إحذر لنفسك (تثنية 15: 9) للقدّيس باسيليوس الكبير

إحذر لنفسك (تثنية 15: 9) للقدّيس باسيليوس الكبير[1]
في 11/1/2023
 
         يقول الكتاب المقدّس: "احذر لنفسك". كلّ نوع من أنواع الحيوانات يملك، بحسب الطبيعة التي خلقه الله عليها، كلّ الأسباب التي تحمي وجوده، وأمّا نحن البشر، فقد أعطانا الله هذه الوصيّة بقصد حمايتنا. والذي لم يجعل للحيوانات أيّ رقيب عليها، حصّننا نحن بميزة الانتباه والمراقبة المستمرّة لأفكارنا لكي نبقى أمينين على حفظ وصاياه. لقد جاد الربّ على طبيعتنا بهذه اليقظة لكي نبتعد عن الخطيئة ونهرب من أسبابها كما تهرب الحيوانات من السموم الكائنة في بعض الأعشاب، ونتطلّع إلى تحقيق الوصيّة بلهفة كما تسعى تلك إلى طعامها.

         ** إحذر لنفسك، أي لاحظ بانتباه نفسك من كافّة النواحي، وليكن سهرك على نظرك بداية جهادك لكي تحمي نفسك من الفخاخ الكثيرة التي نصبها لك العدوّ. فلاحظ، بيقظة شديدة، كلّ ما هو يحيط بك لكي "تخلص كالظبي وكالعصفور من يد الصيّاد" (أمثال 6: 5)، وانتبه لئلّا تصبح صيدًا لذيذًا للشيطان الذي اصطادك لقضاء مشيئته (2تيموثاوس 2: 26).screenshot_11_1-1-(1).jpeg

         إحذر لنفسك، أي لا تلتفت إلى ما هو حولك، فقط انتبه لنفسك لأنّك تغاير كلّ ما هو حولك. فبقد خلقنا الله على صورته من نفس وعقل، وزوّدنا بكلّ ما هو مادّيّ وضروريّ لوجودنا؛ وأمّا ذاتنا، فهي مكوَّنة من جسد وحواسّ. ولكن ماذا تقول الكلمة الإلهيّة؟ لا تعطوا أهمّيّة للجسد ولا تطلبوا، بكافّة الوسائل، ما هو صالح له: مالًا، راحة، جمالًا، طول عمر، مجدًا، سلطة... متأكّدين أنّ كلّ ما يخصّ الجسد يعبر سريعًا. انتبه لنفسك، أي زّينها واعتنِ بها حتّى تخلّصها من الأوساخ التي يلصقها بك الشيطان، ونقّها من كلّ سيّئة مشينة وزخرفها بكلّ جمالات الفضيلة، فتظفر، حينئذ، بالخلاص. إذًا، إفحص نفسك، من أنت؟ إعرف طبيعتك وميّز العضو المائت في جسدك من الذي هو غير مائت، واعمل على إحيائه.


         ** انتبه لنفسك، ولا تتعلّق بما هو فانٍ وكأنّه أبديّ، مزدريًا الأبديّة وكأنّها أمر عابر. إهمل الجسد وازدرِ به بما أنّه زائل، وانشغل بنفسك بما أنّها خالدة. انتبه لنفسك لتحصل على الشفاء من السقطات، فهل الخطيئة كبيرة وثقيلة؟ تحتاج، إذًا، إلى اعتراف متواتر وذرف الدمع المرّ والسهر المتواصل والصوم الدائم. هل الخطئية طفيفة محتملة؟ تب، واعرف موطن الضعف فيك وحاول إصلاحه، فمرضى كثيرون اعتلّوا بسبب عدم الانتباه ولم يعرفوا أنّهم مرضى. الربح كبير من تطبيق الوصيّة سواء للأصحّاء أو للمرضى، فهؤلاء يشفون وأولئك يكملون.

         ولأنّه أمر سهل لكلّ واحد منّا أن يستطلع ما للغير بدلًا من أن يستفحص ما بداخله، ولكيلا يحصل هذا، توقّف عن التفتيش عن سيّئات فلان من الناس، ولا تفسح المجال لأفكارك لفحص كلّ مريض غريب عنك، فانتبه، إذًا، لنفسك. وبمعنى آخر، حوّل نظرك إلى تفتيش نفسك، لكون الكثيرين، بحسب قول الربّ، ينظرون القذى في عين أخيهم ولا يفطنون للخشبة التي في عينهم (متّى 7: 3)،

         فلا تكفّ، أبدًا، عن فحص نفسك إن كانت حياتك تجري وفقًا للوصيّة. لا تلتف إلى ما هو خارج عنك، فأنت لا تستطيع أن تكشف خطايا غيرك، وإن بدت لعينك المريضة ظاهرة، كما رآها الفرّيسي المتفاخر، بل لا تهمل أن تؤنّب نفسك، ولا تدع لسانك يخطئ في أمر من الأمور مثيرًا أفكارك، ولا تدع يديك تأتي عملًا يخالف إرادتك. وإن كانت حياتك مليئة بالخطايا (ولا بدّ أن تكون كذلك بما أنّك إنسان) ردّد كلمات العشّار: "ارحمني اللهمّ أنا الخاطئ" (لوقا 18: 13).

