الأحد 19 تشرين الأوّل 2025
15 تشرين الأول 2025
الأحد 19 تشرين الأوّل 2025
العدد 42
الأحد 19 بعد العنصرة
اللحن الثاني، الإيوثينا الثامنة
أعياد الأسبوع:
19: النبيّ يوئيل، الشَّهيد أوَّارس، 20: الشَّهيد أرتاميوس، جراسيموس النَّاسك الجديد، 21: البار إيلاريُّون الكبير، القدِّيسة مارينا التي من رايثو، 22: أفيركيوس المعادل الرُّسل، الفتية السَّبعة الذين في أفسُس، 23: يعقوب الرَّسول أخو الرَّبّ وأوَّل أساقفة أورشليم، 24: الشَّهيد أريثا (الحارث) ورفقته،، 25: الشَّهيدان مركيانوس ومرتيريوس، تابيثا الرَّحيمة التي أقامها بطرس.
هَيْكَلُ اللهِ الحَيّ
يَكشِفُ القدّيسُ بولسُ الرسولُ في قراءةِ الرسالةِ الثانية إلى أهلِ كورنثوس [1] حقيقةً مُذهلةً: أنّ الإنسان، بوصفِه كائنًا ذا نفسٍ وجسدٍ معًا، هو هيكلٌ للهِ الحيّ. فقد أَنعَمَ اللهُ على الكيانِ البشريّ بأسمى الامتيازات وأعظمِ المواهب؛ كما قيل:
" طبَعَ فيه ختمَه، بعدما خلقَه على صورتِه كمثالِه [2] .
وهبَه البُنْيَةَ الجسديّةَ العجيبةَ المُحيِّرة.
أَفاض عليه موهبةَ العقلِ والنُّطقِ المُفصح.
أغدق عليه بسخاءٍ غِنى محبّتِه الإلهيّة.
وجعلَه، كمسك الختام لكلّ هذه النِّعَم، هيكلًا للهِ الحيّ، واعدًا بأن يَسكُنَ فيه…".
لذلك يُشيرُ رسولُ الأمم على المسيحيّين بأنّهم، بوصفِهم هياكلَ للهِ الحيّ، لا يمكنُهم أن يَتَّحدوا بظُلمةِ الشرّ، ولا أن تكونَ لهم شركةٌ مع غَيرِ المؤمنين، ولا أن ينساقوا إلى روحِ عبادةِ الأوثان. فمن المعروف أنّ كلَّ هيكلٍ مُكرَّسٍ لله يمكن أن يتعرّضَ للتدنيسِ والتشويه. هكذا حدث مرارًا كثيرةً في التاريخ حين وقعت كنائسُ الإيمانِ المسيحيّ في أيدي غيرِ المؤمنين وأعداءِ الكنيسة، فتعرّضَت للتدنيسِ والدمارِ والخراب، ولتحويلاتٍ دنيويّةٍ شوهَت معالمَها بهدفِ طمسِ تاريخِها ومحوِ ميزتِها المقدَّسة. وعلى النحوِ نفسه، يُمكن أن يَلحَقَ التدنيسُ والتشوّهُ بالكيانِ الإنسانيّ نفسِه، بصفته هيكلًا لله الحيّ ومَسكِنًا للروح القدس، بطرائقَ شتّى سنركِّز فكرَنا على اثنَتَيْن منها.
