الأحد 4 كانون الأول 2022

الأحد 4 كانون الأول 2022

30 تشرين الثاني 2022

الأحد 4 كانون الأول 2022
العدد 49
الأحد 25 بعد العنصرة
اللحن الثامن، الإيوثينا الثالثة


أعياد الأسبوع: 

4:الشَّهيدة بربارة، البارّ يوحنّا الدّمشقيّ، 5: سابا المتقدّس المتوشّح بالله، الشَّهيد أنستاسيوس، 6: نيقولاوس العجائبيّ أسقُف ميراليكيَّة، 7: أمبروسيوس أسقُف ميلان، عمَّون أسقُف نيطريّا، 8: البارّ بتابيوس المصريّ، 9: حبل القدّيسة حنَّة جدّة الإله، تذكار التجديدات، حنّة أمّ صموئيل النَّبي، 10: مينا الرَّخيم الصوت، أرموجانُس وأفغرافُس.

هل الصوم لشفاء النفس فقط ؟

ها نحن في وسط ميدان الصوم الميلاديّ، نعاين اليوم جهاد القدّيسة العظيمة في الشهيدات بربارة والقدّيس البارّ يوحنّا الدمشقيّ، اللذَين قاوَما الحكّام الطغاة في سبيل كلمة الحقّ. 

هذه الصُّوَرُ تُذكِّرُنا أيضا بجهادات شعب الله في العهد القديم، الذي جال أربعين سنة في البريّة، حتّى وصل أخيرا أرض الميعاد. 

الصوم هو بَرِّيَّةٌ تَقودُنا فيها الكنيسةُ أربعينَ يومًا، لِتُهِيِّئَنا لمعاينة ظهور الإله بالجسد. 

إنَّ غُربةَ اليهود في البَرِّيَّةِ كان هدفها الخلاص من عبوديّة الجسد، الفكر والروح. 

هذا الجيل الكامل من اليهود الذين وُلِدُوا وترعرعوا في عبوديَّة مصر تاهوا في البَرِّيَّة ولم يَدخلوا هم أنفسهم أرض الميعاد وإنَّما دخل بَنُوهم الذين وُلِدُوا جِيلًا جديدًا حُرًّا لم يعاينوا العبوديَّةَ ولم يكونوا عبيدًا، فاستحقّوا دخول الأرض التي"تفيض لبنًا و عسلًا" (خروج 8:3). 

هذا أيضا ما يحصل الآن معنا نحن إسرائيل الجديد، فعلينا التخلّص من رباطات عبوديَّة الخطيئة والشهوات الجسديّة، الفكريّة والروحيّة، فنصير بالكليّة للمسيح من خلال حفظنا وصاياه (يوحنا 14:15).

لماذا نصوم عن الطعام؟ 

بحسب الترتيب الذي أعطاه الله، يجب أن تجذبنا روحنا إليه، وأن تجد نفوسنا مصدر إلهامها في اتّجاه الروح، فعلى الجسد أن يغتذي بحسب مشيئة الآب (يوحنا 34:4) (متى 4:4). 

نصوم عن الطعام لأننا مخلَّصون بالكلّيّة، لم يأت المسيح لخلاص النفوس فقط ولكن لخلاصنا بالكلّيّة، نفسيًّا، جسديًّا، ذهنيًّا، روحيًّا وإراديًّا ... 

أخذ المسيح طبيعتنا البشريّة بِكُلِّيَّتِها ليشفي إنسانَنا كلَّه.
الخطيئة تُفسد هذا الترتيب الإلهيّ فيغتذي جسدُنا حينئذٍ على هذا العالم ويصبح عبدًا للطعام، وتجد روحُنا الإلهامَ في أشياء الجسد ولا تعود تتوقُ إلى الله، بل تجد اتّجاهها في أهواء الجسد.

تمنحنا الكنيسة أوقات صوم، من أجل المساعدة في الشفاء واستعادة طبيعتنا من الفساد. 

