معنى الوداعة للأستاذ كوستي بندلي
معنى الوداعة للأستاذ كوستي بندلي[1]
في 11/1/2021

 
** معنى الوداعة تجاه المعتدي:
... يأمر يسوع بالتصرّف الوديع حتّى مع المعتدي ذلك لأنّ الغاية هي خلاص هذا المعتدي أيضًا. إذا أجبنا على عنفه بالعنف، كيف يمكننا أن ننقذه من الشرّ الذي يستعبده؟ إنّما يكون قد غلبنا حقًّا بدفعه إيّانا إلى مشاركته في الكراهية والبغضاء. أمّا إذا قابلنا عنفه بالوداعة، فلربّما تركنا للمحبّة مجالًا للدخول إلى قلبه بتقديمنا شهادة حيّة للمحبّة الحقّة، المحبّة غير المشروطة، التي تشمل كلّ إنسان على علّاته، وإن كان ظالمًا حقودًا، المحبّة المنتصرة التي لا تتزعزع أمام هجمات العنف.111.jpg هذه المحبّة وحدها، لأنّها من الله، قادرة أن تنير قلب الإنسان المكبّل بالحقد، وأن تحطّم أغلاله، وأن تنقله من عالم العنف إلى عالم الله الذي "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين". إنّها وحدها أقوى من الحقد وبها وحدها يمكن أن يغلب غلبة جذريّة، كاملة. بهذا المعنى كتب الرسول بولس: "لا تنغلب للشرّ، بل اغلب الشرّ بالخير" (رومية 12: 21).
 
** الوداعة لا تنفي الشدّة:
ولكن الوداعة ليست بالميوعة كما تصوّرها نيتشه. إنّها لا تنفي الشدّة. فالشدّة ضروريّة أحيانًا لإيقاظ الضمائر المتحجّرة. إنّ محبّة الناس تقتضيها أحيانًا، فمن يحبّ إخوته يتوجّب عليه أحيانًا أن يقلقهم ويزعجهم لخيرهم، وذلك دائمًا على حساب راحته الخاصّة. ولذلك تصرّف يسوع بشدّة في عدّة ظروف من حياته. لقد كان، إلى جانب وداعته، شديدًا عندما يقتضي الظرف الشدّة... فقد حدث له أن خاطب بلهجة قاسية الشعب اليهوديّ وخاصّة رؤساءه، موبّخًا إيّاهم على كبريائهم وريائهم وسعيهم وراء الخوارق وعدم إيمانهم... ولكنّ يسوع استعمل الشدّة في تلك الظروف كلّها دون أيّ بغض أو كراهية. ولم يكن لغير المحبّة مكان في  قلبه. فقد كان يكتنف بحنوّ لا مثيل له ذلك الشعب غير المؤمن، فيشفي مرضاه ويبشّر مساكينه. وكان يدعو تلاميذه البطيئي الفهم، المنهمكين بأمور الدنيا: "يا أولادي الصغار..."، أمّا الكتبة والفرّيسيّون الذين قتلوه فقد صلّى من أجلهم على الصليب، وبكى على أورشليم فيما كان يدعوها "قاتلة الأنبياء" وينذرها بالعقاب. لم يستعمل يسوع إذًا الشدّة إلّا كما يستخدم الجرّاح المبضع، ليس بغضًا بالمريض بل في خدمته ومن أجل سلامته.
 
** الوداعة التي لا تعني الخنوع:
وهكذا يتّضح أنّ الوداعة الحقّة لا تعني الخنوع أو التخاذل. إنّما يرافقها تصميم في تتميم الرسالة مهما كانت العقبات ولو قاد ذلك إلى الموت. الوديع لا يبغي إهلاك الآخرين ولكنّه لا يتراجع أمام تضحيته نفسه إذا اقتضى الأمر. إنّ يسوع لم يكن متخاذلًا بل صلبًا في موقفه من عظماء هذا الدهر وهذا كما يتّضح مثلًا من تلك الحادثة التي يرويها لوقا الإنجيليّ: "وفي تلك الساعة تقدّم إليه نفر من الفرّيسيّين وقالوا له: انطلق، اذهب من ههنا، فإنّ هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم: اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب. ها أنذا أطرد الشياطين، وأجري الأشفية اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث ينقضي أجلي ولكن لا بدّ من أواصل السير اليوم وغدًا وما بعده (لوقا 13: 31-32). ذلك الحزم والتصميم عينه، تصميم من قدّم حياته طوعًا في سبيل تتميم رسالة المحبّة الملقاة على عاتقه، نجدها في موقف يسوع عند وقوعه في أيدي أعدائه ومحاكمته الظالمة، فإنّنا نراه يتصرّف تجاه أعدائه وقضاته المضطربين الخائفين، وكأنّه الحاكم لا المحكوم عليه، بوداعة يرافقها ثبات هادئ قويّ.
 
** الوداعة لا تنفي مكافحة الشرّ:
الوداعة لا تعني مساومة الشرّ. إنّ مصدرها المحبّة، والمحبّة لا بدّ لها أن تتجنّد لمكافحة الشرّ، لأنّ الشرّ يهدّد الآخرين في أجسادهم وفي نفوسهم. لا تعني الوداعة إذًا أن يقف الإنسان مكتوف الأيدي أمام الشرّ. إنّما تفرض أسلوبًا خاصًّا في مكافحة الشرّ. تفرض أن يكافح الشرّ دون بغض للشرّير، وأن يلجأ إلى الوسائل السلميّة ما أمكن ذلك، وأن يسعى لإيقاف الشرّ بالتوجّه إلى عقول الناس، مهما سُخِّرت في خدمة الأهواء، وإلى قلوبهم مهما انحرفت، وإلى ضمائرهم مهما تحجّرت. أنّها تفترض ثقة بأنّ صورة الله لا تزال كامنة في صميم الإنسان، وإن تشوهّت. الوداعة، إذًا، فيها الكثير من التأنّي "المحبّة تتأنّى..." على حدّ قول الرسول، لأنّ فيها الكثير من الاحترام للآخر، ولو ضلّ السبيل. وقد كتب جيلبر سيسبرون Gilbert Cesbron: "ليس عكس العنف السلبيّة، لكن الصبر". ولكنّ صبر الواداعة هذا أقوى سلاح ضدّ البشر. الوداعة تكافح الشرّ في جذوره لأنّها تحاول استئصال البغضاء من قلب المعتدي وربحه إلى معسكر المحبّة، بينما تؤول مكافحة الشرّ بالكراهية والبغضاء إلى تخليده، ولو تغيّرت الأوضاع الخارجيّة. ولذلك، بما أنّ للواداعة تلك الفاعليّة الفائقة في مكافحة الشرّ، نرى قوى الشرّ تتألّب عليها بضراوة، فيحدث ما هو مذهل لأوّل وهلة، أي أنّ الوديع الذي لا يحقد على أحد ويبشّر بأن لا يُحقَد على أحد يصبح فريسة الحقد، وما استشهاد غاندي رسول اللاعنف سوى مثل بليغ مؤثّر لذلك.
 
 
[1] جزء من مقالة للأستاذ كوستي بندلي ورد في مجلة النور لعام 1964 تحت عنوان المسيح والعنف.