الأحد 29 كانون الثانـي 2017

الأحد 29 كانون الثانـي 2017

29 كانون الثاني 2017
 
 
 
 
الأحد 29 كانون الثانـي 2017    
العدد 5
الأحد (17) من متّى (الكنعانيّة)
 
 
اللّحن السابع            الإيوثينا العاشرة
 
* 29: نقل بقايا الشّهيد في الكهنة إغناطيوس المتوشّح بالله، * 30: الأقمار الثلاثة وأمّهاتهم: آميليا- نونة- أنثوسة، * 31: كيرس ويوحنّا العادما الفضّة، الشّهيدة أثناسيا وبناتها، * 1: تقدمة عيد الدخول، الشّهيد تريفن، * 2: دخول ربّنا يسوع المسيح إلى الهيكل، * 3: سمعان الشيخ، حنّة النبيّة، * 4: البارّ إيسيذوروس الفرميّ.
 
 
الوثنيّة اليهوديّة واليهوديّة الوثنيّة
 
لا يسعنا، هنا، إلّا أن نقف أمام جرأة غريبة يقدّمها لنا النصّ الإنجيليّ حول اللقاء الحاصل بين الربّ يسوع والمرأة الكنعانيّة التي أعلنت للجميع وثنيّة اليهود.
 
الإيمان لا يولد صدفةً، فكلّ شيء في حياتنا هو مسيرة تقودنا نحو الخلاص، والخلاص يحتاج إلى إيمان عذريّ قويم . ومحبّة الله غير المحدودة تحوّل كلّ شيء نحو الخير: الضيقات، الأحزان، الآلام، والمصائب كُلُّها أمور تجعلنا أكثر اقترابا من الله، إذ فيها يظهر لنا مجده؛ وهذا، ما تجلّى لنا من خلال المرأة الكنعانيّة الوثنيّة التي خرجت من محيطها المنغلق على ذاته نتيجة وثنيّتها لتلتقي بيسوع لأنّها عرفت أنّ لديه الرحمة والحنان والشفاء.  لقد استنجدت الكنعانيّة بيسوع، يوم جاء ليهديَ أوَّلاً الشعب اليهوديّ الضالّ، ويُضرم في قلوب أبنائه عواطف الإيمان والتوبة والمحبّة لله، ويُنقذهم من سلاسل الفرائض اليهوديّة الحديديّة التي كانت تشدّهم إلى الأرض، وتمنعهم من أن يرفعوا رؤوسهم إلى العلاء ليقدّموا لله العبادة الصحيحة. ولذلك كانوا بحاجة إلى المعجزات الكثيرة التي تنبّه أفكارهم وتذكّرهم بواجباتهم الدينيّة تجاه خالقهم وربـّهم.
 
هكذا هي عبادتنا لله اليوم، تتطلّب صنع العجائب لتسدّد احتياجاتنا؛ وهذه العبادة هي، بدون شكّ، عبادة وثنيّة، وهذا الاعتقاد كان اعتقاد اليهود بالله، الذين رأوا، كما رأينا، أنَّ اللهَ صانعٌ للعجائب، وبهذا يكون الإله صنماً. أنحن وثنيّون؟ أنؤمن بأنّ هناك شفاءً دون إصلاح الداخل؟ وأنّ 
هناك معجزاتٍ دون توبة؟ إنّ اللهَ ليس خادماً لمتطلّباتنا. لقد تجسّد رحمة بنا، وصار مثلنا، وتصرّف معنا لمحبّته لنا. إنّهُ يتحرّك نحونا، فلنـتحرّك بدورنا إليه بتلك المحبّة، كالكنعانيّة والعشّار نلقي آلامنا أمامه، واثقين برحمته، منسحقين قدّامه. لأنّنا نتصرّف اليوم عكس ذلك، فنحن نذهب كالفرّيسيّ، وقلبنا يكبر مملوءًا اعتزازًا بمنجزاتنا. إنَّ بنوتَّنا لله لا تتحقّق إِلّا بالتوبة والقلب المنسحق، لأنّهما طريقنا الوحيد إلى الله المحبّ البشر، وليس باتّباع الوصايا فقط.
 
