شقاوة الشيطان وبؤسه
 شقاوة الشيطان وبؤسه[1] 

من هو الكائن الأكثر شقاء وبؤسًا بين خلائق الله؟ إنّه الشيطان، لسيفورس الساقط، كوكب الصبح الساقط. ولكن، لماذا هو شقيّ وبائس رغم أنّ الله خلقه لتسبيحه وتمجيده كما خلقّ بقيّة الملائكة بداعي محبّته الكبيرة؟ لأنّه أساء استعمال السيادة التي خوّله إيّاها الله، فتجبّر قلبه وآثر التمرّد ومال إلى العصيان على الخضوع له. شقّ عصا الطاعة لمّا استقلّ برأي نفسه، راسمًا بذلك طريقًا خاصًّا ليسير فيه، وجاذبًا وراءه عدد كبير من الملائكة. وهكذا تشكّلت جماعة الشياطين، فلم يعودوا من جملة الملائكة الواقفين أمام الله والخاضعين له، فصحّ بهم قول النبيّ: "تكبّرُ قلبِك قد خدعك..إن كنت ترتفع كالنسر وإن كان عشّك موضوعًا بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الربّ" (عوبديا 1: 3-4).

من المهمّ جدًّا أن نأخذ، دائمًا، بعين الاعتبار شقاء الشيطان الذي يعانية بداعي شرّه الكبير. فهو، وبسبب الارتداد الفظيع الحاصل في أيّامنا هذه، يظهر لمن يؤمنون به كثائر عظيم ومرتدّ كبير، وهذا ما يغري عالمنا وبخاصّة الشباب، إذ يقدّم لهم ما يرغبون به ويشتهون، فيتعاطفون معه رغم ضلاله الواضح. 

ضلالات وضلالات أعقبت سقوط الشيطان منها: الحرّيّة المزعومة في اتّخاذ القرارات دون الرجوع لرأي الغير ما يجعل الإنسان غير مدرك للخطر المحدق به روحيًّا، أيّ التفرّد بالرأي الشخصيّ، فلا يعود قادرًا على فهم أنّ إرادة الله هي خلاص كلّ الكائنات؛ كما يعجز عن إدراك محبّة الله اللّامتناهية لكلّ واحد من خلائقه، والسبب في كلّ هذا الكبرياء البغيضة التي تظلم القلب والذهن. وهذا كان سبب سقوط الشيطان.

وهنا قد يتساءل أحدنا: لماذا يعاني الشيطان من الشقاء؟ تقول الحقيقة الظاهرة بأنّ الشيطان هو الكائن الوحيد الأكثر شقاء بين خليقة الله، لكونه فقد فرحه الحقيقيّ وسعادته الكبيرة لمّا انقطع اتّصاله الدائم مع الله كسائر الملائكة، فصار قلقًا مظلمًا مضطربًا، عالمًا بأنّ أيّامه، وإن طالت، ستنتهي في أسافل دركات الجحيم. وبسبب سكره بسمّ الكراهية والحقد والحسد، صار جلّ همّه جذب أكبر عدد ممكن من البشر إلى خاصّته لسببين: أولاهما لكي يؤمّن لنفسه رفقة في العذاب الأبديّ؛ وثانيهما، لكي يقول لله "ها إنّي أسرق منك أولادك". 

ليست مملكة الجحيم عالمًا مضيئًا بهيًّا، وإنّما بقعة لا نور فيها بل ظلام حالك ومكان عذاب ينتظر كلّ من يتخلّف عن محبّة الله، عذاب تكون درجته بحسب درجة الشرّ الذي اقترفه. ولأنّ الشيطان كمقترف أوّل للخطيئة، والمسبّب الأكبر لهؤلاء المعذَّبين سينال عذابات أكثر شدّة وقساوة وضراوة منهم. 

ويطرح السؤال نفسه علينا: ألا يوجد خلاص للشيطان؟ كلّا. إنّ مانع الخلاص هذا لا يعود إلى الله الرحوم المحبّ، لأنّه لو طلب الشيطان السماح من الله على عصيانه، لكان ناله بكلّ سهولة. غير أنّ كبرياء الشيطان العظيمة أعمته فجعلته يرفض الخضوع لله وتاليًا التواضع أمامه وطلب السماح. ولهذا، وبما أنّه عظيم الدهاء وكثير المكر وذو قدرة فائقة، فهو لا يملّ من جذب البشر وإغوائهم على ارتكاب الخطيئة والمنكرات ليكونوا مشاركين له في العذابات الأبديّة كما أسلفنا.