تَدْنيسُ الكِيَانِ الإنسانيِّ
أوّلُ هذه الطرائقِ هو الخطيئة. يَصِفُ القدّيسُ فيلوثيوس كوكينوس (بطريركُ القسطنطينيّة في القرنِ الرّابعِ عشر) [3] هذا التدنيسَ بأسلوبٍ بليغٍ ومميَّز، إذ يُشيرُ إلى أن "الخطيئةَ واقعٌ يَضطربُ له الإنسانُ في داخله. فهي تُمزِّقُهُ شطرَيْن، وتُزَعْزِعُ أسُسَ كِيانه، وتُصدمُهُ بعُنف. إنّها تُقْفِرُ النَّفْسَ، وتَفصِلُها عن اللهِ وملائكتِه (أصدقاءِ الله)، وتُبعِدُ عنها الأفكارَ الصالحة، وتُسْلِمُ الإنسانَ إلى وحشيّةِ الشَّياطين". إنّ أثرَ الخطيئةِ في إفسادِ الإنسانِ وتشويهِه بالغٌ إلى درجةٍ أنَّها "تَؤولُ به في النهايـةِ إلى عقوبةٍ ذاتيّةٍ وإدانةٍ ذاتيّةٍ وتَهلكةٍ ذاتيّة، وإلى أن يُغلِقَ الإنسانُ على نفسِه سِجنًا من الوِحدةِ والمأزقِ المسدود، ومن المرضِ والعجز، وأن يُسْلِمَ نفسَهُ إلى الموت، ذلك الموتِ الّذي اختارَه بإرادتِه بدلًا من الحياة. إنّها الجحيمُ نفسُها داخلَنا، تلك التي أردناها بدلًا من ملكوتِ الله، وهي ثمرةُ اختيارِ ال"لا" في مواجهةِ الله، عِوَضًا عن قولِ "نَعَم لله".
أمّا الطريقُ التالي لتدنيس الوجودِ الإنسانيّ، كهيكلٍ لله الحيّ، فهو عدمُ الإيمان (أي الابتعادُ عن الإيمان القويم.) لقد خُلِقَ الإنسانُ لكي يتواصلَ ويتعايشَ مع الله في إطارِ الإيمان، وهو الإيمانُ الّذي يشكِّلُ مع المحبّةِ والخبرةِ السّرائريّةِ أساسَ هذه الشركة المقدّسة. فإنّ عدمَ الإيمان حالةٌ مخالفةٌ للطبيعة في علاقةِ الله بالإنسان، وهي من اختيارِ إرادةِ الإنسان الحرّة، لكنّها تَحْصُرُه في حدودِ الواقعِ الأرضيّ الخانق والوهميّ، ذلك الواقعِ الذي يُصبِحُ في نهايةِ المطافِ، بالنسبةِ إلى الإنسانِ عديمِ الإيمان، مثلَ سِجْنٍ وعذابٍ دائم. بيدَ أنّ عدمَ الإيمان لا يقتصرُ على الذين اختاروا أن يحيوا حياةً بعيدةً عن الكنيسة، مُقْفِرِين ذواتِهم بغيابِ اللهِ الحيّ منها، بل يشمل أيضًا أولئك المسيحيّين الذين يفهمون الإيمانَ فهمًا غريبًا مَغْلوطًا على نحوٍ أنانيٍّ أو تَعَصُّبيٍّ أو مُرائيّ. فإن الطلبةَ "زِدْنا إيمانًا" (لوقا ١٧: ٥) والتحذيرَ الرسوليَّ "مَنْ يَظُنُّ أنَّهُ قائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لا يَسقُطَ" (١كورنثوس ١٠: ١٢) يُبيِّنان تمامًا هذا الأمر: الاحتمالَ الكبيرَ بأن يُصبحَ المؤمنُ غيرَ مؤمن! وذلك لأنّ خطرَ الغرورِ والاكتفاءِ الذاتيّ الشخصيّ كامِنٌ بقوّةٍ في كلِّ مؤمن. فكلُّ مؤمنٍ يَعُدُّ الإيمانَ امتيازًا خاصًّا به، لا عطيّةً إلهيّةً مُوحًى بها، يُهدِّدُهُ في أيّةِ لحظةٍ خطرُ أن يُصبحَ فريسيًّا، أن يتحوَّلَ إلى شخصٍ متعصِّبٍ يَزدَري مَن لا يُوافِقُهُ الرأيَ، ويَنفِرُ من كلِّ مَنْ لا يؤمنُ مثلَه، بل وربما يُبغِضُه أيضًا"[4] .
