حاجة الإنسان للتعلّق بأحد للأب المغبوط سمعان كرايابولوس

حاجة الإنسان للتعلّق بأحد للأب المغبوط سمعان كرايابولوس[1]
في 5/10/2022
 
يجب أن ترتكز العلاقة بين الناس على المحبّة الحقيقيّة، فمرّات كثيرة نظنّ بأنّنا نحبّ، أو إنّنا نتعب فوق الطاقة لتكميل المحبّة، فيما لا نملك في أعماقنا المحبّة الحقيقيّة. فعندما لا نتعامل مع الآخرين على أساس المحبّة الإنجيليّة الحقيقيّة، فإنّنا حتمًا سنتّخذ من الآخرين إحدى المواقف الثلاثة الآتية: إمّا موقف التعلّق بهم، وإمّا الموقف العدائيّ تجاههم، وإمّا موقف اللّامبالاة والبعد عنهم.
 
سوف نتكلّم في هذه السطور عن الموقف الأوّل أي التعلّق بهم: كيف نفسّر عدم نموّ الابن الروحيّ في حياته الروحيّة، وهو الذي يمارس الاعترافات المتواصلة ويُعتَبَر من أكثر الأولاد الروحيّين إخلاصًا وأشد المسيحيّين التزامًا؟

إن كان موقفه موقف تعلّقٍ بأبيه الروحيّ، فهو لن يتقدّم أبدًا في حياته الروحيّة. أناس كثر لا يستطيعون العيش دون أن يعتمدوا على أحد، أي أنّ وجودهم متعلّق بشخص آخر، وهذا خطأ.
 
إنّ هذا الإنسان لا يملك إيمانًا حقيقيًّا بالله، وهو لا يستطيع أن يقول "أؤمن بالله، لقد أتى المسيح إلى العالم من أجلي أنا أيضًا".
 
على الصعيد الروحيّ يمكننا القول بأنّ هذا التعلّق يبدأ من حبّ الذات والإعجاب بها، من الأنانيّة، من الشعور بعدم الأمان. والإنسان الذي يتعلّق بالآخر بهذه الطريقة، لا يستطيع أن يقف على رجليه بمفرده، بل يجب أن يمسك بيد أحدهم. فماذا يحدث عندما يتعلّق المرء بالآخرين؟


كلّ إنسان يحبّ الآخرين قد يبدو له أنّه متعلّق بهم، ولكن إن كانت محبّته تنبع من محبّته للمسيح، المحبّة الأصيلة والصحيحة، فإنّها تنفي هذا التعلّق. ولكن عندما لا يملك الإنسان هذه المحبّة، وعندما يكون مريضًا في العمق نفسيًّا وروحيًّا، فإنّ خضوعه للآخرين وتعلّقه بهم يتّخذ طابعًا مَرَضيًّا، ولا يسمحان له بأن يحيا حياة روحيّة.
 
 وعلى الصعيد النفسيّ يفقدانه التوازن ويحرمانه من الحرّيّة الداخليّة أي لا يدعانه يعيش كشخصيّة حرّة. فالإنسان، في هذه الحالة، يطلب المحبّة من الآخرين ورضاهم عليه كحاجة ضروريّة.

ولكي أكون أكثر وضوحًا أقول: كلّنا نطلب محبّة الآخرين ورضاهم، قليلًا أو كثيرًا، ولكنّ الذي يطلب ويشعر بهما كحاجة ملحّة، فإنّه عندما يرى بأنّ الآخرين لا يحبّونه، وأنّهم غير راضين عنه، وعندما لا يجد الرفقة التي يطلب، فإنّ اليأس يستولي عليه في الحال، ويتعرّض لحالة نفسيّة وروحيّة سيّئة لا تدعه يهدأ، لا تدعه يشعر بأنّه إنسان حرّ، ولا تدعه يقف على رجليه، إذ يفقد توازنه النفسيّ، ولا يعود باستطاعته التقدّم في حياته الروحيّة.

فاسمحوا لي أن أقول بأنّ حياته المسيحيّة هي حياة كاذبة مرائية. هذا يعني أنّ مثل هذا الإنسان المسيحيّ يتعلّق بشخص يقدّم له ما يطلبه، أو بالحري، قد أرضى حاجته للمحبّة وللرضى. وهكذا يتعلّق بالشخص الذي يشبع حاجاته النفسيّة المرضيّة، فيلتصق به، بحيث يصبح غير قادر على أن يرى غيره أو أن ينفصل عنه.

1575849627_8-12.jpegلذلك مرّات كثيرة قد نرى إنسانًا يتبع شخصًا آخر بشكل أعمى، ونتساءل ماذا يجد في هذا الشخص لكي يتبعه ويخضع له ويطيعه بهذا الشكل الأعمى وبكلّ إيمان؟ كيف لا يرى فيه بعض الخطايا الكبيرة والصارخة؟ إنّه لا يرى كلّ ذلك، بل عمي لدرجة لا يعود يرى حتّى السيّئات التي قد توجد في ذاك المتعلّق به والتي تجعل منه مرشدًا غير أصيل.

