الأحد 5 أيلول 2021

الأحد 5 أيلول 2021

01 أيلول 2021
الأحد 5 أيلول 2021
العدد 36
الأحد 11 بعد العنصرة
اللحن الثاني الإيوثينا الحادية عشر


* 5: النبيّ زخريّا والد السّابق، * 6: تذكار أعجوبة رئيس الملائكة ميخائيل في كولوسّي، * 7: تقدمة ميلاد السيّدة، الشّهيد صوزن، البارّة كاسياني، * 8: ميلاد سيّدتنا والدة الإله الفائقة القداسة، * 9: تذكار جامع لجدَّيِ الإله يواكيم وحنّة، الشّهيد سفريانوس، * 10: الشّهيدات مينوذورة وميتروذورة ونيمفوذورة، * 11: البارّة ثاورذورة الإسكندريّة، آفروسينوس الطبّاخ. *


الصلاة عمومًا وصلاة يسوع  

لا يستطيع الإنسانُ أن يتممّ أيّ شيء بدون النعمة الإلهيّة. يوصينا الرسول بولس بالصلاة أوّلاً "أَطلبُ أوّلَ كلّ شيء أن تُقامَ طلباتٌ وصلواتٌ وابتهالاتٌ وتشكُّراتٌ لأجل جميع الناس" (1 تيمو 2:1) الحياة الروحية تستند أوّلاً إلى الصلاة. 

يقول القدّيس يوسف الهدوئيّ المعاصر: "إنْ أقبلَ إليكَ أحدٌ يطلب مشورةً روحيّة، فأَوصِهِ قبل كلّ شي أن يصلّي: الصلاة سوف تعلّمه ما تبقّى من الأشياء وتقدّسه".

في بداية الحياة الروحيّة تكون الصلاة متعبة، فيها يُجبر الإنسانُ نفسَه على الصلاة، لكنْ مع الممارسة تصبح الصلاة عفويّة. 

عندها يمنح الروحُ القدس رغبةً قويّةً للصلاة، حتّى إنّ الإنسانَ لا يعودُ يصلّي من ذاتِه، لكنّ الروحَ الإلهيّ هو الذي يصلّي من خلاله. 

عندها، ومع دوام عمل الروح القدس في الإنسان، تُضحي الصلاةُ دائمةً في النهار وفي الليل، في العمل وفي الراحة، فيطبّقُ المرءُ وصيّةَ الرسول بولس "صلّوا بلا انقطاع اشكروا في كلّ شيء" (1 تسالونيكي 5: 17).

أمّا فيما يختصّ بصلاة يسوع "أيّها الرب يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني أنا الخاطئ".

ممارسة هذه الصلاة تفترض تواضعاً وأعمالَ رحمة، الإعتراف بالخطايا ومحبّة للقريب.

الهدف حسب قول القدّيس سيرافيم ساروف هو اكتساب الروح القدس. 

عندها كما يقول أيضًا القدّيس يوحنّا السلّميّ "في بداية الصلاة علينا أن نجدّف لكي يسيرَ القارب  à force de ramer. 

أمّا في الأخير فلا يعودُ الواحدُ مضطرًّا إلى أن يجذّفَ، لكن عليه أن يبسط شراع المركب لكي يسير بنفحة الروح القدس".

وأخيراً وليس آخراً هناك فرقٌ بين صلاة يسوع وصلاة القلب Prière du Coeur.

يقول القدّيس مكاريوس المصري في عظة رقم 19 "عندما يقترب الإنسان من الله يجبر نفسَه على المحبّة، على الوداعة والتواضع... 

دون أن يملك مثل هذه الفضائل كذلك يجبر نفسه على الصلاة دون أن يملك بعد الصلاة الروحيّة... عندما يرى الله جهاده الكبير المتواصل عندها يمنحه المحبة، الوداعة، التواضع... 

وكذلك يمنحه الصلاةَ الروحية ويملؤه بعطايا الروح القدس عندها تصبح صلاته صلاةً نقية، روحيّة قلبيّة.

+ افرام
مطران طرابلس والكورة وتوابعهما

طروبارية القيامة باللّحن الثاني

عندما انحدرتَ إلى الموت، أيُّها الحياةُ الذي لا يموت، حينئذٍ أمتّ الجحيمَ ببرقِ لاهوتك وعندما أقمتَ الأموات من تحتِ الثّرى، صرخَ نحوكَ جميعُ القوّاتِ السّماويِّين: أيُّها المسيحُ الإله معطي الحياةِ، المجدُ لك.

