الأحد 28 آذار 2021

الأحد 28 آذار 2021

24 آذار 2021

الأحد 28 آذار 2021
العدد 13
الأحد الثاني من الصوم  
اللَّحن الأوّل الإيوثينا التاسعة 


* 28: غريغوريوس بالاماس، البارّ إيلاريُّون الجديد، * 29: مرقس أسقف أريثوسيون ، كيرلّلس الشمَّاس واللّذين معه، * 30: البارّ يوحنّا  السُّلَّميّ، النبيّ يوئيل، آفڤولي (والدة القدّيس بندلايمون)، * 31: الشّهيد إيباتيوس أسقف غنغرة، * 1: البارّة مريم المصريّة، الشُّهداء يارونديوس وباسيليوس، * 2: البارّ تيطس العجائبيّ، المديح الثالث، * 3: البارّ نيقيطا، يوسف ناظم التَّسابيح. *

الرحمة
(Miséricorde)


الله عادلٌ ورحيم. الرحمة الإلهيّة لا تحدّها الشريعة ولا القوانين. الربّ الإله عادلٌ وغفور.

الإنسان الرحيم لا يكتفي بالتصدُّقِ ممّا عنده من مقتنيات. يقاسي الظلمَ من قبل الآخرين ويجيب عن ذلك كلّه بالغفران. عندها يظفر بالعدالة من جهة رحمته ويحصل على إكليل الكاملين بحسب الإنجيل.


إعطاءُ الحسنات للفقراء، إلباسُ العُراة، عدمُ إدانة القريب وتجنّب الكذب، كلّ هذه هي من العهد القديم، أمّا الكمالُ الإنجيلي فيَكمُن في هذه الآية: "كُلُّ مَن سألك فأَعطِه، ومن أخذ الذي لك فلا تُطالِبْه" (لوقا 6: 30).


الرحمةُ الحقيقيّةُ لا تقتصرُ على الإحسان. كلّ من عرف أخاه في حزنه، شاركه ألمَه من كلّ قلبه وكلّ من أُهين يرتضي بالكفِّ عن الجواب خشية أن يُحزنَ الذي أهانه.


كلّ هذه تأتي على لسان القدّيس إسحق السريانيّ. الإنسان الغيور الذي يَحكم على الآخَرين بحجّةِ إصلاحهم، هذا لن يذوقَ السلام كما أنّه لن يذوقَ طعمَ الفرح. إصلاح الآخرين لا يقود صاحبه إلى السلام الحقيقيّ. إدانة الآخرين تطرد السلامَ والصحّةَ من النفس.

العنايةُ soin بأمراض الآخرين تحتاج بالأحرى إلى المحبّة، إلى الرحمة والغفران. الغيرة والحماس من أجل اصلاح الآخرين لا تمتّ إلى الحكمة الإلهية بل تمتّ إلى مرض النفس. بينما كبرُ النفس والصبر على الآخرين هو البديل من أجل احتمال ضعفاتهم. لذلك كُتب: 

"علينا نحن الأقوياء أن نحتملَ ضعفات الضعفاء" (رو 15: 1) "إذا سقط أحدٌ في زلّةٍ، أصلحوا أنتم الروحييّن مثل هذا بروح الوداعة" (غلا 6: 1).

إن أردتَ أن تصلحَ الآخرين تألّم معهم، شارِكْهم في آلامهم، قُلْ لهم كلمةً طريّة وتجنّب أن يعتريك الغضب ضدّهم حتّى لا يروا فيك موقفاً عدائيًّا. 

لا تُبغض الخاطئ لأنّنا كلّنا مُدانون. إبْكِ عليه ولا تُبغضْه. أنت أَبغِضْ خطاياه. صلّ من أجله كما فعل المسيح مع الخطأة، وإلاّ أين فضيلتك إنْ أنتَ كَرِهتَهُ؟ أين رحمتُك؟!