         ** إنتبه لنفسك: إنّ هذه الكلمة سوف تنفعك وتكون لك كإشارة تذكّرك بكلّ ما هو إنسانيّ عندما تكون سعيدًا وعندما تكون الحياة تجري بشكل طبيعيّ. ولكن عندما يضغطك ثقل الأوقات الصعبة الحرجة سوف تكون لك قوّة في قلبك فلا تنجرف نحو المباهاة والتكبّر ولا تميل نحو اليأس والكآبة. هل تتفاخر بغناك أو تتشامخ بقواك الجسديّة أو لما يبديه لك الآخر ين من الاحترام أو التوقير؟

         انتبه لنفسك لأنّك إنسان لا يلبث أن يموت فأنت تراب وإلى التراب ستعود (تكوين 3: 19). تأمّل بالذين سبقوك والذين تفاخروا بما يملكون أين هم الآن؟ أين هم أولئك الذين تمتّعوا بالسلطان الدنيويّ؟ أين هم العظماء والخطباء والفصحاء؟ أين هم اللّامعون والقادة المشهورون الطغاة القاسون؟ الكلّ صار غبار ورماد. ألم يكونوا نظيرنا أحياء؟ ألا تلاحظ عظامهم القليلة الجافّة التي تخبرنا عن وجودهم ومرورهم من هنا يومًا؟ أنظر إلى القبور لعلّلك تستطيع أن تميّز العبد من السيّد والفقير من الغنيّ؟ فرّق إن استطعت الأسير من الملك والقويّ من الضعيف والجميل من القبيح؟ وبما أنّك تتذكّر طبيعتك الهشّة، فلا تتفاخر، إذًا، وانتبه لنفسك.

         أتنحدر من أصل وضيع، فقير، لا مأوى لك، لا وطن لك، ضعيف، محروم من اليوميّات الضروريّة، ترتعد وجلًا أمام ذوي السلطان، تخاف وتخجل من وضاعة حياتك؟ لا تيأس ولا تفقد الرجاء، فإن كنت لا تملك ما يستحقّ الثناء عليه وغيرة الآخرين، فهذا لا يمنعك من الميل نحو الصالحات وعيشها. فانظر بما تتمتّع به: قبل كلّ شيء، أنت إنسان مميّز كونك المجبول الوحيد الذي جبله الله بيديه المقدّستين، ثمّ وهبك نفسًا حيّة تنطق دون سائر المخلوقات (تكوين 2: 7).

         أفلا يكفيك هذا أنّك صًوِّرت على مثال الله الخالق القادر أن يجعلك وريثًا لمجد الملائكة؟ لقد أغناك الله بذهن تستطيع به أن تدرك طبيعة الكائنات وتتذوّق حلاوة ثمار الحكمة. فكلّ الحيوانات المفترسة منها والداجنة، التي تعيش تحت المياه أو تطير في أعالي السماء، وحتّى الكواكب والأجرام كلّها هي دون رتبتك رغم أهمّيّتها.

         ألا تخدمك اليابسة بما فيها والبحار بما تحويه مقدّمة لك ما تحتاج؟ فلماذا أنت، إذًا، صغير النفس هكذا؟ هل لأنّ حصانك لا تزيّنه اللجم الفضّيّة؟ ولكن لديك الشمس التي تنير، محتفظة بنورها طيلة اليوم من أجلك. ألا تملك ذهبًا وفضّة؟ ولكن لديك القمر والأفلاك التي تضيء لك الليل كلّه بجمال أخّاذ. ألا تملك العربات المطهَّمة بالذهب والجواهر؟ ولكن تملك قدمين يغبطك عليهما من لا يمكنه التحرّك من مكان لآخر. قل لي، لمن من المخلوقات وهب الله الروح القدس؟ لمن منح التمتّع ببطلان الموت؟ برجاء القيامة؟ بإمكانيّة العيش مع الله عبر وصاياه؟ وراثة الملكوت العلويّ السماويّ؟ التتويج بإكليل العدل بعد تعبك في اقتناء الفضيلة؟

         ** فاحذر، إذًا، لنفسك، ولا تدع الذهن يُستعبَد للأهواء، ولا تسمح أن تستبدّ بك الرذائل وتناهضك وتغلبك. وبشكل عامّ، إن معرفتك الصحيحة لنفسك لا بدّ لها من أن تقودك إلى معرفة الله، أكثر فأكثر، والعيش معه أكثر فأكثر.
 
 

 

 [1] M) Basili.ou) :Erga 6 & paterikai. Evkdo.seij $Grhgo.rioj o` Palama/j%( Qessaloni.khj 1973)مقتطفات من المقال.