 
الطلب المرضيّ للمحبّة:

وصاحب هذه الحالة يطلب بشكل ملحّ مرضيّ الإعجاب والمحبّة والدعم والحماية، وإن لم تتوفّر له، فهو ليس، فقط، يشعر بالقلق، بل يضيع ويغوص في العدم.

وقد يحاول أنّ يتخلّص من هذا التعلّق بالآخر أو بالآخرين، ولكنّه حالما يشرع بذلك يشعر بأنّ شيئًا ما يختفي من تحت قدميه، وإنّه يغرق في الخواء وسيتدمّر، ولكي لا يتدمّر يتمسّك باندفاع أكبر بهذه الحالة المرضيّة وغير السويّة أي التعلّق بالآخر.
 
إنّ مثل هذا الإنسان يكون شغله الشاغل وهمّه الأوحد ألّا يفقد إعجاب الآخرين، ألّا يفقد محبّتهم وحمايتهم ورضاهم. ومن أجل ذلك يكون مستعدًّا لأن يقوم بأصعب الأعمال التي تدفع الآخرين إلى إبداء دهشتهم واستغرابهم من قيامه بها.
 
وطبعًا، فإنّه يقوم بكلّ ذلك لكي يحافظ في داخله على شيئ مرضيّ غير سويّ على الصعيد النفسيّ والروحيّ ولا يرضي الله بتاتًا. وعلينا هنا أن نشير إلى أنّه بقدر ما يشعر مثل هذا الإنسان في أعماقه بحاجته للمحبّة المرضيّة ولرضى الآخرين عليه، بقدر ما يفكّر في إشباعهما، فيركض ليقدّم خدماته كعامل خادم ولكن ليس بدافع محبّة حقيقيّة.

والدليل على ذلك أنّه يفعل كلّ ذلك لكي لا يخسر من أيّ شخص كلمة "برافو"، وهو لا يسعى إليها ككلمة، فقط، بل هدفه أن يبدي الآخر، بكلّ ما للكلمة من معنى، أنّه مسرور منه وراضٍ عنه وأن يحبّه ويحميه.
 
وقد يبدو للناظر إلى أعماله بأنّه يعملها، فقط، من أجل مصلحة الآخرين ناكرًا نفسه وكلّ مصلحة له، مضحّيًا من أجل راحة الآخر. ولكنّه في العمق لا يفعل شيئًا سوى خدمة هذا الميل المرضيّ الذي لديه أي ألّا يخسر هذه المحبّة التي يتوقّعها من جهة ما.
 
وما يدعم قولي هذا، خبرة آباء الكنيسة من شيوخ وآباء روحيّين ونسّاك وهدوئيّين، فإنّهم كلّهم لا يعطون أدنى أهمّيّة لمثل هذه الأعمال التي يرونها عند أبنائهم الروحيّين. وقد يبدو للوهلة الأولى أن تصرّفهم هذا يدلّ على قساوة وعدم إنسانيّة من قبلهم. ولكنّ هذا ليس صحيحًا أبدًا، لأنّهم يجاهدون لكي يحفظوا أبناءهم الروحيّين من هذه الحالات المرضيّة التي ليست روحيّة ولا علاقة لها بالحياة المسيحيّة الأصيلة والحقيقيّة.
 
وهكذا، انطلاقًا من كلّ ما قلناه، نستطيع أن نفهم، من جهة، لماذا لا نتقدّم روحيًّا رغم كلّ أتعابنا، ونفهم، من جهة أخرى، كم من الأتعاب التي نبذلها تذهب هباء. وعليه، يجب ألّا نتردّد ونستصعب ونكسل في إلقاء نظرة، كلّ واحد منّا إلى داخله، لربّما يجد في العمق أمرًا لا يسير كما يجب.
 
بمعنى أن يفحص أعماله التي ربّما يقوم بها طالبًا "أن يجد نفسه" فيما يهدّدها كما يقول الآباء. لأنّ الإنسان عندما يطلب هذه المحبّة المرضيّة من الآخرين، فإنّه يطلب أن يريح أنانيّته كما يقول الآباء، بمعنى أنّنا قد نقوم بهذا العمل أو بذلك، ولكنّنا نطلب ذاتنا في كلّ ما نقوم به، ولهذا لا نجدها وإنّما نعمل على تدميرها ونسيء في الوقت نفسه للآخرين.
 
بينما عندما نقوم بهذا الغوص إلى داخلنا، ونلاحظ أمرًا ممّا قلناه واجتهدنا في القيام بما يلزم للتخلّص منه، فإنّ الله قادر على أن يحرّرنا من كلّ تعلّق وأن يقودنا إلى سواء السبيل، إلى المحبّة الحقيقيّة، إلى الخلاص.


[1] كان أبًا روحيًّا للدير النسائيّ ميلاد العذراء/بانورما- تسالونيك. رقد في العام 2015. النصّ مقطع من كتاب "أتعرف ذاتك؟" باليونانيّة: Gnwri.zeij to.n e`auto. sou*، الفصل الثالث: موقفنا تجاه الآخرين.