صمت يسوع و"لم يجب بكلمة " عندما استغاثت به الكنعانيّة، وصرخت طالبةً شفاء ابنتها، فلم يُطِق تلاميذه صراخها وطلبوا إليه أن يصرفها، فقال لهم "لم أُرسَل إلّا  إلى الخراف الضالّة من بيتِ إسرائيل". هنا، تُلغى كلّ الشكوك التي تُراوِدُ الشعب، إذ، كيف لنبيّ دخل إسرائيل أن يشفيَ مَن هي مِن غير جنسهم. يريدُ الربُّ الإله أن يكشفَ لهم فضيلتها أوّلاً. لقد أطاعت تلك المرأة الربَّ بقولها "نعم" وبتواضعٍ أجابت "حتّى الكلابُ تأكل من فُتات البنين". فبردّها هذا، اغتصبت من فم الربّ نعمة الشفاء لابنتها، ونالت التعظيم الإلهيّ: "عظيمٌ إيمانُك يا امرأة". أعلن الربُّ فضيلتها التي جعلتها مستأهلة النعمة.
 
لم تفكّر المرأةُ بأنّ الربَّ لا يريدُ أن يساعدَها، بل كانت مملوءةً ثقةً بمحبّته، بقيت ثابتةً في طلبها دون فتور فنالت طلبها. هذا ينطبق علينا اليوم عندما نطلبُ من الله نعمةً، نطلب وننتظر النتيجة، لا نطلب الرحمة، بل نتعامل مع الله كمحقّق لرغباتنا. علينا أن نقدّمَ للربّ توبةً، كالمرأة التي قالت له بتواضعٍ:


"إرحمني، فإنّ ابنتي بها شيطان"، ومن ثَمَّ قدّمت طلبَها بسجودٍ وانسحاق، إنسحاقٍ عجيبٍ جعل السيّد يستجيب لها. فلنتعلّم من هذه المرأة المعلِّمة كيف يجب علينا أن نثابر في الصلوات، بأيّ صبر، بأيّ تواضع، بأيّ تخشّع. لنتعلّم أن لا نتراجع حتّى وإن كنّا غير مستحقّين، حتّى وإن اتـُّهِمنا بالدنس بسبب خطايانا، بل أن نداوم على التوسّل من كلّ قلبنا وبتواضع، لننال طلبتنا من الله؛ لأنّنا، بطاعتنا كلمة الربّ، نستمطرُ الرحمةَ الإلهيّة علينا لتؤهّلَنا أن نكونَ أبناءَ الله.
 
الله ليس محصورًا بعمل أو بمجتمع؛ إن اِفتكرنا بهذا فنحن نُوَثـنن قلبنا، ونمنعه أن يلتحق بمحبوبه. لقد أغلقَ اليهودُ على أنفسهم، فكانوا وثنيّين بسبب ذاك الاِنغلاق العقلانيّ، بينما الوثنيّةُ بإيمانها كانت يهوديّةً حقّة. لقد جاء المسيحُ الإله إلى الأرض من أجل الكلّ، وهو في الكلّ. فمَن منّا اليومَ يسمحُ للمسيح بأن يُعلنَ فيه مجده. اليوم، نحن، كمسيحيّين، علينا أن لا ننتظر المعجزاتِ لنؤمنَ؛ إيمانـنا القويمُ هو الذي يصنعُ المعجزات. علينا أن تكونَ لنا ثقة الكنعانيّة وانسحاقِها. ولنـتـفوّه كالعشّار: "يا الله ارحمني أنا الخاطئ". وبـهذا نكون مستأهلين أن ننال خبز البنين الذي هو الحبّ الإلهيّ.
 
ثباتُنا في الإيمان، وثقتنا بحكمة الله هما ذروةُ أعمالِنا الصالحة اللازمة في خلاصنا؛ وكما يقول المزمور: "أَلقِ على الربِّ همّك وهو يعولك". هذا هو إيماننا: أن نرتمي في حضن الله مُلقِين أمامه أنينـنا وفرحنا وحياتنا كلّها.
 