فالرياضيّ لا يربح الجائزة قبل ممارسة الاِنضباط بصبر "وضبط النفس في كلِّ شيء" (1 كورنثوس 25:9) و إذا أردنا الحصول على "إكليل لا يفنى" (المرجع السابق)، يجب أن نفعل الشيء نفسه و أن نبدأ بالسيطرة على ما هو أكثر ماديّة فينا و استعادة الترتيب الإلهيّ والوصول إلى ما هو أكثر روحيّة. 

إذا لم نتمكن من التحكّم في بطوننا، فكيف نأمل في التحكّم بألسنتنا و أفكارنا؟ 

كيف يمكننا أن نأمل في البدء في محاربة أهوائنا؟ 

يجب أن نتعلم تأديب أجسادنا، لأنّه بدون هذا الأساس لا يمكننا البدء في بناء جدران هيكل أرواحنا. 

كما أنّ الغرض من إنشاء أساس للبناء ليس في حدّ ذاته شيئًا، إن لم يكن الهدف منه إنشاء المبنى عليه. 

كذلك هو الغرض من السيطرة على جسدنا، هو تحرير النفس من السيطرة عليها.

الصوم تُلازِمُه الصلاة، وَكُنْ حَذِرًا من أن تكونَ صَلاتُكَ "نحاس يطنّ أو صنج يرنّ" (1 كورنثوس 13:1) انتبه جيِّدًا لكلمات الصلاة، لا تجعلها مجرَّد كلمات مردَّدة و لكن، اجعلها كلماتك الخاصَّة التي تأتي "من كلّ قلبك، من كلّ نفسك و من كلّ فكرك" (متى 37:22) 

الصوم يعني قراءة الإنجيل المقدّس، فلكي تصبح كلماته فاعلة فينا، لا تقرأه كعمل روتينيّ يُنسى معناه بعد إغلاق الكتاب. أطلب من والدة الإله الكليّة القداسة، مساعدتك في حفظ الآيات التي تقرأها و تأمّلها في قلبك، بينما تمضي في يومك (لوقا 19:2 و51). لا تنسَ قراءةَ سِيَرِ القدّيسين، وتأكَّدْ مِن جَعلِ حياتِكَ تسيرُ على خُطى الرجال والنساء القدّيسين الذين سَبَقُوك. 

نحن لا نقرأ سِيَرَ القدّيسين لِقِيمتِها الأدبيّة أو للتسليّة، إنَّهم مثالٌ حَيٌّ لِما يَعنيه أن تكون مسيحيًّا و أن تُحِبَّ الله وأن نحبّ بعضنا بعضا. 

لا تنسَ الاِشتراكَ في جسد ودمِ ربِّنا، وَافعَلْ ذلك بِتَواضُعٍ وتوبة، لئلّا يَدخُلَ إليك الشيطانُ كما فعل مع يهوذا (يوحنا 27:13).

لِيُبارِكْ إلهُنا الرحيمُ صومَنا هذا، وَلْيتقبَّلْ جهادَنا المتواضعَ وصلواتِنا بواسطةِ نعمتِه الإلهيّةِ التي "للضعفاء تشفي ولِلناقصين تُكمِّل" وَيُرشِدْ حياتَنا نحو وصاياه، لكي مع جوق الملائكة و جماعة الشهداء، نمجّد الثالوث الكليّ قدسه.

طروباريّة القيامة باللحن الثامن

إنحدَرْتَ من العلوِّ يا متحنِّن، وقبلْتَ الدفنَ ذا الثلاثةِ الأيّام لكي تُعتقنا من الآلام. فيا حياتنا وقيامَتنا، يا ربّ المجد لك.

طروباريّة القدّيسة العظيمة في الشهيدات بربارة باللحن الثامن

لنكرّمنَّ القديسة بربارة الكلّيّة الوقار، لأنّها حطمت فخاخ العدوّ ونجّتْ منا كالعصفور، بمعونة الصليب وسلاحه.

