من أقوال المثلّث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع حدّاد
من أقوال المثلّث الرحمات البطريرك غريغوريوس الرابع حدّاد[1]
 
         ... هذه السيرة التي هي فخرنا وإكليلنا في المسيح، تكون لنا بأن نصلب أجسادنا مع الآلام والشهوات، فنعيش بالروح ولا نكون ذوي عجب ولا نغاضب ولا نحسد بعضنا بعضًا، فيتوفّر فينا ثمر الروح الذي "هو المحبّة والفرح والسلام والأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والعفاف" (غلاطية 5: 22-23)، ولا يكون لنا هذا الثمر إلّا إذا كنّا كالعود المغروس على مجاري المياه، أي أن نكون في بستان الصوم الزكيّ الذي هو التربة الخصيبة التي تعطي نموًّا لكلّ من يمدّ فيها عروقه فتهطل عليه بركات الله "مثل ندى حرمون الذي ينزل على جبل صهيون" (مزمور 132: 3).6c16f95e5837b7a15cc22a32eb72fad8_XL.jpeg

         الصوم هو الحصن الحصين الذي يصدّ جيوش الشهوات والمعاصي والمرفأ الأمين للوقاية من عواصف الخطوب، فيصدّ أمواج بحر العالم ويبدّل اضطرابهم بسكينة، بل هو الربّان الحاذق الذي يسيّر سفينة الحياة على أتمّ استقامة إلى ميناء الخلاص بيسوع المسيح، الميناء الذي في أرجائه تغتبط النفوس النقيّة بالانضمام إلى محفل الملائكة والقدّيسين والأبرار الطاهرين، الذين ماثلوا وهم بالأجساد سيرة الملائكة المتجرّدين عن الأجساد لصونهم نفوسهم من عبادة أوثان البطن والجثو لأصنام العين، وكبحوا جماح كلّ فكر رديء باتّخاذهم الاعتصام بمشيئة الله نطاقًا على أحقائهم، فلم يحبّوا العالم ولا ما في العالم "لأنّ كلّ ما في العالم هو شهوة الجسد وشهوة العين، والعالم وشهوته يزولان وأمّا من يعمل بمشيئة الله فإنّه يبقى إلى الأبد" (يوحنّا 2: 15-18) ولذلك هم يهتفون: "أمّا نحن فسيرتنا في السماوات التي منها ننتظر المخلّص الربّ يسوع المسيح" (فيليبّي 3: 20).

         والصوم الذي يرتضيه الله لا يكون في لزومنا منع الجسد عن التنعّم بالمآكل اللذيذة والمشروبات الشهيّة، بل هو صوم اللسان والجوارح والنفس عن القبائح، فنصوم عن كلّ ما لا يرضي الله، أي نميت اللذّات المميتة وآلام النفس المهلكة، ونوجّه نهضات القلب إلى البرّ ونقصي عنّا الشره إلى المال واشتهاء مقتنيات الغير، ونغالي في ثمن الوقت فلا نبذله لتافهٍ كالحاضرات البطّالة واللهو والعزف، بل نجعله وقفًا على العبادة والتقشّف وعمل الفضيلة. فالصوم لا يكون صومًا حقيقيًّا إلّا متى كانت الغاية منه تواضع النفس قدّام الله بسيرة الطهارة، وأن نعطف على الأخ المحتاج بقلب نقيّ وكفٍّ نديّةٍ بأعمال الصلاح التي عدّدها ربّ المجد وأثاب عليها بمثيراث المُلك المعدّ لمختاريه منذ إنشاء العالم وهي "إطعام الجياع وسقي العطاش وإيواء الغرباء وإلباس العراة وعيادة المرضى وزيارة المسجونين" (متّى 25: 35) ودفن الموتى الذي صرّح أنّه عمل الملائكة (لوقا 16: 22)، وإرشاد الضالّين الذي عمل المخلّص نفسه، فالصوم الخالي من المبرّة لا نصيب له من رضى الله تعالى، وفي مثل العذارى العشر دليل واضح وبرهان دامغ، فإنّ الخمس الجاهلات لم يقدرن على أن يماشين العذارى العاقلات، بل تأخّرن عنهنّ وحرمن دخول الخدر لأنّهنّ لم يأخذن العمل الصالح كالزيت مع مصابيحهنّ.

