شذرات روحيّة تقويّة
شذرات روحيّة تقويّة[1]
 
لقد فسّر الآباء الغربة على أنّها التغرّب أو الابتعاد عن العالميّات وعدم التعلّق بها لكونها تشوّش الحياة الروحيّة. من هنا، كان على كلّ مسيحيّ أن يعيش كغريب على هذه الأرض، وأن يتّخذ الغربة كقاعدة أساسيّة لحياته، لأنّه من دون الوصول إلى معرفة هذه الحقيقة وتطبيقها يعسر على المؤمن المجاهد أن يكتسب الفضيلة ويرضي الله. العالم جذّاب ومثير بشكل كبير، بل هو شرّير وفاسد. فمن جهة يبدو وكأنّه يقدم لك كلّ ما يسرّك ويبهجك، ومن جهة ثانية هو مستعد لالتهامك والقضاء عليك.
 
كم من النفوس ضلّت وضاعت لسعيها وراء المتعة واللذّة، ولو كان بمقدار بسيط، فيما نرى بالمقابل كيف آثر القدّيسون الغربة والدخول من الباب الضيّق للوصول إلى الاتّحاد بالله. ولنا مثال على هذا إبراهيم الذي أقام في الخيام كغريب: "بالإيمان تغرّب في أرض الموعد كأنّها غريبة ساكنًا في خيام.." (عبرانيّين 11: 9)، لأنّه كان يطلب الوطن الوحيد، وطنًا أفضل سماويًّا (عبرانيّين 11: 13-16). فإن كنّا، حتّى الساعة، لم نولِ اهتمامًا لهذه الحقيقة الإنجيليّة، نستطيع منذ الآن فصاعدًا، أن نباشر بخطوة (الخروج) من العالم دون أن نعتزله (لأنّ اعتزاله الكلّيّ هو لقلّة فقط من الناس)، وأن نصرف بقيّة حياتنا منفصلين عن كلّ ما يضادّ مشيئة الله كغرباء متطلّعين، فقط، إلى الوصول إلى وطننا الحقيقيّ الوحيد، السماء.
 
قد يشتكي أحدنا ويتبرّم مدّعيًا بأنّه رغم محاولاته العديدة لم يتقدّم في حياته الروحيّة. ننصح إنسانًا كهذا أن يسارع ليفتّش نفسه بدقّة ويفحصها تحت المجهر، إذ ربّما أصابه مرض مهلك مهدّم كالشكّ مثلًا؛ أو ربّما ارتاب في صحّة الطريق الذي اختار السلوك فيه، أو كان متزعزع الرأي متقلقل النفس. فالشكّ والارتياب وعدم الثقة وغيرها إنّما مصدرهما الأنانيّة المفرطة، فلينتبه إلى ما يقوله الرسول يعقوب: "إن كان أحد تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء.. ولكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتّة لأنّ المرتاب يشبه موجًا من البحر تخبطه الريح وتدفعه.. رجل ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه" (يعقوب 1: 5- 8).
 
الأنانيّة تجعل النفس مزدوجة الرأي، وتجمع كلّ الأفكار السيّئة والشكوك لتصنع منها ضفيرة لا نهاية لها تلتفّ حول النفس وتخنقها، فتأخذ في التخبّط ولكن دونما نتيجة، وتعود لا تعرف بماذا تتمسّك وماذا تطرح عنها، وهكذا تصير ضحيّةً تذبح نفسها بنفسها على مذبح حبّ الذات والأثرة. بيد أنّ الإنسان المتواضع البسيط ينجو من هذا كلّه، واضعًا أمام عينيه مشيئة الله وما يرضيه فقط. لا ريب في أنّه سيواجه جمًّا من الأفكار، غير أنّه، بسبب بساطته، يستطيع التمييز بينها فيبتعد من السيّئ منها بل يتغلّب عليها.
افتدِ الوقت. اتّضع. اقصد مرشدًا خبيرًا واعترف أمامه بكلّ ما يحصل معك، واتبع إرشاداته، ولا تسمح لنفسك، بعد الآن، لأفكار الشكّ والارتياب أن تعذّبك، والمسيح لا بدّ أنّه سيعضدك ويشفيك.
 
لا تعرف الحياة الروحيّة التوقّف، فهي تولد وتنمو ثمّ تكتمل. ولذلك يجب أن تكون اليوم أكثر روحانيّة من أمس، وغدًا أكثر من اليوم. فكما أنّ الشجرة عندما تزرع في أرض جيّدة وتتعرّض للهواء والشمس وتروى بالماء يزداد ثمرها بشكل طبيعيّ. هكذا هي النفس عندما تُغرس في حقل المسيح، مردّدة على الدوام "يا ربّي يسوع المسيح ارحمني"، لا بدّ لها أن تنمو باستمرار.
 
تتّسم الحياة الروحيّة بميزتين أساسيّتين: المحبّة والتواضع، فالشجرة تكبر وتكبر معها أغصانها وجذورها، والنفس تتقدّم كلّما ازدادت تواضعًا ومحبّة. بالمحبّة تقترب من المسيح وتتّحد به، وبالتواضع تتذكّر خطاياها فتتوب وتنسحق. المحبّة تغذّي التواضع، والتواضع يدعم المحبّة ويسندها. نفس كهذه تتقدّم باستمرار بنعمة الروح القدّوس إلى أن تصل إلى قامة ملء المسيح.
 