يعيش الشيطان وحدة قاتلة لا حدّ لها وظلام داخليّ لا يوصف ينعكسان، بالضرورة، على كلّ تابعيه، فأنت لا ترى خاطئًا مرتاحًا يعيش في سلام، ولا تجد من يتعامل مع الشيطان فرحًا مبتهجًا؛ الشيطان لا يحبّ أحدًا على الإطلاق، ولا يستطيع التطلّع إلى أمور سامية، لماذا؟ لأنّ انفصاله عن الله أسقطه من مرتبة المحبّة والسموّ. فرح الشيطان الوحيد هو أن يُسقط الإنسانَ في حبائله، قابضًا عليه كما بسلسلة حديديّة فلا يعود يستطيع التحرّر منها، ليضمن بذلك هلاكه الأكيد الأبديّ. الشيطان لا يعرف الفرح، وحسب، بل يغتبط ويبتهج بشكل وحشيّ عندما يقتنص نفسًا ما، ولذلك فهو يغرق، أكثر فأكثر، إلى أعماق بحر شرّه.

يَعِدُ الشيطان تابعيه بسعادة مزيّفة، ينصب لهم الفخاخ المتنوّعة ويكسوها بحلّة مزيّنة جميلة كالشهوة على أنواعها والربح المادّي والمجد الباطل والحسد وغيرها.. غير أنّهم، إمّا لجهلهم أو عدم يقظتهم أو لضعفهم الروحيّ، يسقطون فيها بيسر غير عالمين ماذا ينتظرهم. ورغم مرارة الخطيئة ونتائجها، ورغم خداع عروضه الواضح، لم يصل تابعوه، بعد، إلى ازدرائه، تمامًا، لكون هذه العروض تُقدَّم بشكل جذّاب مغرٍ.

يتقدّم الشيطان بروح الصداقة الغاشّة، ويعرض سعادته المزعومة، ولكن ما أن تأتي ساعة خروج النفس من الجسد حتّى يبادر مطالبًا بحقوقه عليها متشدّدًا بذلك إلى أبعد حدود، ويدينها بقساوة مذكّرًا إيّاها بكلّ الخطايا التي اقترفتها بحسب إيحاءاته وبخضوعها له مدّة حياتها. لا يحسب أيّ حساب لتعاطفها السابق معه، ولا لتوافقها مع مخطّطاته بل، بالحري، يكشف عن خبثه وشراسته، متفاخرًا باستيلائه عليها لا سيّما في تلك اللحظة الحاسمة التي تكون فيها النفس في أوج ضعفها وقد فقدت كلّ قوّة لها، وصارت تحت رحمته. 

عندما سأل أحدهم القدّيس باييسيوس الآثوسيّ إن كان قد رأى الشيطان، أجاب: "أرجو ألّا يراه أحد حتّى ولا الذين نصيبهم الجحيم، لأنّ شرّه الكثير قبّح شكله فصار مرعبًا رهيبًا".

فلنمقت الخطيئة، أيّها الإخوة، ولنبتهل إلى الربّ لكي يزوّدنا بالقوّة اللّازمة لكي لا نعطي سببًا لعدو نفوسنا ليسيطر علينا بسبب تخلّينا الإراديّ عن الربّ الجزيل الرحمة والإحسان. دعونا نكون جرحًا للشيطان لا ربحًا له، سهمًا يشقّه لا نبلًا يقتلنا، طالبين على الدوام شفاعة والدة الإله المقتدرة في جذب رحمة الله لنا. 

الربّ معنا، دائمًا، فنحن أولاده وأعضاء جسده الحيّ أي الكنيسة، لذلك لا يجب أن نخاف الشرّير، فالربّ بتضحيته على الصليب حطّم مملكتّه ودحرها وسحقّ أمخاله وكسّرها. المهمّ في مسيرتنا الروحيّة أن نكون يقظين لنبقى من خاصّة الربّ، وعندئذ سوف تظلّلنا نعمته بلا أدنى ريب.  

[1] عن اليونانية من نشرة صوتير لشهر شباط من العام 2025