رئيس دير مار إلياس شويّا البطريركيّ
+ الأسقف قسطنطين كيّال
طروباريّة القيامة باللّحن السابع
 
حطمتَ بصليبك الموتَ وفتحتَ للّصّ الفردوس، وحوَّلتَ نوحَ حاملاتِ الطيب، وأمرتَ رسلكَ أن يكرزوا بأنّكَ قد قمتَ أيّها المسيح الإله، مانحاً العالَمَ الرحمةَ العظمى. 
قنداق دخول السيّد إلى الهيكل باللّحن الأوّل
 
يا مَن بمولدِكَ أيّها المسيحُ الإلهُ للمستودعِ البتوليِّ قدَّستَ، وليَدَيْ سمعانَ كما لاقَ باركْتَ، ولنا الآنَ أدركْتَ وخلَّصْتَ، إحفظ رعيَّتَكَ بسلامٍ في الحروب، وأيِّدِ المؤمنين الذين أحبَبْتَهم، بما أنّك وحدَكَ محبٌّ للبشر.
 
الرسالة:
2 كور 6: 16-18، 7: 1 (17 بعد العنصرة)
صلُّوا وأَوفُوا الربَّ إلهَنا، الله معروفٌ في أرضِ يهوذا 
 
يا إخوةُ، أنتم هيكلُ الله الحيُّ، كما قالَ الله: إنّي سأسكُنُ فيهم وأسيرُ فيما بينَهم وأكونُ لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً. فلذلك اخرُجوا من بينهم واعتزلوا يقولُ الربُّ؛ ولا تَمَسُّوا نجساً فأقبلَكُم وأكونَ لكم أبًا وتكونوا أنتم لي بنين وبناتٍ يقولُ الربُّ القدير. وإذ لنا هذهِ المواعِدُ، أيُّها الأحبَّاءُ، فَلنُطهِّرْ أنفُسَنا من كلّ أدناسِ الجسَدِ والروحِ ونُكمِلِ القداسةَ بمخافةِ الله.
الإنجيل
متّى 15: 21-28 (متى 17)
 
في ذلك الزمان خرج يسوع إلى نواحي صورَ وصيدا، وإذا بامرأةٍ كنعانيَّة قد خرجت من تلك التخومِ وصرخت إليهِ قائلةً: ارحمني يا ربُّ يا ابنَ داود فإنَّ ابنتي بها شيطانٌ يعذِّبها جدّاً؛ فلم يُجبها بكلمةٍ. فدنا تلاميذهُ وسألوهُ قائلين: اصرِفْها فإنَّها تصيحُ في إثرنا. فأجاب وقال لهم: لم أُرسَلْ إلّا إلى الخرافِ الضالَّةِ من بيتِ إسرائيل. فأتتْ وسجدتْ لهُ قائلةً: أَغِثْني يا ربُّ. فأجابَ قائلاً: ليس حسناً أن يُؤخَذَ خبزُ البنينَ ويُلقى للكلاب. فقالتْ: نعم يا ربُّ، فإنَّ الكلابَ أيضًا تأكلُ مِنَ الفُتاتِ الذي يسقط من موائد أربابها. حينئذٍ أجابَ يسوعُ وقال لها: يا امرأةُ عظيمٌ إيمانُكِ، فليكُنْ لكِ كما أردتِ. فشُفيتِ ابنتُها من تلك الساعة.
في الإنجيل 
 
ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُعطى للكلاب"، قول ليسوع جاء جوابًا لطلب امرأة كنعانيّة شفاءَ ابنتها.
 
قولٌ صعب ليسوع، كثيرًا ما تعرّض لسوء الفهم والتشويه في اعتباره امتحانًا للمرأة واختبارًا لتواضعها؛ فيجود المعلّقون في امتداح تواضع المرأة، في حين أنّ اللّاحق من النصّ يهتمّ لـ"إيمان" المرأة، لا لـ"تواضعها".
 
فَهْمُ هذا القول يتمّ عبر مرحلتين: المرحلة الأولى هي تفسير المقصود بـ "البنين" و"الكلاب"، والمرحلة الثانية هي فهم المقصود بـ "خبز البنين".
 
