبّاك دون أن يعرفن من الرهبنة سوى ذلك الحبّ المشتعل الذي أخرجهنّ من أرضهنّ وعشيرتهنّ وحتى من أنفسهنّ، فكنّ يرددن اسم الحبيب على الدوام. في صيف تلك السنة حاول الشيطان القضاء على هذه النبتة الغضّة، فأصيبت الأمّ سلام رئيستهنّ، آنذاك، بحادث كاد أن يودي بحياتها، لكنّ مريم مربّية العذارى الصالحة احتضنت بناتها وشفت لهنّ أمهنّ. ومن الطريف أن نورد هنا هذه الحادثة: لم تكن المناولة المتواترة ممارَسة على صعيد الكنيسة قبل بزوغ الحركة. فكان الكاهن يخرج بالكأس ليعود بها بكراً لم تمسّ. تقدّمت الفتيات من المناولة في إحدى كنائس بيروت، فلم يجد الكاهن بدّاً من تقريبهنّ. عادت الفتيات في الأحد التالي وتقدّمن مجدّداً فاضطرّ الكاهن من جديد إلى مناولتهنّ. ولمّا تقدّمن في الأحد الثالث هرع الكاهن إلى عصاً استعان بها عليهنّ مهدّداً ومرعداً. 
 

رئيسة الدير الأولى - الأم سلام

في السنة 1954 سمح لهنّ المطران إيليا كرم بالسكنى في دير القدّيس جاورجيوس الحرف. ولكن هنا أيضاً حاربهنّ الشيطان بقسوة وعلى عدّة أصعدة. فكان ساكن الدير قبلهنّ يضيّق عليهنّ بالمكان والماء... ورغم ذلك لم يستسلمن، بل ارتضين أن يحملن جرارهنّ ويصعدن بها من العين أسفل إلى الدير. استقدم الإخوة لهنّ راهبة روسيّة من فرنسا علّها تعلّمهنّ الرهبنة، فانتهى بها المطاف بأن نصحتهنّ بالعودة إلى بيوتهنّ. بلغ بهنّ ضيق ذات اليد أشدّه فكان الإخوة المساندون لهنّ مع حفظ الألقاب جورج خضر، يوحنا منصور، ألبير لحّام، بولس اسعيد، إدوار حنا -الأب نقولا في ما بعد- يستعطون من الأحبّة للصرف عليهنّ.
 
بلغ الأمر مسمع مطران طرابلس المثلّث الرحمات ثيودوسيوس أبو رجيلي، فارتضى بأن يستقبلهنّ في دير مار يعقوب. تمّت الإصلاحات الضروريّة بهمّة الأرشمندريت جورج شلهوب ليصبح الدير مكاناً قابلاً للسكن. وفي التاسع من آذار من العام 1956، في عيد الأربعين شهيداً وصلت الأخوات متهلّلات إلى بيت الربّ.
 
العمل هنا في الدير كثير وشاقّ. فالبناء الحجريّ بحاجة إلى ترميم وإصلاح وزيادة.... والبناء الروحيّ بحاجة إلى إرساء قواعد له راسخة. ولكنّ العمل على البناء الروحيّ بحاجة إلى خبرة جزيلة وأنّى لهنّ هذا؟ 
 
لجأت الأخوات في هذا الإطار إلى الاستفادة من خبرات الإخوة في الرهبنات الأخرى، فزرن العديد منهنّ في العالم الغربي (سويسرا، فرنسا، وروما) ومن ثمّ في العالم الأرثوذكسيّ، فزرن رومانيا وروسيا واليونان. وقد تميّزت الأمّ سلام بكونها مثل النحلة التي تجمع الرحيق، فكانت تقتبس ما تراه يلائم الأخوات في مسراهنّ الروحيّ، دون أن يصبح الدير صورة طبق الأصل عن دير آخر.  وما كانت تأنف من تصحيح ما يتّضح لها خطأً خصوصاً وأنّ الراهب يختبر كلّ يوم شيئاً جديداً في الحياة الروحيّة فيعتنقه. وعلى سبيل المثال لا الحصر لمّا وجدن أنفسهنّ في لباسهنّ الغربيّ المنحى متغرّبات عن التراث الأرثوذكسيّ، أسرعن إلى العودة إلى تقليد الكنيسة الأمّ لأنّه وإن "كان اللبوس لا يصنع القسوس" كما يقول المثل، إلاّ أنّ شجرة دون أوراق مهما شهى ثمرها فهو عرضة للضرر ما لم يكن لها أوراق تستره وتحميه.  
 