+ أفرام
مطران طرابلس والكورة وتوابعهما

طروباريّة القيامة باللّحن الأوّل

إنّ الحجرَ لمّا خُتم من اليهود، وجسدَك الطاهرَ حُفِظَ مِن الجُند، قُمتَ في اليوم الثالثِ أيّها المخلِّص، مانحاً العالم الحياة. لذلك، قوّاتُ السماوات هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة: المجدُ لقيامتِكَ أيّها المسيح، المجدُ لِمُلكِكَ، المجدُ لتدبيرِك يا مُحِبَّ البشرِ وحدَك. 

طروباريَّة القدّيس غريغوريوس بالاماس باللّحن الثامن

يا كوكبَ الرأيِ المستقيم، وسَنَدَ الكنيسةِ ومعلِّمَهَا. يا جمالَ المتوحِّدينَ، ونصيراً لا يُحارَب للمتكلِّمينَ باللاَّهوت، غريغوريوسَ العجائبيّ، فخرَ تسالونيكية وكاروزَ النِّعمة، إِبْتَهِلْ على الدّوامِ في خلاصِ نفوسِنا. 

القنداق باللّحن الثامن

إِنِّي أَنا عبدُكِ يا والدةَ الإله، أَكتُبُ لكِ راياتِ الغَلَبَة يا جُنديَّة محامِيَة، وأُقَدِّمُ لكِ الشُّكْرَ كَمُنْقِذَةٍ مِنَ الشَّدائِد. لكنْ، بما أَنَّ لكِ العِزَّةَ الَّتي لا تُحارَبِ، أَعتقيني من صُنوفِ الشَّدِائِد، حتَّى أَصرُخَ إِليكِ: إِفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.

الرِّسَالة
عب 1: 10-14، 2: 1-3 
أنتَ يا رَبُّ تَحْفَظُنَا وتَسْتُرُنا في هذا الجيلِ 
خَلِّصْنِي يا رَبُّ فإِنَّ البارَّ قَد فَنِي 


أنتَ يا ربُّ في البَدءِ أسَّستَ الأرضَ والسَّماواتُ هي صُنعُ يدَيك. هي تزولُ وأنتَ تبقى، وكُلُّها تَبلى كالثَّوب، وتطويها كالرِّداء فتتغيَّر، وأنتَ أنتَ وسِنُوك لنْ تَفْنَى. ولِمَنْ من الملائِكَةِ قالَ قَطُّ اجْلِسْ عن يميني حتّى أَجعَل أَعداءَكَ مَوطِئاً لقَدَمَيكَ. أَليسُوا جميعُهُم أَرواحاً خادِمَة تُرسَلُ للخِدمةِ من أجلِ الّذين سَيَرِثُون الخلاص. فلذلك، يجبُ علينا أَنْ نُصْغِيَ إلى ما سمعنَاهُ إِصغاءً أَشَدَّ لِئَلاّ يَسرَبَ مِن أذهانِنا. فإِنَّه إِنْ كانَتِ الكلمةُ الَّتي نُطِقَ بها على ألسنةِ ملائِكةٍ قد ثَبَتَتْ وكلُّ تَعدٍّ ومعَصِيَةِ نالَ جَزاءً عَدْلاً، فكيفَ نُفْلِتُ نحنُ إِنْ أَهمَلنا خلاصاً عظيماً كهذا، قد ابتدأَ النُّطقُ به على لسانِ الرَّبِّ، ثمَّ ثبَّتَهُ لنا الَّذين سَمِعوه؟!.