إن كلًّا من الخطيئةِ وعدَمِ الإيمان، يا إخوتي، هما من عَمَلِ إبليس، الذي يبذلُ كلَّ جهدٍ ليُبيدَ حضورَ اللهِ الحيِّ في داخلِنا. وكما قال فيودور دوستويفسكي: "الإنسانُ ساحةُ مَعركةٍ هائلة؛ إذ على أرضِه تشتبكُ قوى اللهِ وقوى إبليس في صراعٍ عنيف. كلاهما يُطالِبُ بالنَّصْر عليه. اللهُ يُريدُ أن يجعلَه هيكلًا له، والشيطانُ يبتغي أن يجعلَه هيكلًا للأوثان. اللهُ يودُّ أن يرفعَه إلى أن يُصبِحَ مسكنًا لثالوثِه القدّوس، والشيطانُ يُريدُ تحويلَه إلى وكرٍ لباخوس وأفروديت؛ اللهُ يرغبُ أن يُلبِسَه حُلَّةَ عدمِ الفساد، والشيطانُ يسعى إلى تشويهِ رونقِ نفسِه الجميل" [5] . ويقعُ على عاتقِنا أن نجاهدَ ضدَّ أعمالِ إبليس، متّبعين وصيّةَ الرسول بولس: "فلنُطهِّرْ أنفُسَنا من كُلِّ أدناسِ الجسدِ والروح، مُكَمِّلين القَداسةَ في مخافةِ الله"(٢كورنثوس ٧: ١) . آمين!
طروباريّة القيامة باللحن الثاني
عندما انحدرتَ إلى الموت، أيُّها الحياةُ الذي لا يموت، حينئذٍ أمتَّ الجحيمَ ببرقِ لاهوتك وعندما أقمتَ الأموات من تحتِ الثَّرى، صرخَ نحوكَ جميعُ القوَّاتِ السَّماويِّين: أيُّها المسيحُ الإله معطي الحياةِ، المجدُ لك.
القنداق باللحن الثاني
يا شفيعَةَ المسيحيّين غَيْرَ الخازية الوَسيطة لدى الخالِق غيْرَ المرْدودِة، لا تُعرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحة، نَحْنُ الصارخينَ إليكِ بإيمانٍ: بادِري إلى الشَّفاعَةِ، وأسَرعي في الطلْبَةِ يا والدةَ الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرسالة: 2 كو 11: 31-33، 12: 1-9
إلى كلِّ الأرضِ خرج صوُته
السماواتُ تذيعُ مجدَ الله
يا إخوةُ، مهما يَجترِئ فيهِ أحدٌ (أقولُ كجاهلٍ) فأنا أيضًا أجترِئُ فيهِ، أعبرانيُّونَ هم فأنا كذلك. (أإسرائيليون هم فأنا كذلك. أذريَّةُ إبراهيمَ هم فأنا كذلك. أخدَّامُ المسيح هم (أقول كمختلِّ العقل) فأنا أفضل. أنا في الأتعابِ أكثرُ وفي الجلدِ فوقَ القياسِ وفي السجونِ أكثرُ وفي الموتِ مرارًا. من اليهودِ قبلت خمسَ مراتٍ أربعين جلدةً إلّا واحدةً. وضُربتُ بالعِصي ثلاثَ مرَّاتٍ ورُجمتُ مرّةً. وانكسرتْ بي السفينةُ ثلاثَ مرَّاتٍ. وقضيتُ ليلًا ونهارًا في العُمق. وكنتُ في الأسفارِ مرَّاتٍ كثيرةً وفي أخطارِ السُّيول وفي أخطارِ اللصوص وفي أخطارٍ من جِنسي وأخطارٍ من الأُممِ وأخطارٍ في المدينة وأخطارٍ في البرّيَّة وأخطارِ في البحرِ وأخطارٍ بينَ الإخوةِ الكَذَبة، وفي التَّعب والكدِّ والأسهارِ الكثيرة والجوع والعطش والأصوامِ الكثيرة والبردِ والعُري، وما عدا هذه التي هي من خارجٍ ما يتفاقَمُ عليَّ كُلَّ يومٍ من تدبير الأمور ومنَ الاهتمام بجميع الكنائس. فمن يضعفُ ولا أضعفُ أنا؟! أو من يُشكَّكْ ولا أحترِق أنا؟!. إن كانَ لا بدَّ منَ الإفتخار فإنّي أفتخرُ بما يَخُصُّ ضعفي. وقد علمَ الله أبو ربِّنا يسوعَ المسيحَ المبارَكُ إلى الأبدِ أنّي لا أكذب. كانَ بدمشقَ الحاكمُ تحتَ إمرةِ الحارثِ يحرُسُ مدينةَ الدمشقيّينَ ليقبضَ عليَّ، فدُلّيت من كوَّةٍ في زِنبيلٍ منَ السور ونَجوتُ من يديه. إنَّهُ يوافقني أن أفتخِرَ فآتي إلى رؤى الربِّ وإعلاناتِه. إنّي أعرِفُ إنسانًا في المسيح مُنذُ أربعَ عشرَةَ سنةً (أفي الجسدِ لستُ أعلمُ أمْ خارجَ الجسدِ لستُ أعلم. الله يعلم) اختُطِفَ إلى السماءِ الثالثة. وأعرِفُ أنَّ هذا الإنسانَ (أفي الجسَدِ أم خارجَ الجسدِ لستُ أعلم. الله يعلم)، اختُطفَ إلى الفردَوسِ وسمعَ كلمات سرّيَّةً لا يحلُّ لإنسانٍ أن ينطق بها، فمن جِهِةِ هذا أفتخر. وأمَّا من جهةِ نفسي فلا أفتخرُ إلّا بأوهاني. فإنّي لو أردتُ الافتخارَ لم أكُنْ جاهلًا لأنّي أقولُ الحقَّ. لكنّي أتحاشى لئلّا يظنَّ بي أحدٌ فوق ما يَراني عليه أو يسمَعُهُ مِنّي، ولئلّا أستكبِر بفَرطِ الإعلاناتِ أُعطيتُ شوكةً في الجسَدِ ملاكَ الشيطانِ ليَلطمِني لئلّا أستكبر. ولهذا طلبتُ إلى الربِّ ثلاث مرّاتٍ أن تُفارقني، فقالَ لي تكفيك نِعمتي، لأنَّ قوَّتي في الضُّعفِ تُكمَل فبكُلِّ سرورٍ أفتخرُ بالحري بأهاوني لتستقِرَّ فيَّ قوَّةُ المسيح.
الإنجيل: لو 7: 11-16 (لوقا 3)
في ذلك الزمان، كان يسوعُ منطلقًا إلى مدينة اسمُها نايين، وكان كثيرون من تلاميذه وجمعٌ غفير منطلقين معه، فلمّا قرب من باب المدينة، إذا ميت محمول، وهو ابنٌ وحيد لأمّه، وكانت أرملة، وكان معها جماعةٌ كثيرة من المدينة. فلمّا رآها الرَّبُّ تحنَّن عليها، وقال لها: لا تبكي. ودنا ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال: أيّها الشابّ، لك أقول قُم، فاستوى الميْتُ وبدأ يتكلَّم. فسلّمه إلى أمِّه. فأخذ الجميعَ خوفٌ، ومجَّدوا الله قائلين: لقد قام فينا نبيٌّ عظيمٌ، وافتقدَ اللهُ شعبَه.