         فصوموا صومًا مقبولًا لديه تعالى، بأن تنقّوا حقول قلوبكم من أشواك الخطايا والأفكار المضطرمة، وتقدّموا إلى الاعتراف بتوبة وخشوع، وتقشّفوا في مأكلكم ومشربكم فتصير قلوبكم ليّنة كالأرض التي أجاد الفلّاح حرثها لتقبّل البذار فتقع كلمات الإرشاد والهداية في أعماق تربتها الخصيبة، وتنمو فتعطي غلّات جيّدة، وأزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عينيّ الربّ القدّوس، وكفّوا عن الإساءة وتعلّموا الإحسان وأنصفوا المظلوم واقضوا لليتيم وحاموا عن الأرملة وتصدّقوا على المحتاجين بكلّ نفس رضيّة، ثقة بأنّ الله يقتبل عطايا المحسنين لأعمال البرّ كتقادم مقبولة، لأنّ من يعطي المسكين يقرض الربّ والبرّ يرفع شأن الأمّة، وسمة الصدّيق أنّه بدّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد.

         وحذار أن يبطئ أحد في قيامه بواجب الصوم الحقيقيّ، الصوم المقرون بالتسامح والتصافي مع الآخرين، ووفاء واجبات العبادة بالصلوات والحسنات فإنّ الأيّام خبيثة "فاصحوا واسهروا فإنّ إبليس خصمكم كالأسد الزائر يجول ملتمسًا من يبتلعه" (1بطرس 5: 8). فلا يجعل أحد من نعاس عينيه العقليّتين سبيلًا لكي يقتاده المضلّ إلى حمأة الشرور والمعاصي، ويقصيه عن الخلاص المعطى مجّانًا بيسوع المسيح ويجعله عبدًا لأوثان المأكولات والملذّات الباطلة. وسارعوا إلى الاعتراف في بداءة أيّام الصوم قبل ختامها، فأسرعوا حينما يكون خدّام المذبح لهم وقت متّسع لاستماع اعترافاتكم، فذلك خير من أن تأتوا إليهم وهم منهكون في واجبات عديدة، فلا يتّسع لهم أن يقوموا بكلّ ما يجب أداؤه نحو نفوسكم من المعالجة الروحيّة، فإنّنا نجد المريض بالجسد يتطلّب الطبيب والدواء ببذل وكدّ لأجل صحّة الجسد، فلا يكن اهتمامنا بالجسد أكثر من اهتمامنا بالروح، فالجسد إلى التراب يعود والروح من نفخة الله وإلى الله مرجعها، فهي أفضل وأولى بالعناية.

         فبهذا التصرّف المقرون بالوداعة يكون صومكم منمّيًا فيكم الفضيلة، لتكونوا خالصين لا عثار فيكم مملوئين من ثمر البرّ الذي هو بيسوع المسيح لمجد الله وحمده (فيليبّي 1: 10-11)، وتنطلق أعمالكم بلسان طلق ونغمة ملائكيّة: "أمّا نحن فسيرتنا في السموات التي منها ننتظر المخلّص الربّ يسوع المسيح" (فيليبّي 3: 20).
 
من أخباره
 
** كان البطريرك غريغوريوس يبقى في الكنيسة بعد خدمة جنّاز المسيح، في الأسبوع العظيم، حيث تقفل أبواب الكنيسة عليه بناء لطبله. ويوم القيامة وعندما يقول الكاهن "إفتحي أيّتها الأبواب الدهريّة ليدخل ملك المجد" تفتَح الأبواب من تلقائها.
** عندما كان البطريرك غريغوريوس يصلّي راكعًا أمام باب الشاغورة المقفل، يُفتَح الباب تلقائيًّا وبشهادة المؤمنين المصلّين معه.
** كثيرًا ما كان يطوف على حاشيته وخدّامه قبل أن يذهب إلى فراشه، طالبًا منهم مسامحته عمّا أغضبهم به، وعمّا بدر منه حتّى لا يدع الشمس تغيب على غضبه.
 ** جثا يصلّي في غرفته من المغرب حتّى منتصف الليل. عيل صبر الطاهي فدخل الغرفة فأبصره راكعًا فسأله عن إحضار العشاء. فأجاب غريغوريوس: "أعطه غدًا لأوّل فقير يعبر دارنا، فلا يليق أن آكل وغيري يتضوّر جوعًا".
 

[1] كتاب البطريرك غريغوريوس الرابع حدّاد. ماري مالك دبس. منشور بطريركيّ.