الإنجيل
مر 2: 1-12


في ذلك الزَّمان، دخلَ يسوعُ كفرناحومَ وسُمِعَ أَنَّهُ في بَيتٍ، فَلِلوَقتِ اجتَمَعَ كثيرونَ حتّى إنّهُ لم يَعُدْ مَوضِعٌ ولا ما حَولَ البابِ يَسَعُ. وكان يخاطِبُهُم بالكلمة، فَأَتَوا إليهِ بِمُخلَّعٍ يَحمِلُهُ أَربعَة. وإِذْ لم يقدِرُوا أَنْ يقترِبُوا إليهِ لِسَببِ الجمعِ كَشَفوا السَّقفَ حيث كانَ. وَبعدَ ما نَقَبُوهُ دَلُّوا السَّرِيرَ الَّذي كانَ الـمُخَلَّعُ مُضْطجِعاً عليه. فلمَّا رأى يسوعُ إيمانَهم، قالَ للمُخلَّع يا بُنَيَّ، مغفورةٌ لكَ خطاياك. وكانَ قومٌ مِنَ الكتبةِ جالِسِينَ هُناكَ يُفكِّرون في قُلوبِهِم: ما بالُ هذا يتكلَّمُ هكذا بالتَّجْدِيف؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغفِرَ الخطايا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟!! فَلِلْوقْتِ عَلِمَ يَسوعُ برِوحِهِ أَنَّهُم يُفَكِّرُونَ هكذا في أَنْفُسِهِم، فقالَ لهُم: لِماذا تفَكِّرُون بهذا في قلوبِكُم؟ ما الأَيْسَرُ أَنْ يُقالَ مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ أمْ أَنْ يُقالَ قُمْ واحمِلْ سريرَكَ وامشِ؟ ولكِنْ لِكَي تَعلَمُوا أَنَّ ابنَ البشرِ لَهُ سُلطانٌ على الأرضِ أَنْ يَغفِرَ الخطايا (قالَ للمُخَلَّع) لكَ أَقُولُ قُمْ واحمِلْ سَريرَكَ واذهَبْ إلى بَيتِكَ، فقامَ للوَقتِ وحَمَلَ سَريرَهُ، وخرَج أَمامَ الجميع، حتى دَهِشَ كُلُّهُم ومجَّدُوا اللهَ قائلينَ: ما رَأينا قَطُّ مِثلَ هذا.

في الإنجيل 

في هذا الأحد المبارك، الأحد الثاني من الصوم الكبير المقدّس، وفيه نكرّم أحد قدّيسِينا الكبار، رئيس الكهنة غريغوريوس بالاماس، قدّيس النعمة والنور الإلهيّين، الذي علّمنا أنّ الشوق إلى الله والسلام الداخليّ يمكّنان المؤمن الثابت القلب أن يعاين نور الله ومجده الأزلي، قدر استطاعته، وتحلّ فيه نعمة الله وافرة من خلال قوى الله غير المخلوقة...

- كيف يتحقّق ذلك؟

لكي يتحقّق ذلك، على الانسان أن يشفى من مرضه أي خطيئته وذلك بفعل توبته، وبفعل النعمة الإلهيّة أولاً وأخيرًا، التي تعمل في المؤمن المستقيم الرأي، الذي عقيدته سليمة، والحامل صليبه... 

لذلك رتّبت الكنيسة آحاد الصوم الثلاثة الأولى ليكون أوّلها مخصَّصاً للإخلاص للإيمان المستقيم الرأي، وثانيها للقدّيس غريغوريوس بالاماس الذي دافع عن سلامة العقيدة، وثالثها للسجود للصليب الكريم، محور العمل الخلاصيّ وطريقنا إلى القيامة...

- كيف يتمّ الشفاء؟ 

عبر الجهاد ضدّ الخطيئة الساكنة فينا للتطهّر من الأنانية والأهواء التي أبعدتنا عن محبّة الله والقريب، سعيًا للعودة إلى أحضان الآب السماويّ، الذي ينتظرنا ليعيد لنا الحلّة الأولى؛ عبرالصوم الذي هو تكثيف الاهتمام بالمساكين وإطعام الجياعِ ممّا تَوَفَّرَ لنا مِن طعامٍ صُمنا عنه... عبرَ الصلاة القلبيّة الحارّة...