في الإنجيل
كثيرًا ما يتساءل الناس: هل الله هو إله محبّة فقط، أم هو إله عدل فقط؟ بعضهم يخاف أن تكون محبّة الله تعني أنّه يتساهل مع الشرّ ولا يحاسب أحدًا، وآخرون يخشون صورة إلهٍ قاسٍ ينتظر الفرصة ليعاقبنا على كلّ خطأ. هذه الأسئلة تبدو وكأنّ الله مسألة نظريّة علينا أن نحلّها. لكنّ إيماننا الأرثوذكسيّ ليس جدالًا عقليًّا ولا نظريًّا، بل هو لقاء حيّ مع شخص المسيح يسوع، ابن الله الحيّ، الذي تجسّد من أجل خلاصنا.
المسيح لم يأتِ ليزيد علينا الأعباء أو ليؤكّد حكم الموت علينا، بل نزل من السماء بدافع محبّة لا توصف. اتّضع حتّى صار إنسانًا مثلنا، أخذ صورة عبد، واحتمل الموت على الصليب، ودُفن في القبر، ونزل إلى الجحيم، ثم قام في اليوم الثالث. كلّ هذا لم يفعله لأجله، بل لأجلنا نحن. في شخصه نرى المحبّة والعدل معًا، لكن على مستوًى يفوق إدراكنا. نرى الله الذي «أحبّ العالم حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة» (يو 3: 16).
واليوم في الإنجيل، يعطينا الربّ صورة مؤثّرة لهذه الحقيقة. أرملة من مدينة نايين فقدت ابنها الوحيد. لم يبقَ لها سند ولا رجاء. كانت تبكي وتشيّعه إلى القبر. لكنّ يسوع اقترب منها، تحنّن عليها، وقال لها: «لا تبكي». ولمس النعش وأقام الشابّ من الموت. أعاد إلى الأمّ ابنها، وحوّل الحزن إلى فرح.
هذا المشهد ليس مجرّد حادثة تاريخيّة، بل هو علامة لخلاصنا كلّنا. لأنّنا نحن أيضًا نحزن ونبكي، لا فقط على موت أحبّائنا، بل على خطايانا وخطايا الآخرين، وعلى الشرّ والفساد الذي شوّه حياتنا وعالمنا. كلّ كره، وكلّ خوف، وكلّ فساد هو ثمرة ابتعادنا عن الله. نحن عبدنا ذواتنا وأهواءنا وممتلكاتنا، فوجدنا أنفسنا في فراغ وضياع وعبوديّة. ولذلك نبكي مع الأرملة، ليس فقط على الذين رحلوا، بل على أنفسنا الضائعة.
لكنّ المسيح لا يتركنا في بكائنا. كما قال للأرملة «لا تبكي»، هكذا يقول لنا اليوم: «لا تبكوا». هو دخل أحزاننا، شاركنا موتنا، دخل القبر والجحيم ليقيمنا معه. لهذا، إيماننا ليس خبرًا عن دينونة وعقاب، بل هو بشارة رحمة وحياة جديدة. المسيح هو الراعي الذي يبحث عن الخروف الضالّ، والأب الذي يستقبل الابن الضالّ، والإله الذي قبل أن يموت على الصليب لكي يبيد الموت بالقيامة.
أيّها الأحبّة، علينا نحن أيضًا أن نردّ على رحمته. فالمسيحيّة ليست مجرّد عاطفة أو شعور، بل حياة ملموسة. إذا كنّا أعضاء جسده ونقترب من جسده ودمه في الإفخارستيّا، فعلينا أن نعيش كما عاش هو. أي أن نُظهر رحمته للآخرين. أن نشاركهم آلامهم، ونحمل أثقالهم، ونقف إلى جانبهم حتّى إن كانوا هم أنفسهم سبب مشكلاتهم.