عملت الأخوات في ميتم الميناء في طرابلس منذ قدومهنّ إلى الأبرشيّة ولمدّة 18 سنة، وقد حقّقن بنعمة الله نجاحاً ملحوظاً في خدمتهنّ هذه. بيد أنّ هدف الراهب من توحّده ليس الخدمة بل الاتّحاد بالله والصلاة عن الآخرين وعن نفسه لنيل الخلاص وسكنى الملكوت، لذا لم يستمررن في هذه الخدمة.
 
كما أنّ فقر المنطقة الملحوظ بالتعليم الدينيّ دفع الراهبات إلى تأمين هذه الدروس مجّاناً في مدارس الدولة، ومن ثمّ في مدرستي البلمند والإصلاح (ليسه القدّيس بطرس حالياً). وقد بدأن به في العام 1968وتوقفن عنه في العام 2000. 
 
عواصف عديدة هاجت على سفينتهنّ، لكن من طيّع البحر والريح كان ينقلهنّ دوماً إلى برّ الأمان. في الحرب الأهليّة اللبنانيّة لم يكن نصيب الأخوات أفضل حالاً من مواطنيهنّ، ونظراً لمركز الدير الاستراتجيّ المهمّ، اضطررن لهجره، فصار قاعدة لحاملي السلاح. لم يجدن من يؤيهنّ رغم طرقهنّ أبواباً عديدة، فلجأن إلى بيوت الأهل في اللاذقيّة. هنا شعرت الأمّ سلام بخطر تشرذم الشركة، فاتّصلن بالأب المثلّث الرحمات اسحق عطالله الذي كان في سالونيك، فسعى لدى مطران المدينة المثلّث الرحمات بندليمون ليؤمّن لهنّ مكاناً يجمعهنّ. أبدى سيادة المطران أبوّة تجاههنّ قلّ أن تجد نظيرها. فاستقبلهنّ في دير الرقاد في منطقة بانوراما حيث كانت تعيش شركة رهبانيّة نسائيّة برعاية الأمّ ثيودورة. أن تحلّ شركتان لا تجمعهنّ لغة واحدة، ولا تقاليد واحدة في مكان واحد، وأن يعشن بانسجام كلّيّ، كان عجباً غريباً. والفضل، في الحقيقة، يعود إلى حكمة الأمّ سلام في تدبيرها الأمور، والى محبّة الأمّ ثيودورة الفيّاضة التي جعلت الأخوات المهجَّرات يشعرن وكأنّهنّ في ديرهنّ الخاصّ. أمضت الأخوات ما يقرب من ستّة أشهر في اليونان عدن بعدها إلى وطنهنّ وألم الفراق يعصر القلوب. طلب إليهنّ المطران بندليمون أن يلبثن عنده في دير خاصّ بهنّ. فشكرن له محبّته وأصررن على العودة إلى حيث يريدهنّ الله أن يكنّ. عدن إلى الدير فوجدنه خالي الوفاض. أقمن في مدرسة البلمند حتى أصبح  الدير جاهزاً للسكن. انتهت معركة ولم تنته الحرب واستمر الخطر قائماً. عانى الدير خلال عدّة معارك ألمّت بالمنطقة تمرّكز خلالها المسلّحون حول الدير ومرّة داخل الدير. لكنّ الأخوات أبين أن يغادرن سماءهنّ الأرضيّة مرّة أخرى وفضّلن الموت على الهرب. 
 
حفظ المسيح قطيعه بنعمته مصاناً. فالتفتت الراهبات إلى ساحات معارك أخرى، معارك داخليّة يشنّ فيها المرء حرباً ضدّ أهوائه متسلِّحاً بسيف الإيمان. سعت الراهبات إلى النهوض بحياتهنّ الروحيّة كما بالبناء الخارجيّ، فأضفن العديد من الأبنية من بينها المشغل حيث تمارسن العمل اليدويّ (من خياطة وتطريز ورسم)، هذا العمل الذي يتقدّس بترداد صلاة يسوع. تستمرّ الحياة في الدير بين صلاة وعمل، نهوض وسقوط، وتوبة ورجوع إلى أن تصير الراهبة إلى ملء قامة المسيح. 
 
في العام 2008 وبعد مرض ألمّ بالأمّ سلام أقعدها عن القيام بمهامّ الرئاسة والإرشاد، واستناداً إلى قانون الدير الداخليّ، اختارت الراهبات الأمّ فيڤرونيا رئيسة جديدة لتتابع المسيرة الجهاديّة مرشدة قطيع المسيح الصغير إلى مناهل الخلاص.