- ما الذي جعل الأربعة لا ييأسون من المجيء إلى المخلّص رغم الجموع؟

لم يقدر المخلّع، في إنجيل اليوم، أن يأتي بنفسه عند الربّ، ولكن أربعة من أصدقائه المؤمنين استطاعوا أن يصلوا إليه رغم كلّ العوائق التي صادفتهم، فالجموع مزدحمة وتمنع أيًّا كان من الدخول أو الخروج، لذلك إيمانهم الثابت ومحبّتهم لصديقهم جعلهم يبتدعون طريقة للوصول إلى طبيب النفس والجسد، فنقبوا السقف وأزالوا الحاجز ودلَّوا المخلَّع، لأنّهم أدركوا أنّ كُلَّ ما عليهم أن يفعلوه هو شيءٌ واحد، أن يقدّموا المخلَّع ليسوع، والربّ الذي يفحص القلوب والكلى رأى إيمانهم، ومحبّتهم، ورأى انسحاق قلب المخلّع، الذي ليّن المرض قلبه، فصار مستعدًّا لنيل غفران خطاياه، "طوبى لمن غُفِرَت ذنوبُه وسُتِرَت عيوبُه"...

- لماذا يغفر الربُّ خطايا المخلّع قبل أن يشفيه جسديًا؟

ينتظر هذا المخلع وكذلك الجموع، شفاءه جسديًا، ولكنّ الربّ يسوع يبادر إلى مغفرة خطاياه أوّلاً أي شفائه روحيًا، ليؤكّدَ لنا أنّ المرض الأخطر ليست الإعاقة الجسديّة، بل الخطيئة المعشّشة فينا، لأنّها تمنعنا عن رؤية الله، وتمنع النعمة الإلهية أن تسكن فينا، تمنع خلاصنا، واتّحادنا بالله، ومعاينة مجده ونوره الإلهيَّين...

إذًا الغفران ثم الشفاء، لا يمكن فصلهما عن بعض... لأن بفعل الخطيئة دخل الموت والمرض إلى العالم...
لذلك لكي نشفى جسديًا علينا أن نتوب أولاً ومن ثمّ نحصل على غفران خطايانا عبر سر الاعتراف... الربّ وحده قادرٌ وله السلطان على شفائنا روحيًّا وجسديًّا...

- كيف تعود إلينا نعمة الله؟

علينا أوّلاً أن ننقب سقف خطايانا الذي يحجبُنا عن محبّة الله ونعمته ونوره الأزليّ... قبل أن يتسامك أكثر ويصبح تنقيبه أصعب بفعل كثرة خطايانا... ومن ثمّ إيجاد أربعة أصدقاء يقدموننا إلى المسيح المخلص: التوبة، نقاوة الفكر والقلب، الصبر، المحبة...

أهّلنا يارب في هذا الصوم المبارك أن ترسل رحمتك علينا وترحمنا، وتهبنا نعمتك الالهيّة، فنصل إلى يوم الفصح المجيد، معاينين نور وجهك... ونصرخ هاتفين: المسيح قام!

القدّيس غريغوريوس بالاماس والتقليد الهدوئيّ  

من الهدوئيّة وحياة السكون والصلاة غير المنقطعة، دُعي القدّيس غريغوريوس بالاماس للدفاع عن إيمان الكنيسة وخبرة حياتها الإلهيّة. من الهدوئيّة وسكون الأهواء نشأ لاهوت الكنيسة، لاهوتًا مكتوبًا بالنعمة لا بمنطق البحث والفلسفة. 

العقلانيّون والباحثون بتعظّم الفكر يُصبحون بسهولة مبتدعين، لأنّ أفكارهم الخاصّة، التي توحي إليهم بها أهواؤهم، تصير ناموس إيمانهم. المجاهدون في الحياة الروحيّة، في تعب الجسد والصوم والسهر وصلاة الذهن، متى جاهدوا بتواضع، يمتلئون من النعمة الإلهيّة، ويستطيعون التمييز بوضوح بين الخبرة الروحيّة التي تقود إلى الخلاص وبين الخبرات الكاذبة التي تقود إلى الضلال. 

عبّر عن هذه الخبرات الفاسدة شخص يُدعى برلعام، مثّل خبرة دنيويّة آتية من تيّارات فكر عصر النهضة الغربيّ، التي حاولت أن تُجدّد حياة الإنسان، بتركيزها على الإنسان وقدراته النفسيّة والعقليّة، لتجعل منه إلهًا، يُقاوم كُلَّ عمل الإله الحقيقيّ. كل الّذين خرجوا من الأرثوذكسيّة تحوّلوا تلقائيًّا إلى هذه الروح الإنسانويّة. 