قنداق ميلاد السيّدة باللّحن الرابع

إنَّ يُواكِيمَ وَحَنّةَ مِن عارِ العُقْرِ أُطْلِقا، وَآدمَ وَحوّاءَ مِن فَسادِ المَوتِ بِمَولِدِكِ المُقَدَّسِ يا طاهرةُ أُعتِقا. فَلَهُ يُعيِّدُ شعبُكِ وقد تَخلّصَ مِن وَصْمَةِ الزلّات، صارِخًا نَحوَكِ: العاقِرُ تَلِدُ والدةَ الإلهِ المُغَذِّيَةَ حَياتَنا.

الرِّسَالة 
1 كو 9: 2-12

قوّتي وتسبحتي الربُّ أدبًا أدّبني الربُّ


يا إخوةُ، إنّ خاتَمَ رسالتي هوَ أنتمُ في الرب. وهذا هو احتجاجي عندَ الذينَ يفحصونَني. ألعلّنا لا سلطانَ لنا أن نأكلَ ونَشَرب. ألعلنا لا سلطانَ لنا أن نجولَ بامرأةٍ أختٍ كسائر الرسلِ وإخوةِ الربِ وصفا. أم أنا وبَرنابا وحدَنا لا سلطانَ لنا ان لا نشتَغِلِ. مَن يتجنّدُ قطُّ والنفقةُ على نَفسِه؟ مَن يغرِسُ كرماً ولا يأكلُ من ثمرهِ؟ أو مَن يرعى قطيعاً ولا يأكُلُ من لَبَن القطيع؟ ألعلّي أتكلّم بهذا بحسبِ البشريّة، أم ليسَ الناموس أيضًا يقولُ هذا. فإنّهُ قد كُتبَ في ناموسِ موسى: لا تَكُمَّ ثوراً دارساً. ألعلّ الله تَهمُّهُ الثِيران، أم قالَ ذلك من أجلِنا، لا محالة. بل إنّما كُتِبَ من أجلنا. لأنّه ينبغي للحارثِ أن يحرُثَ على الرَجاءِ، وللدارسِ على الرجاءِ أن يكونَ شريكاً في الرجاءِ. إن كُنّا نحنُ قد زَرَعنا لكم الروحيّات أفيكونُ عَظيماً أن نحصُدَ مِنكُمُ الجسديّات. إن كانَ آخرونَ يشتركونَ في السّلطان عليكم أفلَسنا نحنُ أولى. لكنّا أولى. لكنّا لم نستعملْ هذا السُلطان، بل نحتَمِلُ كلّ شيء لئلاّ نُسبِّبَ تعويقاً ما لِبشارةِ المسيح.

الإنجيل
متى 18: 23-35 (متى 11)


قال الربُّ هذا المثَل: يُشبِه ملكوتُ السماوات إنساناً مَلِكاً أراد أن يحاسِبَ عبيدَهُ. فلمّا بدأ بالمحاسبةِ اُحضِر إليهِ واحدٌ عليهِ عشَرَةُ آلافِ وزنةٍ. وإذْ لم يكنْ لهُ ما يوفي أَمَرَ سيدُهُ أن يُباعَ هو وامرأتُهُ وأولادُهُ وكلُّ ما لهُ ويُوفي عنهُ. فخرّ ذلكَ العبدُ ساجداً لهُ قائلاً: تمهّلْ عليّ فأوفيَكَ كلّ ما لَك. فَرَقّ سيدُ ذلك العبدِ وأطلقَهُ وترك لهُ الدّين. وبعدما خرج ذلك العبدُ وجدَ عبداً من رُفَقائهِ مديوناً لهُ بمئةِ دينارٍ، فأمسَكَهُ وأخذ يَخْنُقُه قائلاً: أوفِني ما لي عليك. فخرّ ذلك العبدُ على قَدَميهِ وطلبَ إليهِ قائلاً: تمهّلْ عليّ فأوفيَكَ كلّ ما لَك. فأبى ومضى وطرحهُ في السجنِ حتى يوفيَ الدّين. فلمّا رأى رُفقاؤُهُ ما كان حَزِنوا جدًّا وجاؤُوا فأعْلَموا سيدَهم بكلِ ما كان. حينئذٍ دعاهُ سيّدُهُ وقال لهُ: أيُّها العبدُ الشّريرُ، كلُّ ما كان عليك تركتُهُ لك لأنّك طلبتَ إليّ، أفمَا كان ينبغي لك أنْ ترحَمَ أنتَ أيضاً رفيقَك كما رحِمْتُك أنا. وغضِبَ سيّدُهُ ودفعهُ إلى المعذِّبينَ حتى يوفيَ جميعَ ما لهُ عليهِ. فهكذا أبي السماويُّ يصنعُ بكم إنْ لم تَتْركوا من قلوبِكم كلُّ واحدٍ لأخيهِ زلاّتِهِ.