غير أنّ الرحمة ليست ضعفًا أو محاولة لإرضاء الجميع. المسيح نفسه، كلّما أظهر رحمة، كان يثير غضب الفرّيسيّين والحكّام. رحمته كانت قوّة وشجاعة، لأنّه لم يخشَ أن يتخطّى القوانين الجامدة والتقاليد الفارغة من المحبّة. ونحن أيضًا إن عشنا رحمته بصدق، قد يُساء فهمنا، وقد يرفضنا البعض. لكن لا بأس، لأنّ تلميذ المسيح مدعوّ إلى أن يسلك طريقه، حتّى ولو كان طريق صليب.
فلنحذر من إدانة الآخرين أو رفع أنفسنا على حسابهم. هذه طبيعة بشريّة ساقطة، لكنّها ليست طريق المسيح. لو عاملنا الله كما نعامل نحن بعضُنا بعضًا، لبقينا في القبور بلا رجاء. ولكن لأنّه أحبّنا ونحن خطأة، صار واجبًا علينا أن نحبّ الآخرين ونرحمهم، مهما كان وضعهم أو ظروفهم.
إخوتي، المسيح ليس فكرة ولا نظريّة. هو شخص حيّ. ونحن نلتقيه في الصلاة والصوم والاعتراف، ونحيا به في سرّ الإفخارستيّا. وعندما نقبله في حياتنا، لا بدّ من أن نقبل معه كلّ إنسان نصادفه، حتّى أصغر الناس وأضعفهم. هو جاء ليخلّص الخطأة ويشفي المرضى ويقيم الموتى. جاء ليخلّصنا نحن. فليكن ردّنا أن نصبح أيقونات حيّة لرحمته، علامات حيّة لخلاصه، لكي يراه العالم من خلالنا.
الحياةُ أن نحيا في فرح أبناء الله
إجابات كثيرة متعدّدة قد تُقدَّم عند محاولة إيضاح معنى أن يكونَ الإنسان مسيحيًّا.
في نهاية المطاف، أن يكونَ المرءُ مسيحيًّا يعني أن يكونَ ابنًا حقيقيًّا لله، أن تكونَ كلُّ حياته تعبيرًا عن بنوّته لله.
الإيمان المسيحيّ في أعمق يقينيّاته هو أن يمتلئَ قلبُك، أن يمتلئَ ذهنُك، أن يمتلئَ كلُّ كيانك من اليقين أنّ الحياةَ هي أن أحيا ابنًا لله في شركة أبويّة مع الله وأخويّة مع أبناء الله، في آنٍ معًا.
من دون هذا اليقين قد يتملّك المرءَ السعيُ إلى أن يطلبَ الحياةَ خارج البيتِ الأبويّ، أن يطلب حياةً يظنُّها "لنفسِهِ"، أن يحيا "حرًّا على كيفِهِ". هذه الحياة التي سعى إليها "الابن الشاطر" قبْلَ أن يتيقّنَ أنّه ولو امتلك المرءُ كلَّ متاع الدنيا ونهل من كلِّ ملذّاتها، إنّما يبقى في عطش إلى الحياة الحقّة وفي عوزٍ إلى ما يملأ كيانَه. وهذا ما تُعَبِّر عنه حالةُ الشعور بالجوع والعوز التي وصل إليها.
من جهّة ثانية، قد "يبقى" المرءُ في البيت الأبويّ من دون أن يملأَ قلبَـه اليقينُ أنّ حياةَ الإنسان هي أن يحيا ابنًا لله، أي من دون أن يحيا فرحَ المعيّة، الفرحَ بأن يكونَ مع أبيه ومع إخوته. هكذا كانت حياة الأخ الأكبر في مثل الابن الشاطرـ ولكنّه قد يصل في النهاية إلى موقف البقاء خارج البيت، في موقفٍ رافضٍ للمشاركة في فرح البيت، ما لم يُغيِّر قناعتَه ويوقن بأنّ الفرح الحقيقيّ هو فرحُ المعيّة، الفرحُ بأن يحيا أخوه، فيدخل البيت الأبويّ ليتشاركَ الفرحَ مع أبيه وإخوته.