المقصودون بـ "البنين" هم أبناء شعب الله، بَنو إسرائيل "الذين هم إسرائيليّون ولهم التبنّي والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد" (رو 4:9). والمقصودون بـ "الكلاب" هم الناس الذين هم خارج شعب الله، أبناء الأمم. فقد كان اليهود يعتبرون الوثنيّين الذين لا يعرفون الله ويعبدون الآلهة الأخرى الزائفة أنجاسًا سائرين في الضّلال والدّنس، وينعتونهم بـ "الكلاب".
 
ويأتي السؤال: لماذا اعتمد يسوع "لغة اليهود التّحقيريّة" هذه؟ ما عوّدنا يسوع أن ينطق بهكذا كلام، فما هي الضرورة الملحّة التي اضطرّته إلى مثل هذا القول؟ لا بدّ من أنّ يسوع اقتبس العبارة التحقيريّة لدحضها وإدانتها ولتغيير الذّهنيّة التي وراءها. فقبلاً، استجاب يسوع لطلب قائد المائة الوثنيّ في شفاء خادمه، وهمّ أن "يذهب إليه"، إلى بيته، ليشفي الغلام، رغم الاعتراضات والإدانات التي يمكن أن يواجهها في دخوله بيت رجل وثنيّ. لنذكر هنا قول الرّسول بطرس، في مستهلّ كلامه، عندما دخل بيت قورنيليوس الوثنيّ، قائد المئة، في قيصريّة التي على البحر: "أنتم تعلمون كيف هو محرّم على رجل يهوديّ أن يلتصق بأحد أجنبيّ أو يأتي إليه". ويضيف أنّه احتاج إلى "رؤيا إلهيّة" في المنام ليفهمَ ويٌقدمَ على هذا العمل (أي على دخول بيت رجل وثنيّ): "و أمّا أنا، فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما إنّه دنس أو نجس"(أعمال 28:10).
 
وجود اعتقاد كهذا بين تلاميذ يسوع اليهود ـ وهو ما استمرّ حتّى في أيّام تدوين إنجيل متّى ـ اضطَرّه إلى النطق بهذا القول المستغرَب. فقول يسوع، وإن بدا ظاهرًا أنّه موجّه إلى المرأة، هو موجّه أصلاً إلى تلاميذه (على طريقة "عم حكّي الجارة تا تسمع الكنّة")؛ وكأنّه يقول لهم: إنّ من تعتيرونهم "كلابًا" يصبحون بـ "إيمانهم العظيم" "أبناءً محبوبين" لله، لهم الوعود والتبنّي ومشاركين في "خبز البنين". ولنذكر هنا قول يسوع الشهير الرّائع، الذي جاء في ختام شفاء غلام قائد المائة، بعدما امتدح إيمانه الذي لم يجد له مثيلاً في أحد من إسرائيل: "11  و أقول لكم إنّ كثيرين سيأتون من المشارق و المغارب و يتّكئون [على المائدة] مع أبراهيم و إسحق و يعقوب في ملكوت السماوات* 12  و أمّا "بنو الملكوت" فيُطرحون إلى الظلمة الخارجيّة؛ هناك يكون البكاء و صرير الأسنان* " (متّى 8). نعم، كثيرون من الأمم سيأتون ويشاركون في "خبز البنين"، على مائدة ملكوت السماوات.
 
إهتمام يسوع بالتّشديد على قبول "الكلاب" من الأمميّين المؤمنين في عداد "البنين"، وعلى مشاركتهم في "خبز البنين، إهتمام يسوع هذا إنّما تتوضّح مراميه الكاملة ويأخذ أبعاده كلّها في سياقه الأوسع الذي يرد فيه. فحادثة شفاء ابنة الكنعانيّة تأتي في قسم من إنجيل متّى (14 و15 وأيضًا في مرقس 6 و7) يُمكن إعطاؤه عنوان: "مائدة الملكوت ممدودة أمام الجميع"؛ ويتضمّن:
 
1. معحزة إشباع الخمسة آلاف من اليهود.
2. المشي على الماء وإتمام أشفية في أرض الأمم.
3. جدال مع الكتبة والفرّيسيّين حول "سنّة الشّيوخ" ومفهومهم للطّاهر والنّجس.
4. شفاء ابنة الكنعانيّة وقول يسوع في "خبز البنبن".
5. أ. القيام بأشفية في أرض الأمم على الضّفّة الشّرقيّة لبحيرة طبريّا، "31  حتّى تعجّب الجموع إذ رأوا الخرس يتكلّمون والشلّ يصحّون والعرج يمشون والعمي يبصرون ومجّدوا إله اسرائيل* ".
 