في الإنجيل 

أراد السيّدُ أن يقدّمَ لنا مثلاً عن الترفّق بالآخرين، فأعطانا مثل الملك المترفّق والعبد الشرّير.

إنْ كان العبدُ المسكينُ الذي أَسَرَهُ رفيقُهُ في السّجنِ طالبًا أن يَفِيَ بالمائةِ وزنةٍ لم يفتحْ فمَه ليشتكيَه، لكنّ صوت الجماعةِ يصرخُ من الداخلِ بالحزنِ الشديد، ويَسمعُ اللهُ تنهّداتِ البشريّةِ الخفيّةِ من أجلِ قسوةِ الناسِ على إخوتهم وعدمِ صفحِهم لهم، فيَكيلُ لهم بالكيلِ الذي يكيلون بِه لإخوتهم.
إن كان هذا هو حال البشريّةِ التي تئنُّ من أجل عدمِ تنازلِ الإنسانِ لأخيه عن أخطائه التي سبقَ أَنِ ارتكبَها ضدَّه، فماذا يكون قلبُ الكنيسةِ التي تحزنُ جدًّا عندما ترى مِن أولادها مَن لا يصفح، فيَخسَرُ بِغَباءٍ ما تمتّعَ به من عطايا إلهيّة ونِعم مجّانيّة. وهذا ما يُحزِنُ السماويّين، وقَلبَ اللهِ نفسِه، الذي يَطلُبُ أن يَجِدَ صُورتَه ومِثالَه فينا!

في هذا المَثَلِ يَظهَرُ الملكُ رمزًا للدّيّانِ الذي يَقِفُ أمامَه الإنسانُ مَدِينًا بِعَشَرَةِ آلافِ وزنة، بينما يُعلنُ الإنسانُ عجزَهُ التامَّ عن الإيفاء بالدّين.

كان بإمكانِ العبدِ أن يستمرَّ في العيشِ حُرًّا بِلا دُيون، غيرَ أنّ المُعطِّلَ الوحيدَ الذي أوقفَ هذه النِّعَمَ ونَزَعَها عنه لِيَرُدَّهُ إلى أشرَّ ممّا كانَ عليه، هو اِنغلاقُ قلبِه على أخيه الذي كان مَدِينًا له بمائةِ وزنة، أي بِدَينٍ تافهٍ مقارنةً بِدَينِه.

لقد أحزنَ هذا قُلوبَ العبيد رفقائه جدًّا، فأعلموا سيّدَهم بما حدث، فاستدعى السيّدُ العبدَ مجدّدًا وغضبَ عليه ووبّخَه ودفعَه للمعذِّبين.

لقد أكّدَ لنا السيِّدُ أن نغفرَ ليُغفرَ لنا: "هكذا أبي السماويّ يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كلّ واحدٍ لأخيه زلاته".
لقد تحنّن الملكُ على المَدِين، فلم يتمهّلْ عليه فَحَسْبُ كَطَلَبِه، وإنّما أعطاه أكثرَ ممّا يسأل وفوق ما يفهم، إذ أطلقه حرًّا هو زوجته وأولاده، وترك له ما لديه وعفا عنه الدّين.

 كان هذا المسكينُ يطلبُ الإمهالَ ظانًّا أنّه يقدر أن يفي، ولم يعلم أنّه عاجزٌ كلَّ العجزِ عن تحقيق هذا الأمر مهما طال الزمن، لهذا أطلقَه السيّدُ إلى الحرّية، تاركًا له كلّ الدَّين بنعمتِه المجّانيّة. وَهَبَهُ حرّيةَ النفسِ والجسد، مقدِّسًا مواهبَه وكلَّ ما يملِكُه، ليصيرَ بِكُلّيتِه مقدَّسًا له.

مسكينٌ هذا الإنسانُ الذي يَنعَمُ بالتحرّرِ مِن عَشَرَةِ آلافِ وزنة، ولا يتنازلُ لأخيهِ عن مائةِ وزنةٍ بل يقسو عليه، فيرتدُّ إليه دَينُه الأصيل لِيعجزَ عن الإيفاء. مهما ارتكبَ الإخوةُ في حقّنا، إنّما نكون دائنين لهم بمائة وزنة، فإن لم نتنازلْ عنها لن ننعمَ بالتنازل عن الدَّينِ الذي علينا لدى الله. "إن لم تغفروا للناس زلّاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاّتكم".