طروباريّة القدّيس يوحنّا الدمشقيّ باللحن الثالث

هلموا نمتدح البلبل الغرّيد الشجيّ النغم، الذي أطرب كنيسةَ المسيح وأبهجها بأناشيده الحسنةِ الإيقاع الطليّة، أعني به يوحنّا الدمشقيّ الكلّيّ الحكمة، زعيم ناظمي التسابيح الذي كان مملوءاً حكمةً إلهيّة وعالميّة.

قنداق تقدمة الميلاد باللحن الثالث

اليوم العذراء تأتي إلى المغارة لتلد الكلمة الذي قبل الدهور ولادةً لا تُفسَّر ولا يُنطَق بها. فافرحي أيّتها المسكونة إذا سمعت، ومجِّدي مع الملائكة والرعاة الذي سيظهَرُ بمشيئته طفلاً جديداً، الإله الذي قبل الدهور.

الرسالة:
غلا 3: 23-29، 4: 1-5
عجيبٌ هو الله في قدّيسيِه
في المجامع باركوا الله


يا إخوةُ قبلَ أن يأتيَ الإيمانُ كنَّا محفوظين تحتَ الناموسِ مُغلقًا علينا إلى الإيمان الذي كانَ مزمعًا إعلانُهُ، فالناموسُ إذَنْ كانَ مؤدِّبًا لنا يُرشِدُنا إلى المسيحَ لكي نُبرَّرَ بالإيمان. فبعدَ أن جاءَ الإيمانُ لسنا بعدُ تحتَ مؤدِبٍ. لأنَّ جميعَكم أبناءُ اللهِ بالإيمان بالمسيحِ يسوع. لأنَّكم أنتمُ كُلَّكم الذينَ اعتمدتُم في المسيحِ قد لَبستُمُ المسيح. ليسَ يهوديُّ ولا يونانيٌّ. ليسَ عبدٌ ولا حُرٌّ. ليسَ ذكرٌ ولا أُنثى. لأنَّكم جميعَكم واحدٌ في المسيح يسوع، فإذا كنتُم للمسيح فأنتم اذَنْ نسلُ إبراهيمَ ووَرَثةٌ بحسَبِ الموعِد. وأقولُ إنَّ الوارثَ ما دامَ طِفلاً فلا فرقَ بينَهُ وبين العبدِ مَعَ كونِهِ مالكَ الجميع، لكَّنهُ تحتَ أيدي الأوصياءِ والوكلاءِ إلى الوقتِ الذي أجَّلَهُ الأب. هكذا نحنُ أيضًا حينَ كُنَّا أطفالاً كنَّا متعبِدين تحتَ أركان العالم، فلمَّا حانَ مِلءُ الزمانِ أرسَلَ الله ابنَهُ مولوداً من إمرأةٍ، مولوداً تحتَ الناموس، ليفتدي الذين تحتَ الناموس، لننالَ التبنّي.

الإنجيل
لو 13: 10-17 (لوقا 10)


في ذلك الزمان، كان يسوع يعلّم في أحد المجامع يومَ السبت، وإذا بامرأةٍ بها روحُ مرضٍ منذ ثماني عَشْرَةَ سنةً، وكانت منحنيةً لا تستطيع أن تنتصبَ البتَّة. فلمَّا رآها يسوع دعاها وقال لها: إنَّك مُطْلَقةٌ من مرضِك. ووضع يدَيه عليها، وفي الحال استقامَتْ ومجَّدتِ الله. فأجاب رئيس المجمع وهو مُغْتاظٌ لإبراءِ يسوعَ في السبتِ وقال للجميع:
 هي ستَّةُ ايَّام ينبغي العملُ فيها. ففيها تأتون وتَسْتشْفون لا في يوم السبتِ. فأجاب الربُّ وقال: يا مُرائي، أليس كلُّ واحدٍ منكم يَحُلُّ ثورَهُ أو حمارَهُ في السبتِ مِنَ المزودِ وينطلِق بهِ فيسقيه؟ وهذه ابنةُ ابراهيمَ التي رَبَطها الشيطانُ منذ ثماني عَشْرَةَ سنةً، أمَا كان ينبغي أنْ تُطلَقَ مِن هذا الرباط يومَ السبت؟ ولمّا قال هذا خَزِيَ كلُّ مَن كان يُقاومهُ، وفرح الجمْعُ بجميعُ الأمور المجيدةِ التي كانت تَصدُرُ منهُ.