ب. ومن ثمّ، وفي أرض الأمم تلك، قام يسوع بإشباع الأربعة آلاف الذين من الأمم.
 
لننتبه هنا إلى القيمة الرمزيّة الكبيرة التي كانت للأرقام في تلك الحقبة. فالألف يدلّ على الكثرة. والخمسة على أسفار شريعة موسى الخمسة، والأربعة على جهات الأرض الأربع. فـ "الخمسة آلاف" هم الجموع الكثيرة من اليهود الذين لهم كتب الشّريعة الخمسة، و"الأربعة آلاف" هم الجموع الكثيرة من الأمم الذين يأتون من جهات الأرض الأربع.
 
هذا القسم من إنجيليّ مرقس ومتّى هو جزء أساسيّ من الإنجيل في السياق التاريخيّ لانتشار الكنيسة في زمن الرّسل. فيومها كان الإجتماع الإفخارستيّ، الذي هو في أساس وجود الكنيسة في موضع ما، كان يتضمّن مائدة طعام حقيقيّةً تقتضي المشاركة بين المؤمنين من اليهود والمؤمنين من الأمم. ويومها، كثيرون من التّلاميذ من أصل يهوديّ وقعوا في خطيئة الشّطر والتجزئة بين أعضاء جسد المسيح. فأبوا مشاركة المؤمنين من أصل وثنيّ، وجعلوا لهم مائدة على حدة. أليس هذا ما وقع في أنطاكية وتمّ سقوط بطرس وبرنابا: "11  و لكن لمّا أتى بطرس إلى أنطاكية قاومته مواجهة لأنّه كان ملومًا* 12  لأنّه، قبلما أتى قوم من عند يعقوب، كان يأكل مع الأمم، ولكن، لمّا أتوا، كان يؤخّر ويفرز نفسه خائفًا من الذين هم من الختان* 13  و رأى معه باقي اليهود أيضًا، حتّى أنّ برنابا أيضًا انقاد إلى ريائهم*" يروي الرّسول بولس في رسالته إلى كنائس غلاطية (الإصحاح 2).
 
هذه هي الأزمة الكُبرى التي مرّت بها الكنيسة في زمن الرّسل، الأزمة المتعلّقة بكيفيّة قبول الوثنيّين فيها، والتي اقتضت من الإنجيليَّين مرقس ومتّى أن يوردا ذلك الجزء الأساسيّ من إنجيلهما الذي فيه تُمدّ مائدة الملكوت أمام الأمم ويشاركون في "خبز البنين".
رَحى الأيّام والسِّنين 
 
الرحى نعرفها نحن الكهول والكبار في السنّ، أمّا أحبّاؤنا الشبّان وصغار السنّ فربّما لا يعرفونها.
 
تتألّف الرحى من حجرين دائريّين قطرهما 50 سنتم من حجار البازلت الصلبة، يوضعان بعضهما فوق بعض، القسم الأسفل يكون قطعة واحدة، أمّا الأعلى ففيه ثقب واسع في الوسط تلقى من خلاله الحبوب، وثقب صغير آخر جانبيّ يثبّت فيه مقبض خشبيّ لتحريك القرص. (تستعمل الرحى لطحن الحبوب وخاصّة القمح ليصير دقيقا).
 