نلاحظ في هذا المثل أنّه يشبّه ملكوت السماوات بإنسانٍ ملكٍ، وهذا الملك هو ابن الله. العشرة آلاف وزنة التي اِسْتَدانها الإنسان، دَينٌ كبيرٌ جدًّا، ما كان يمكن للإنسان أن يفي هذا الدّين الكبير، فصدرَ الأمرُ بِبَيعِه هو وزوجته وأولاده وكلّ ماله، لعلّه يقدر أن يفي شيئًا. إنّ كسر الوصيّة الإلهيّة قد دفع الإنسان ليفقد كلّ شيءٍ، يفقد نفسه، أي روحه الداخليّة، التي أصابها الموت الأبديّ بِحِرمانِها من الله مصدر حياتها، ويفقده زوجته، أي جسده المرتبط به، أمّا الأولاد فيُشيرون إلى المواهب المتعدّدة التي تحوّلت خلال الخطيئة من آلات برٍّ لله إلى أداة إثمٍ تعمل لحساب الشيطان.  

أمّا كلّ ماله، فيعني ممتلكاته، من ذهب وفضّة ونحاس... الأمور التي وإن كانت صالحة في ذاتها لكنّها خلال فساد الإنسان صارت معثرةً له.

يقول القدّيسُ يوحنّا الذهبيُّ الفم: "إذ لم يكن بعدُ صوتُ المغفرة يدوي في أذنيه إذا به ينسى محبّة سيّده المترفّقة! أنظر أيّ صلاح أن تتذكّر خطاياك! فلو أنّ هذا الإنسان احتفظ بها بوضوح في ذاكرته ما كان قد صار هكذا قاسيًا وعنيفًا.

 لهذا أكرّر القول، إنّ تذكار معاصينا أمرٌ مفيدٌ للغاية وضروريّ جدًا. ليس شيء يجعل النفس حكيمة بحقٍ ووديعة ومترفّقة مثل تذكار خطايانا على الدوام".

حريّة أبناء الله

هل الحرّية بالمعنى السياسيّ والاجتماعي تستنفد كلّ مضمون الحرية بالمفهوم المسيحيّ، أم أنّ الأخيرة لا تُلغي الأولى ولكنّها أوسع منها؟

هل كَوني أعيشُ في بلدٍ ديمقراطيّ وأقولُ ما أشاء وأفعلُ ما أشاء فأنا تلقائيّاً حرٌّ؟ أو كَوني أعيشُ في بلد دكتاتوريٍّ فأنا محكومٌ عليَّ ألا أكون حرًّا؟ أهكذا نفهم الحريّة بالمنظور المسيحيّ؟

عبارةُ حُرّيّةِ أبناءِ الله تُلخِّصُ مُجمَلَ مضمون الحريّة.

الكائن الحرّ الأوحد هو الله. يطرحُ القدّيسُ مكسيموس المعترف مفهوماً واسعاً للحرّيّة، إذ يربطُها بالعلاقة مع الله. بمعنى أنّ الإنسانَ لا يكونُ حُرًّا لمجرَّدِ أنّ النظامَ السياسيّ وكتابَه الدينيّ أعطياه حرّية الرأي وحرّية الإختيار في شؤون دنياه. هذه الحريّة مباركة لكّنها قِطاعٌ محدودٌ في فضاءِ الحرّية. 

الإنسان يكون حرّاً عندما يجاهد ليبلغ الى الله، عندما يسعى ليكون ابناً لله. لا حريّة، بحسب مكسيموس، إلّا مِن مَنبَعِها، من الله الذي يحملُ الإنسانُ صورتَه التي شُوِّهَت بسبب الخطيئة.

حرّيّتُكَ لا تكون إلّا في إعادة نقاء صورة الله فيك.

الله هو الكائن الحرّ الأوحد والذي يستقي الإنسان منه كلّ حرّيته. الله الحرّ الأوحد لأنّه مُكتَفٍ بذاته ولا تُقيّدُه حاجةٌ أو ضرورة. في سلوكه تجاه الإنسان يتصرّفُ بحرّيّةٍ مِن أيّة حاجةٍ أو منفعة. حرّيتُه نابعةٌ مِن محبّةٍ لا تطلبُ لذاتها، لذا هو الحرّ بامتياز.