في الإنجيل

كان يسوع يتجوّل في مقاطعة اليهوديّة. فدخل المجمع يومَ السبت للصلاة، فرأى فيه امرأةً منحنيةً لا تستطيع أن تنتصب البتّة. 

إنّ مرضَها نوعٌ من أنواع مرض الفالج، وهو لا يُداهم الإنسان عادةً إلّا بعد الأربعين. 

ولمّا كان قد مضى عليها ثمانية عشر عامًا في هذا المرض، فيكون عمرها يقارب الستّين سنة.

كان الناس ينسبون هذا المرض المزمن إلى سيطرة الشيطان على المريض، مع أنّه مرضٌ طبيعيّ، ولكنّ يسوع لم يُصحّح الاعتقاد السائد بينهم، بل تحدّث في المجمع وفقَ رأي عامّة الناس.

عندما رآها منحنية أشفق عليها ودعاها، فجاءت إليه وهي لم تفكّر في طلب شفائها.

فالمبادرة صدرت من يسوع رأفةً بهذه المسكينة التي لم تكن تستطيع أن ترى وجه السماء الجميلة. 

فعندما دنت منه وضعَ يَدَيْه عليها فانتصبت للوقت، وشعرت بأنّها قد برئت، فأخذت تمجّد الله وتشكر له نعمته العظيمة.

رأى رئيسُ المجمع يسوعَ يضع يدَيْه على المرأة المنحنية ويشفيها. 

فلم يهنِّئها بشفائها، ولم يشترك معها في تقديم الشكر لله، بل أظهر غيظه الشديد ممّا عمله يسوع، لأنّه صنع المعجزة يومَ السبت. 

فوبّخ الشعب ومنعهم من الاستشفاء يومَ السبت.  

إنّ هذا الرجل المدّعي بأنّه رجلُ الدين والإيمان والمحبّة كان رجلاً مرائيًا، قد أعماه التعصّب الديني، فلم يعرف أنّ الدين رحمةٌ للإنسان وعطفٌ على البشر المتألّمين.

لقد بلغ به هذا التعصّب مبلغًا جعله يرضى بالعطف على الحيوان ولا يرضى به على الإنسان.

إنّ عمل يسوع يدلّ على أنّ للإنسان قيمةً ساميةً جدًّا في نظر الله، وقيمته هذه قد حملته على ألاّ يبخُلَ بابنه الوحيد، بل أرسله إلى العالم ليُخلِّص الإنسان الخاطئ المُستعبَد للشريعة، ويُنقذه من عبوديّة الشيطان، ويحرّره من قيود الشريعة اليهوديّة القاسية، ويفتح أمامه الطريق المؤدّي إلى السعادة الأبديّة.

إنّ إيماننا المسيحيّ يَقبلُ الشريعة التي سنّها الله، ويأمر بحفظها والسير بموجبها، ولكنّه لا يرضى بأن تقيِّد الشريعةُ الإنسانَ بسلاسِلَ قاسية، وتنزع عنه حرّيته الشخصيّة، وتمنعه من عمل الخير في سبيل القريب المحتاج، فالشريعة التي وضعها الله إنّما وضعها لخدمة الإنسان وازدهاره، لا لإذلاله وصدّه عن ممارسة أعمال المحبّة.  قال يسوع:

 "جُعِلَ السبتُ لأجلِ الإنسان، لا الإنسانُ لأجلِ السبت".

وقد عبّر بولس الرسول عن هذه الفكرة نفسها عندما أكّد أنّ كمالَ الشريعة مُمارسةُ محبّة القريب: "أحبب قريبكَ كنفسِكَ".