فالنعمة المخلوقة التي شاء الغرب أن تكون صلة وصلهم مع الله، تلد مثل هذا الإنسان الدنيويّ. ليست المعرفة ولا المحاولات لعيش حياة أخلاقيّة حسنة كافية لخلاص الإنسان، إنّما تطهير القلب الداخليّ بالنسك وبنعمة الله هي الطريق الوحيد إلى ملكوت السماوات. القدّيس بالاماس دافع عن النعمة غير المخلوقة التي تؤلّه الإنسان، وتُعدّه لملكوت سماويّ ليس من هذا العالم. 

لم يتجسّد ابن الله لنحسّن تصرّفاتنا على الأرض إنّما لنتألّه، لنشترك مع إلهنا في كلّ ما له. هذا التألّه، يقولها بالاماس بوضوح، "هو هدف خلقنا"، هو الّذي يُحقّق لنا غاية وجودنا.

التألّه يعني الاتّحاد بالله في نور الله غير المخلوق. وهذا يُشكّل جوهر الحياة الروحيّة الأرثوذكسيّة. تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى طريقة حياة هدوئيّة. 

هذا لا يعني أن الحياة الرهبانيّة الهدوئيّة هي المكان الوحيد لبلوغ هذا الهدف، إنّما هي المكان الأمثل. لهذا كان القدّيس بالاماس، في إقامته سنة كاملة في مدينة تسالونيكيّ، يعقد حلقات للعلمانيّين لتدريبهم على صلاة يسوع وعيشها في أجواء هدوئيّة ضمن عائلاتهم ذاتها. 

فالهدوئيّة ليست هربًا من العالم، إنّما هي الحالة التي يبلغ إليها الإنسان الّذي يُحبّ الله فوق كل شيء آخر في العالم، ويكون مستعدًّا لكل صراع ضدّ العالم والشياطين حفظًا لوصايا المسيح. فالهدوئيّة الحقيقيّة لا يُبلغ إليها من دون سعي وثيق لحفظ وصايا المسيح. 

"ناموس الخطيئة"، بحسب قدّيسنا، لا بدّ من أن يُستبدل بناموس الله؛ لقد وعد المسيح بأنّه يسكن في الّذين يحفظون وصاياه. تكشف لنا الوصايا سرّ المسيح وتقودنا إلى الكمال. هذه الوصايا لا يمكن أن تُمارس إلا بالنسك وغصب الطبيعة. لأنّ طبيعتنا في حالة السقوط تشتهي ضدّ وصايا المسيح.

يتكلّم القدّيس بالاماس عن انفصال الذهن عن القلب، وتحطيم الوحدة التي كانت تجمع قوى النفس. هدوء حواس الجسد يقود إلى هدوء قوى النفس الداخليّة، وتستعيد قوى النفس وحدتها من خلال الحياة الهدوئيّة. أساس الحياة الهدوئيّة يقوم على التوبة والصمت والصلاة الداخليّة. 

من هذه الجهادات تتولّد الدموع مع الصبر والاتّضاع. يُعطي القدّيس بالاماس أهميّة عظيمة للصلاة الذهنيّة، التي هي أساس كل طريقة الحياة الهدوئيّة. الصلاة الحقيقيّة تولد من الاتّضاع والتوبة والبكاء على الخطايا. 

التوبة هي موت الإنسان عن هذا العالم. 

ولا يتحقّق هذا الموت من دون نسك. فالصوم والتقشف والصمت وكل ابتعاد اختياريّ عن التنعّم وراحة الجسد هي الوسائل للموت عن هذا العالم. 

ينبغي أن تموت فينا كل رغبة بشهوات هذا العالم، وازدراء كل غنى وخيرات هذا العالم، والتحرّر من كل سعي للتكريم واقتناء أمجاد هذا العالم. 