لقد أتى المسيح ليقضي على أعمال إبليس ويبطلها ويحرّر النفوس من أغلاله وقيده (يوحنّا 8: 36). ولكن حرّيّة كهذه لا تلغي الطاعة للمسيح ولكنيسته، بل تثبّتها. الغالبيّة العظمى من المؤمنين يسمعون برضًى عن المسيح ويتكلّمون بفيض عن الحرّيّة بالمسيح، غير أنّهم نادرًا ما يلمّحون إلى الخضوع للمسيح، ناسين أو متناسين، أنّنا أشخاص (مرحومون). ومن كان مرحومًا يثق بمن يرحمه ويحبّه ويخضع له، ولا يكفّ عن التوسّل إليه لكي يرحمه بلا انقطاع. وبقدر ما يبقى الشخص عبدًا لمن يحبّ ملتجئًا تحت جناح رحمته، بقدر ما يكون محصّنًا ويعيش بسلام، لأنّ المسيح لا يسمح لأحد أن يجعل من أخصّائه عبيدًا له. الحرّيّة بالمسيح تعني إماتة الأنا والأهواء، وأمّا الحرّيّة خارج المسيح والكنيسة فهي حاجز يقصي المسيح لتعمل الإرادة الذاتيّة كلّ ما تشاء، فيصبح الإنسان عبدًا لهذه الإرادة. وعليه، فمن المستحيل أن يجتمع الخضوع للأنا والخضوع للمسيح في قلب واحد.
 
يسعى البعض ليصبحوا مسيحيّين صالحين بحسب إرادة الربّ وتعاليمه. ولكنّ ما يحصل هو أنّ هؤلاء المؤمنين يرغبون في الوصول إلى الحدّ الأقصى من أعمال الصلاح، ناسين ذواتهم، فيؤذون أنفسهم والآخرين أيضًا.
 
كلّنا نرغب في الخلاص الشخصيّ وخلاص القريب. ولكن، لننتبه فالخطأ الحاصل أمام الآخرين وعدم المبادرة إلى تصحيحه فهو عثرة يحملها صاحبها حتّى يوم الدينونة. ولكن إن كنّا يقظين في تصرّفنا وعلاقاتنا سنخلص نحن وذاك الذي نعيش معه، وإلّا سنكون مدانين ونصيبنا الجحيم.
ليست المسيحيّة مجاملات وملاطفات وما شابه ذلك. المسيحيّة تعني قطع مشيئتنا أمام الربّ. فالتملّق والتقدير المبالغ فيهما، كأدب اجتماعيّ، لا يفيدان شيئًا سوى أنّهما يغذّيان الأنانيّة وحبّ الذات. وعندما يكتشف أحدنا تملّق الآخر سيبتعد عنه، تلقائيًّا، حرصًا على نقاوة فكره وقلبه من الإدانة والكذب، لأن، التملّق بعيد جدًّا عن الحقيقة. وهكذا، وبهروبنا نكون قد وضعنا حجرًا آخر في بناء خلاصنا.
 
الطلب الأساس هو خلاص النفس، ولكن كيف؟ لقد كُتب الكثير وقيل الكثير، أيضًا، حول هذا الموضوع. ولكنّ النقطة الأساس هي التمحور حول صليب المسيح. يرتبط بصليب المسيح أمران لا ينفصلان: الألم والنعمة. فالنعمة تخلّص ولكنّها، في الوقت نفسه، تفترض وجود الصليب. وبناء عليه، فالألم والحزن من مستلزمات الخلاص والدخول في ملكوت السموات.
 
مهما قمنا بأعمال صالحة تنقصنا النعمة لكي نخلص؛ وبالمقابل لا نستطيع تلقّي النعمة إن لم تقترن بها الأعمال الصالحة. كلّ عمل صالح لا بدّ أن نصادف فيه آلامًا أو بمعنى آخر (حمل صليب) معيّن. غير أنّنا، للأسف، نحن نسيء فهم معنى الخلاص، فنظنّ بأنّ الخلاص قد مُنح لنا مجّانًا، فلا داعي، بعد ذلك، للقيام بأيّ جهاد. إن كان الخلاص يتعلّق فقط، بالأعمال، فيجب، إذًا، أن نلغي الجهاد لا سيّما إن سبق وقمنا بأعمال صالحة مختلفة. ولكنّ الخلاص مختصّ، فقط، بالنعمة لا بالأعمال، لذا إن لم نشعر بحضورها في حياتنا، فيجب أن نسعى لاقتنائها والحفاظ عليها متأجّجة في داخلنا.
 
قد يدّعي أحدنا بأنّ النعمة كفيلة وحدها للخلاص، ولكنّنا نسأله: هل نلت النعمة حقًّا؟ هل تحسّ بحضورها فعلًا؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف تسمح لك النعمة بأن تبقى من دون جهاد؟ من نال النعمة لا يسعه إلّا أن ينتقل من جهاد إلى جهاد إلى جهاد من دون هوادة حتّى آخر حياته. فلا يخدّعنّ المرء نفسه. الخلاص يختصّ بالنعمة ولكنّ الأعمال الصالحة تجعل من الإنسان إناء صالحًا لحلول النعمة. ولك مثال على ذلك جميع القدّيسين الذين بجهادهم صاروا أواني صالحة فحازوا حضور النعمة فيهم بفيض.

[1] عن نشرة VOrqo.doxoj Filoqeo.j Marturi.a. العدد 92. شهر شباط لعام 1993.