فالمحبّة هي أسمى نصوص الشريعة. 

ولذلك فإنّ من قدّم للآخرين يومَ الأحد خِدمةً كانوا بحاجةٍ إليها لا يُخالف شريعة راحة يوم الربّ، بل يقوم بعملٍ صالحٍ يرضى عنه الله ويكافئه.

تأمّل الآباء في سلوك هذه المرأة المنحنية فاكتشفوا فيه ثلاثة رموزٍ تنطبق على حياة المسيحيّ الروحيّة. وإليكم هذه الرموز الثلاثة:

الرمز الأوّل: كانت المرأة المنحنية تتطلّع دوماً إلى الأرض.

إنّها بذلك ترمز إلى المسيحيّ الطمّاع الذي يعيش، وهو يتطلّع باستمرار إلى الأرض، ويسعى لكسب خيراتها الماديّة الفانية، ولا يفكّر إطلاقًا في الحصول على الخيرات الأبديّة التي لا تفنى.  

إنّ هذا الإنسان ليس في الواقع مسيحيًّا، بل عابد أوثان لأنّه ينحني أمام المادّة ويعبدها ويعتبرها هدفَ حياته وإلهَهُ الأعظم.

الرمز الثاني: دخلت المرأة المنحنية إلى بيت الله لتصلّي مع سائر المؤمنين. 

إنّها ترمز بذلك إلى المسيحيّ الخاطئ الذي تدعوه حالته الروحيّة البائسة إلى أن يدخل مع سائر المؤمنين إلى بيت الله ويصلّي ليتخلّص من خطاياه بالتوبة الصادقة، ويرفع رأسه إلى السماء ويَعِدَ الآب السماويّ بأن يغيّر سيرة حياته الأثيمة ويحيا حياةً فاضلةً تليق بابنٍ لله.

الرمز الثالث: رَفَعَت المرأة المنحنية بعد شفائها صلاة الشكر لله.

 فهي تعلّم كلّ مسيحيّ ينال نعمةً من الله أن يشكُرَ له الإحسان الذي حظي به، ويمجّده بسلوك التقوى.

كان رئيس المجمع متعصّبًا للشريعة الموسويّة القاسية، فوبّخه يسوع ووصفه بأنّه إنسان مراءٍ. إنّ الفرق عظيم بين التديّن والتعصّب.

 إنّ أساسَ التديّن محبّةُ الله ومحبّةُ الآخرين. أمّا التعصّب الدينيّ فمبنيٌّ على الانطواء الذاتيّ والمظاهر الخارجيّة وعدم التفاهم وقساوة القلب.

فكُنْ متديّنًا لا متعصّبًا.

التقليد الكنسيّ والعالم اليوم

من المعروف ان الكنيسة موجودة في هذا العالم ولكنّها ليست من هذا العالم، والله هو مؤسّسها. وكما يقول بولس الرسول: 

"لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَد". 

وأعضائها هم الشعب المؤمن والإكليروس والبطاركة. 

فإذاً هي مكوّنة من أناس يعيشون في هذا العالم ومنهم مَن زَهِدَ فيه. 

إلّا أنَّ الكنيسة مؤسَّسةٌ على أساس التقليد، هو قاعدتها ويؤلّف نسيجَها، فلا توجد كنيسة صحيحة كاملة بدون هذا التسليم المعطى من المسيح عبر الرسل وصولا إلى آبائها حتّى اليوم.

وما يحافظ على ثبات الكنيسة واستمراريّتها في هذا العالم هو الروح القدس الذي يعمل على مستويَين: 

الأوّل هو المحافظة على ما تسلّمَتْه وتعلَّمَتْه من المسيح وتثبيت أعضائها في الإيمان؛ 

والمستوى الثاني هو أنّه يَعمل كَقُوَّةٍ دافعةٍ للكنيسة لكي تَخرجَ إلى العالم وتَنقلَ المسيحَ إليه بشكلٍ خَلّاق، وتَنقُلَه إليها وإلى المسيح.