لا نبلغ حرّية أبناء الله دون التمثّل بالله. إن أردنا أن نكون أحراراً علينا أن نتحرّر قبلاً. مفهوم التحرّر أهمّ من مفهوم الحريّة. التحرّر هو طريقك للحريّة، لا يمكن للإنسان أن يرتاح بحريّة يظنّها له لمجرّد أنّه يقول ما يريد ويفعل ما يشاء أو لمجرّد أن حرّيته حقٌّ حَفِظَه اللهُ لَهُ. الإنسان لا يُخلَقُ حرّاً في هذا العالم بل يُخلق ليكون حرًّا. 

بحسب مكسيموس حركةُ الإنسان نحو الله هي التي تبني حرّيته لأنّها تربطه بحريّة الله، بحسب النعمة المعطاة له وبحسب مسعاه التحرريّ. الحرّية تُبنى وبنيانُها لن يكتمل هنا في هذه الحياة. 

لا يمكن فهم الحريّة دون التجرُّدِ من الخطيئة والهوى، أي دونَ سُلُوكٍ نُسكيٍّ يتحرَّرُ بموجبِه، قَدْرَ ما تسمحُ به نعمةُ الله ومواهبُ الإنسان، من كلّ أنواع الحاجات. 

هذه هي النقطة المحوريّة في مفهوم الحرّية عند المسيحييّن. لذا أهمّ حرّ في العالم هو المُتَنَسِّك (المقصود ليس الناسك الذي يعيش في البرّية أو الدير وحسب) الذي يتعامل بحريّة مع خيرات الأرض ليسودَها دون أن تسودَه، لتكون محبّتُه صافيةً كمحبّة الله. لأنّه عندما يكون الإنسانُ حرًّاً، عَبْرَ النسك، من الخيرات الماديّة، فسلوكه نحو الآخر، أي محبّته وقوله الحقّ الذي يحرّر- و"الحق يحرّركم"، لا يكون مأسوراً لأيّة حاجةٍ أو منفعة. 

أنا لا أستطيع أن أفهمَ مَن يَدّعي حريّةً وهو غيرُ قادرٍ على أن يتحرّرَ مِن عادةٍ أو نَزوةٍ أو شهوة. أيكونُ حُرًّا مَن هو غيرُ قادرٍ على الصوم مثلاً؟ بِقَدْرِ ما تكون متحرّرًا من منافع هذا العالم بقدر ما تكون حرًّا لتقول الحقّ دون خوف ولتحبّ دون غاية. القدّيسُ يوحنّا المعمدان مثالٌ لنا في هذا الشأن.

الإنسان الذي هو عبد لمصالحه ومنافعه وَلاِستهلاك خيرات هذا العالم، وَلِهَوَسِ البحبوحةِ والتَّرَفِ والمال والمناصب، لا يمكن أن يكون حرًّا. لأنه لن يكون مستعدّاً لخسارة أيّ منها إن أراد أن يقول الحق.

الإنسان الذي لم يتعلّق قلبُه بما يملك وبما يتنعمّ يقول الحقّ دون خوف، وهو حرٌّ على صورة الله ويحبّ بصفاءٍ.
الحرّية والمحبّة لا ينفصلان. ويمكننا القول أنّ الحرية ليست الغاية الأخيرة بل المحبّة. 

الحرّية إن لم تَعُدْ إلى المحبة لن تنفعني شيئاً لأنّ كلّ الفضائل تسقط دون المحبّة، "المحبة لا تسقط أبدًا". أيّ مسلكٍ يظنّ صاحبُه أنّه تعبيرٌ عن الحريّة، لا يقودُ إلى محبّةٍ خادِمةٍ ومصلوبة، هو تَرَفُ أخلاق. الحرّيّةُ تَبني ولا تَهدِم، الحرّيّةُ تَرفُقُ ولا تَشتُمُ ولا تَجرح.

المسيحيُّ الحَقُّ هُوَ الّذي يُمارِسُ النُّسْكَ، ويُجاهِدُ ليتحرَّرَ مِن التعلُّقِ بِخَيراتِ هذا العالَم، فلا يجعلُها تَسُودُ عليه، بل يَقدِرُ أن يتخلّى عنها حُبًّا بالحقِّ الذي يحرّرُه.

الأيّام التي نعيش كشفت لنا زَيفَ حياتِنا في المسيح، إذ سادَنا الخوفُ والاضطرابُ عندما خَسِرْنا بعضَ المالِ والمناصبِ والعيشِ الرَّغيد. فلنتيقَّظْ ألا نبلغ حافةَ الاِنهيار، وَلْنَسْعَ لِنكونَ أُصَلاءَ في حرّيتِنا، حُرّيّةِ أبناءِ الله.