"كلّ هذه الحياة الوقتيّة، بالنسبة لبالاماس، ليست للتنعّم، إنّما "منحنا إياها الله كمكان للتوبة". فالتوبة لا تعني أننا لن نخطئ بعد إنما اننا سنقاوم الخطيئة بكلّ قوّتنا. لهذا، الروح "يستقرّ مع أولئك الّذين يحيون في التوبة، ويهجر أولئك الّذين يخطئون ولا يتوبون". 

التوبة هي تحويل الذهن إلى المسيح. هذا الذهن الضال، كما يُسمّيه بالاماس، ينبغي أن يعود إلى أبيه الراعي الصالح، حيث يجد وحدة الحقّ الّذي مزقته وجزّأته أنانيّة محبّة الذات، وكانت النتيجة الموت.

كل مأساة الإنسان بعد السقوط توجد في هذا الذهن الّذي أظلم. في رسالة إلى الراهبة كساني، يشرح فيها بالاماس صعود الذهن نحو الله في النور، يقول إنّ الصعود الروحيّ يبدأ بتطهير الذهن من كُلِّ الأهواء الأثيمة وفي عودته إلى ذاته. 

عمل الهدوئيّ الأوّل هو رصد الأفكار والتحرّر من كلّ الصور الواردة إلى الذهن. 

فالهدوئيّة هي اليقظة الداخليّة على حركة الأفكار والإيحاءات الشيطانيّة التي تسعى لإظلام الذهن. 

وهذا يتطلّب من الهدوئيّ أن يرتفع فوق كل الأفكار والمعرفة البشريّة ذاتها. لهذا، تستدعي الحياة الهدوئيّة نسيان العالم والتجرّد من كُلّ ما هو أرضيّ. يضع القدّيس بالاماس العذراء مريم والدة الإله نموذجًا للهدوء العقليّ وصمت الذهن وتطهير الحواسّ.

وهكذا، الهدوئيّة هي السلام الداخليّ وحفظ الذهن من التيهان، في راحة عدم التأثّر بالأهواء. إنّها المكان الأمثل لتطهير الحواسّ وقطع كلّ الأفكار من اليمين واليسار. 

هذه هي الوسيلة الكاملة لكي يصل الذهن إلى صفاء لا يوجد فيه إلّا صورة يسوع المسيح. النفس والجسد خُلقا معًا ليخلصا معًا، لهذا نقاوة الذهن تُحقّق نقاوة القلب، تُقدّس النفس كلّها وتنتقل إلى الجسد وتُطهّره. 

شدّد قدّيسنا على أنّ نور التجلّي هو نور إلهيّ غير مخلوق، ليس من هذا الدهر؛ يُعاينه القدّيسون في هذه الحياة الحاضرة، وفي هذا النور عينه سيعاينون المسيح آتيًا بمجده الأزليّ في اليوم الأخير. 

وهذا هو النور الّذي سيسكن فيه القدّيسون في الحياة الأبديّة. إنّه اشتراك في مجد الله وفي حياته الأبديّة. 

هذه الدعوة للشركة في النور الإلهيّ تنقض تلك الروح الفاسدة التي يسعى كثيرون لنشرها، من آريوس إلى برلعام وحتّى عصرنا الحاضر، أوّلاً عبر تهميش عقائد الإيمان الأرثوذكسيّ؛ وثانيًا عبر ازدراء خبرة النسك والجهاد الروحيّ الهدوئيّ. 

بحسب القدّيس بالاماس، في عظته عن حياة القدّيس بطرس الآثوسيّ، إنّ أولئك الّذين يُحاربون الهدوئيّة مروِّجين لحياة مسيحيّة تقوم على نشاطات وخدمات رعائيّة للمجتمع، يضلّون مستوحين أفكارهم من عدوّ خلاصنا إبليس. 

تهدأ النفس الداخليّة ويستنير الذهن بطريقة الحياة الهدوئيّة، ويتلقّيان النعمة الإلهيّة بوفرة، التي هي عربون ميراث القدّيسين. النعمة الإلهيّة تُعطى لأولئك الّذين أحبّوا الله الخالق أكثر من هذا العالم الزائل، لا بل أكثر من ذواتهم نفسها، فبلغوا إلى الهدوء المقدّس.