 فالتقليد الكنسيّ هو كُلّ ما تسلَّمَتْهُ الكنيسةُ وتَعيشُه منذُ البدايات حتّى الآن، هو يحتوي على البشارة الشفهيّة والتفسير الشفهيّ للكتاب المقدّس، العهد القديم، من قبل المسيح في تعليمه للرسل، وعلى كتابات العهد الجديد والتفاسير الآبائيّة لها، والدفاعات الآبائيّة تجاه الاِتّهامات العالميّة ضدّ المسيحيّة، والعظات والمقالات الروحيّة والحياة النسكيّة، التي هي في صلب الحياة الكنسيّة. 

يتكوّن أيضًا من التقاليد الليتورجيّة والنصوص الهيمنوغرافيّة والإيقونات ولاهوت المجامع المسكونيّة ضدّ الهرطقات وما إلى ذلك. 

فكلّ هذه حافظت على الكنيسة بقُوَّةِ الروحِ القدس وفعلِه، وكانت لها ثباتاً واستمراريّةً في عالَمٍ ظالمٍ، كان ولا يزال يتحرّكُ ضِدَّها.

العالَمُ اليوم هو عالَمٌ له خصائصه؛ هو يختلفُ عن العالم القديم، وعالم الرسل. لا يعيش حياةً شبيهةً بما كان في القرون الوسطى، حتّى إنّه عالَمٌ قد تغيّر منذ بدايات القرن العشرين حتّى الآن.

عالم اليوم هو عالم متأثِّر بالعولمة والتكنولوجيا والسياسات العالميّة والقَلق الاِقتصاديّ الذي يُهَيمِنُ على الإنسان من خلال الأزمات المتتالية التي يعجز هو نفسُه عن صَدِّها. 

فقد تفاقمتِ الهُوَّةُ بين الفقرِ والغنى، فأصبح الفقير يسعى دوماً إلى الوصول لمستوى مادّيّ أحسن، وهو في قرارة نفسه يسعى إلى الغنى. أمّا الغنيّ صاحب الأعمال الكبرى فيصبو أكثر فأكثر إلى زيادة غناه واقتحام الأسواق العالميّة. 

فنحن إذًا بصدد عالمٍ ملهوٍّ بالمال، وقد ترك اهتمامه بوجوده وغايته الأخيرة على الأرض. 

علاوةً على ذلك، أثّر التطور التكنولوجيّ وثورة عالم الإنترنت، التي قدّمت أرضًا خصبةً للناس، على أن تتلهّى عن القصد الذي وضعه الله لها.

هنا يأتي دور الكنيسة. 

فهل تستطيع في زحام كلّ هذه المعمعة ومن خلال كلّ هذه الوسائل التي ذكرناها والتي تختصّ بالتقليد، أن تخاطب العالم اليوم الذي لا يأبه للمسيح؟

 لا نستطيع أن ننكر أنّها قادرةٌ لأنّها كما ذكرنا مؤسّسة يحرّكُها الروح القدس لِتَعملَ بشكلٍ خَلّاق. 

وبما أنّ أعضاءَها يعيشون في معمعة هذا العالم، فهم يعرفون أيضاً ويستطيعون مساعدة الكنيسة أن تلج العالم بأفكارها وأن تخاطبه بلغة يفهمها من خلال استعمال الوسائل التي يقدّمها هو من دون أن تساوم على مبادئها وإيمانها. 

الثورة التكنولوجيّة جعلت العالم اليوم يُبدِّلُ إيمانه بالإله الواحد المثلّث الأقانيم. 

فأصبح يؤمن بما تقدّمه له كلّ الديانات الأخرى، وفي الوقت نفسه هو لا يؤمن بأيّ شيء في عمقه.

 تأتي هنا الكنيسة فتخاطب الإنسان من خلال التكنولوجيا واللغة المستخدمة اليوم لتوصل له الأفكار والقِيَم والمبادئ والوصايا التي سلّمها إليها المسيح.