كلّ من يأتي إلى هذا العالم هو حبّة قمح تدفعه الأيّام في الثقب الأوسط للرحى التي لا تتوقّف عن الدوران. ولكن هناك حبّات لا يكون بإمكانها النزول في فتحة الرحى لتدور عليها وتجعلها دقيقًا نافعًا للأكل، لأنّ سوس الفساد والشهوات والانحراف قد اخترقها فصارت غير صالحة لتكون مع الحبوب السليمة، وبالتالي تُفرَز وتُلقى بعيدًا عن انسجام وانتظام سلوك سيرورة ارتقائيّة نحو التصور في خبز حياة تكلّم عليه ربّنا يسوع المسيح في أكثر من موضع في الكتاب المقدّس، وقد أعطاه أهمّيّة كبرى. فنجده يجترح تكثير الخبزات الخمس لإطعام الجمهور الذي يتبعه، وهو يسمّي نفسه خبز الحياة الذي يعطى للمؤمنين به، وهو الخبز الذي كسره وأعطاه لتلاميذه لتكون لهم الحياة معه.
كما علّمنا في الصلاة الربّيّة أن نطلب من أبينا السماويّ الخبز الجوهريّ الذي يمدّنا بقوّة الحياة الحقيقيّة.
هنا نسأل أنفسنا: ماذا نريد أن نكون؟ هل حبّةً ترميها يد الأيّام خارج الرحى لتفنى في فسادها وتخسر أبديّتها وكيانها، أم سنسعى لأن نصير حبوبًا سليمة مملوءة بالروح والحياة فتطحننا رحى الحياة لنصير دقيقًا نافعًا لتكوين خبز الحياة؟
 
حقًّا، ألا نشعر برحى الأيّام تطحننا؟ كلٌّ منّا لديه إحساس بأنّ الأيّام تمرّ كقطار سريع جدًّا، وبلمح البصر يسير بنا من المهد إلى اللحد. إنّ مدّة حياة  كلّ منّا، طالت أم قصرت، إذا ما نظرنا إليها إلى الوراء نجد أنّها مرّت بسرعة عجيبة. إذ نجد أنّنا مررنا من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة ومن ثمّ إلى محطّة النهاية.
 
كلّ إنسان على حدة هو حالة خاصّة؛ ربّما البعض لا يمرّ في مراحل العمر كلّها. ألا يستوقفنا السؤال؟ هل هذه هي الحياة الحقيقيّة؟ هل هذا هو الهدف الأخير؟ هل هذا هو المعنى الحقيقيّ لحياتنا؟
 
إنّ المنطق البشريّ يجب أن يبحث عن معنًى يبعد كثيرًا عن صورة حياة الإنسان اليوميّة. فهل يُعقَل أنّنا نولد ونأكل ونشرب وننمو ونعمل ثمّ نموت ويسدل الستار على حياتنا؟
 
لا بدّ من هدف أساسيّ يأتي من أجله الإنسان إلى العالم. آراء كثيرة وفلسفات وأفكار تناولت الهدف من حياة الإنسان على الأرض.
سنتناول، هنا، الفكرة انطلاقًا من ترتيب محبّة ربّنا وخالقنا الوارد في الكتاب المقدّس، ومن خلال تفسير ورؤية وخبرة القدّيسين على اختلاف أزمنة وجودهم وأمكنته. فنكتشف أنّ الفكرة المحوريّة التي تدور حولها حياة الإنسان على الأرض إنّما هي فترة اختبار لعلاقته بالله وتعامله مع خليقته (البشر الذين حوله والطبيعة بأسرها)، وهي، بالتالي، سعي دائم للشركة معه في الحياة الإلهيّة للوصول إلى الهدف الأسمى وهو اقتناء الروح القدس كما يقول القدّيس سيرافيم ساروف.
 
هذه هي رحى الأيّام التي تدور وندور معها لكي نخرج منها دقيقا صحّيًّا سليمًا نافعًا لعمل خبز الحياة الحقّة. فليعطِنا الله... آمين.
 
أخبــارنــا
محاضرة في دير البلمند
برعاية صاحب الغبطة يوحنّا (العاشر) بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الكلّيّ الطوبى والجزيل الإحترام، يدعو دير سيّدة البلمند البطريركيّ ومعهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ – جامعة البلمند إلى محاضرة بعنوان: "أمراض وسائل الإعلام الجديدة: حماية وشفاء"، يلقيها جان كلود لارشيه، وذلك يوم السبت 4 شباط 2017 الساعة 4.30 عصرًا، في القاعة الكبرى في دير البلمند. الترجمة الفوريّة إلى اللّغة العربيّة مؤمّنة.