مقتطفات من عظة رأس السنة الميلاديّة (1974)
للمثلّث الغبطة البطريرك الياس الرابع معوّض
[1]
سنة جديدة... الكلّ جديد... لا شيء عتيق بعد... التجسّد الإلهيّ قضى على عتيقنا. العتيق هو الموت. لم يبقَ شيء إلّا وتجدّد، حتّى الأرض خلعت عتيقها... إنسانها تجدّد كلّيًّا... المغارة الصغيرة صارت السماء، زاوية واحدة من الأرض وسعت سيّد الأرض والسماء. في التجسّد الإلهي ماتت الحدود لم تعد هناك حدود، الحدود هي من صنع الخطيئة، كلّ شيء بالتجسّد صار بُعدًا، كلّ شيء صار امتلاء، الله احتوى خليقته التي قبل أن تحتوية قدّسها بقداسته، أفرغ ذاته ليملأ فراغها. الخطيئة فراغ، به صارت كلًّا في الكلّ، حياة مقدّسة في قداسة الحياة، الحدود بين الخالق والمخلوق امّحت، لا حدود في الله، الله غير محدود ولا مكان ولا زمان. الشيء المدرَك في الله والملموس هو فيض محبّته وغفرانه، تواضعه في حياته المتجسّدة. لم تبقَ هناك حدود، الكلمة هدمت جدار العداوة وسحقت رأس الأفعى، وطمرت الهاويات التي فتحتها الخطيئة في النفوس، اقتلعت جذور الشرّ من الإرادة وزرعت التضحية والفداء والمحبّة بدلًا من الأنانيّة والأثرة والبغضاء والعبوديّة والفوضى والاضطراب.
حلّ الروح القدس في الحشا البتوليّ فقدّسه، بتقديسه له قدّس كلّ الأرض. المذود الذي وُلد فيه هو كلّ العالم. قداسة المذود هي قداسة كلّ الدنيا، بقداسة الحشا تقدّست الأرض التي منها تكوّن جسدنا. الله لا يحلّ إلّا في البيوت التي تقطنها النعمة. تغلغلت طهارة الحشا إلى كلّ طبيعتنا البشريّة، وصرنا بالمعموديّة من مواليد البتوليّة... الحشا البتوليّ المقدّس هو صورة لبتوليّتنا الروحيّة والفكريّة والجسديّة. المعموديّة هي هذا الحشا البتوليّ الذي مرّ به الإله المتجسّد لنمرّ بها نحن نغسل قذارة أجسادنا ونتزوّد بالنعمة التي للحياة. نولد في المعموديّة أطفالًا لنبقى أولئك الأطفال لا تحرّكنا لذّة عابرة، ولا شهوة فانية، ولا تلامسنا أصابع الأنانيّة الحادّة. كلّما ازداد فكرنا نقاوة كلّما أشرقت طفولتنا ونمت براءةً. نحن بشر أخذنا وجودنا من نقاوة البتوليّة لنبقى في السلام والمحبّة، ولكي نبقى فيهما يجب أن ننمّي طفولتنا، طفولتنا الإلهيّة التي هي فوق الفكر والعقل وهي منبع للمعرفة والحقيقة لأنّها طهر وبراءة ونقاوة. والطفولة بتوليّة فكريّة لذا أحبّها الله وقدّسها وصار طفلًا من أجل خلاصنا، من أجل انعتاقنا وتحرّرنا من شيخوخة بغيضة لا تلد إلّا الدمار والفوضى والبؤس والشقاء ولا تسلك إلّا الدروب المفروشة بالقتاد والأشواك.
أين هو الإنسان من هذا السرّ العظيم؟ أين هي ثمار التجسّد الإلهيّ من مذاقه؟ ألا يزال يحمل اسمًا له أم أنّه احتضن الشجرة الحاملة الحياة؟ أين هو من الحقيقة؟ أحرّره الحقّ، أآمن به حتّى يحرّره؟ من سير الإنسان يتّضح أنّ الإنسانيّة لم تتقدّم خطوة واحدة في طريق الحقّ والمعرفة. لقد ملأت رأسها بالنظريّات وانكبّت تحتضن الدنيا. أشواقها بقيت أشواق التراب وأحلامها أحلام الموت.. الإنسان المولود الإلهيّ إله أخطأ الطريق وجهل ألوهته الحقيقيّة. العالم تابع للإنسان، إن مات الإنسان مات العالم وإن قام قامت.
سنة جديدة تقبل، والعالم لمّا يزل كما هو، تنصرم الأجيال والصراع بين الإنسان والإنسان لا يزال قائمًا ويشتدّ. حروب تقوم من أجل الحرّيّة، فتموت الحرّيّة تحت أقدام الهوى والأنانيّة؛ وثورات تنشب من أجل رفاهيّة الإنسان، من أجل سيادة العدالة والمحبّة فتُداس العدالة وتُلحَد المحبّة.
لماذا كلّ هذا الحقد البشريّ؟ لماذا لا يشبع الإنسان؟ لماذا يحبّ أن يتغذّى من لحم أخيه ويشرب من دمه؟ أيأكل الإنسان غير لحمه إن أكل لحم أخيه؟ أيقتل غير ذاته إن قتل جاره أو قريبه أو أيّ شخص آخر؟ كلّ شيء مُسخَّر من أجل الدمار والقتل والفتكّ، والحقيقة أمامنا، فنبعدها. ثوب السلام منشور فوق أمراس ميلادنا الإلهيّ فنشقّه ونجعله قطعًا ممزّقة ونمسح الدماء التي تلوّث أصابعنا.
لا شيء يوطّد السلام في نفوسنا غير فهمٍ لمجد الإنساني الحقيقيّ؛ وغير مسلك نبتدئ به بالمحبّة ونبقى في التواضع ونعلو بالإيمان. إنّنا مخلوقون للحياة لا للموت.