الخطايا والفضائل

الخطايا والفضائل 

لا توجد خطايا منفصلة كما لا توجد فضائل منفصلة. فكلّ عمل صالح يؤدّي، بدوره، إلى أعمال صالحة أخرى. لذا، على المرء أن يبدأ في الجهاد ولا يتوقّف، البتّة، عن ممارسة الفضائل. 


فالصلاة، مثلًا، تستحّثنا إلى المصالحة مع المسيئين إلينا والمسالمة مع الجائرين علينا، وتدفعنا إلى الإحسان إليهم. والصوم يساعدنا على الشعور بقوّة الكتاب المقدّس من جهة، وينبّهنا إلى السمّ الخفيّ المختبئ في الملذّات الفارغة التافهة وغير الضروريّة من ناحية أخرى. قلبــــا-نقيــــا-اخلــــــــق-في-يــــــــا-اللهtrue-life-of-a-monk.jpg

تساندنا الحواسّ والمشاعر المنضبطة عن سماع الأصوات ورؤية المشاهد البطّالة على جمع الأفكار وحصرها في مجال واحد، (كما يحدث عند انعكاس الأشعة في العدسة أو في الزجاج)، فتدفئ القلب وتلد اليقظة في الصلاة. 

يماثل العمل الصالح المقدّس السلسلة المتّصلة الحلقات يجرّ العمل معه عملًا آخر. وعندئذ، ترفع سفينة الروح مرساتها، وتبدأ بالتحرّك ببطء، أوّلًا، ثمّ تجمع قواها، تدريجيًّا، وتنطلق. 

وهذا هو الحال، أيضًا، مع الخطايا، فالشياطين لا توافينا أفرادًا، إنّما جماعات أيّ "سبعة أرواح"، ما يسمّى ليجيونًا يجرّ الواحد الآخر. 

لذلك، لن نُحاكَم في الدينونة على خطيئة واحدة، إذ ليس هناك من خاطئ ارتكب خطيئة واحدة فقط. وإن وُجدت زلّة واحدة واضحة وظاهرة، فهذا يعني أنّه هناك العشرات من الخطايا السرّيّة المتراكمة التي تؤدّي بنا، شيئًا فشيئًا، الى تراجعات واضحة في الحياة الروحيّة، وتسبّب انحدارًا كبيرًا وانحرافًا فظيعًا يفضيان إلى عواقب لا تُعد ولا حصر لها تشبه تموّجات المياه المندفعة في اتجاهاتٍ مختلفة كما يحصل عند اضطراب النفس الخاطئة.  

الاهتمام الدقيق الحذر من الخطيئة وجسامة الشعور بمسؤوليّتها دفعا ثيودور ميخائيل دوستويفسكي إلى القول: "كلّ واحد مذنب أمام الجميع". 

هذه كلمات حقيقيّة وردت في الإنجيل المقدّس. ومن يشعر بها، يبدأ في الخروج من أسر الخطيئة الخفيّ، الذي يقيّد البشرية غير التائبة. ويتابع الكاتب قوله: 

"سيكون من الأفضل، ليس فقط بالنسبة لي، ولكن لكلّ شخص ولكلّ من حولي وللجميع، أن نفكّر بهذه الطريقة. ولن يتمّ علاج الإنسانيّة من معاناتها الداخليّة، حتّى يبدأ كلّ فرد بزراعة قطعة صغيرة من الكون يضعها تحت رعايته". 

فهذه "القطعة من الكون" ما هي إلّا النفس البشريّة بكلّ عالمها الداخليّ، الذي هو أثمن من أيّ شيء في العالم وأغلى. ورغم من الحقيقة القائلة بأنّ الأرض هي بمثابة حبّة رمل مرميّة في مساحات الفضاء الشاسعة التي لا يمكن تصورها. 

ورغم أنّ الإنسان هو، أيضًا، حبّة رمل على سطح الأرض، فإنّ عالم هذا الإنسان الداخليّ الواسع العميق هو الأهمّ والأغلى في نظر الله، بل والأعزّ من الكون الواسع بأسره. 

فالربّ لم يقل لأية مَجرَّة أو مجموعة ضخمة من النجوم أو الأجرام: "سأعيش معك وأسكن فيك، وأنت تتمسّكين بي لتبقي لي"، وإنّما قال للبشر: "من يحبّني يحفظ كلامي، ويحبّه أبي ونأتي إليه ونصنع مسكننا عنده" (يوحنا 14:23).

قد يبدو، للوهلة الأولى، أنّنا نعظ عن الأنانيّة والفرديّة، وكأنّنا نؤكّد على كرامة روح الإنسان الفرديّة، ولكنّ هذا يبدو في الظاهر، فقط، وأمّا في الواقع فإنّ كلَّ ما يحدث في الكنيسة، بل ما توجد الكنيسة من أجله، إنّما موجَّه إلى النفس الفرديّة بحيث أنّ تأثير أعمالها الصالح يتجاوز، حتمًا، إطار الروح الواحدة ليلامس الكثيرين، ويستمرّ ممتدًّا إلى مسافات زمنيّة بعيدة حتّى الدينونة الأخيرة وإصدار الحكم الإلهيّ.

من المهم أن تلاحظ اقتراب هجوم الخطيئة منك، أي مرحلة الإغراء والهمس الناعم، لا سيّما عندما تكون قد جلست، بالفعل، على كتفيك، فيما لم تبدأ أنت بعد بالقتال والنضال. 

قد لا تنتبه إلى وجود الآلاف من الأمور الشخصيّة القليلة الشأن جدًّا، لدرجة أنّك تميل إلى التغاضي عنها وإهمالها. 

ولكن عندما تتجمّع هذه الأمور تكتسب القوّة عينها التي لحبل قويّ مضفورٍ من خصيلات الشعر القليلة. فإذا أهملت هذه الحقائق البسيطة، فإنّ العدوّ سيهزمك، لكونه لا يجهل خطرها. إنّه يعلم، حقّ العلم، أنّ الإنسان لن يحسب شرًا عظيمًا تشابك اليد والقدم مع الأكاذيب الصغيرة والخطايا اليوميّة. 

 وهو يعلم، أيضًا، أنّ حجرًا كبيرًا وكيسًا مليئًا بالرمل يسحبان الإنسان بسهولة إلى القاع. ولذلك، فهو يملأ، بلا كلل ولا ملل، كيس عبده بالرمل الناعم من "الخطايا الصغيرة"، وهو يغنّي مستهزئًا "هذا ليس مخيفًا".

من الضروريّ جدًّا أن نرى بوضوح نهج القتال قبل الدخول في المعركة. فالمقاتل الأعمى يقاتل الهواء، وحسب، وقد يتغلّب عليه، ولكن سرعان ما تنفذ ذخيرته ويفقد القوّة. لذلك يقول الله لنا: "ادهن عينيك بمرهم العين حتّى تُبصر" (رؤيا 3: 18).

وما هو مرهم العين؟ إنّها دموع التوبة المكتسبة من الرؤية الروحيّة الجليّة. 

هذه هي الهبة التي يجب على المرء أن يتوسّل إلى الله من أجلها بتواضع. وإذا منحه إيّاها، فلن تكون يتيمة، بل سترافقها هبات أخرى لا تقّل قيمة عن باقي الهبات. لأنّه كما سبق فقلنا في البداية أنه لا توجد خطايا منفصلة ولا فضائل منفصلة. 

                                                   الكاهن أندريه تكاتشوف

[1] عن الروسيّة. الموقع الروسيّ برافوسلافي.