هذا اليقين ينطلق أساسًا من أنّ "تقدمةَ يسوع ذاتَه على الصليب" إنّما هي التعبير الأسمى عن محبّة الله الآب لنا وعن محبّة المسيح لنا، كما يكشف لنا التلميذ الحبيب في إنجيله:
"لأنّه هكذا أحبّ اللهُ العالمَ حتّى بذل ابنَه الوحيد لكي لا يهلك من يؤمن به بل تكون له الحياةُ الأبديّة" (يو 3).
"وليس من حبٍّ أعظم من هذا، أن يبذلَ الإنسانُ نفسَه عن أحبّائه" (يو 15).
وهذا اليقين يعتمد أساسًا على "انسكاب محبّة الله في قلوبنا، بالروح القدس المعطى لنا" (رو 5).
هذا اليقين يجد أبسط وأعمق تعبير عنه في آنٍ واحد، في أن نحيا بثقة كاملة في رعاية الله أبينا لنا:
"أُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟" (متّى 6).
هذا اليقين هو الذي يجعلنا نعتبر أنّ الصليب الذي نحمله تابعين المسيح هو صليب السعيِ لفرح الأخ وحياته. وهو صليبُ عزاءٍ متى نعِمَ الأخُ بالفرح والحياة في المسيح، وهو صليبُ ألمٍ ووجعٍ متى رفض الأخُ الحياةَ مع الله في المسيح.
هذا اليقين جعل لسانَ حال بولس: "مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟" (2كو11). وجعله يضع لنا قاعدة الحياة في الكنيسة: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا. فلتَهْتَمُّ الأَعْضَاءُ اهْتِمَامًا وَاحِدًا بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ." (1كو12).
هذا اليقين جعل الرسلَ بعدما جُلِدوا، "يذهَبون فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ." (أع 5).
هذا اليقين دفع الرسولَ بولس إلى أن يصرخ مناديًا ليوطّد اليقين عينه فينا: "إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ ... مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ».
وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا.
فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا." (رو 8).
هذا اليقين هو الذي يجعلنا نخاطب الله دومًا: "أبانا الذي في السماوات".
ألا وطّد الله هذا اليقين في قلوبنا. له المجد إلى الأبد، آمين.
[1] جاء مقطعُ من الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس ٦: ١٦ – ٧: ١، وفيه يقول الرسول: "نحن هيكلُ اللهِ الحيِّ، كما قال الله: إنّي سأسكنُ فيهم وأَسيرُ فيما بينهم وأكونُ لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا… فإذ لنا هذه المواعيد أيُّها الأحبّاء، فلنُطهِّرْ أنفسَنا من كلِّ أدناسِ الجسدِ والروح، مُكَمِّلين القداسةَ في مخافةِ الله". راجع أيضًا ١كورنثوس ٣: ١٦ و٦: ١٩ حول كون المؤمن هيكلًا لله.
[2] تكوين ٢٦:١–"وقال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا". يُعلِّمُ آباءُ الكنيسة أنّ الإنسان خُلِقَ على صورة الله من جهة العقل والحُرّيّة والسيادة على الخليقة، ودُعي إلى التألُّه بالنعمة (أي بلوغ المثال الإلهيّ في القداسة)
[3] القدّيس فيلوثيوس كوكينوس (Ἅγιος Φιλόθεος Κόκκινος) كان بطريركًا للقسطنطينيّة (١٣٧٩م) وراعي الحركةَ الروحيّةَ المعروفة بالإزهار الهدوئيّ في القرن الرابع عشر. اقتُبِس كلامُه هنا عن طبيعةِ الخطيئة وآثارِها من إحدى كتاباتِه الرُّوحيّة في التأمّل والحياة النسكيّة.
[4] الهوامش الكتابيّة: طلبةُ "زِدنا إيمانًا" مقتبسةٌ من قولِ الرُّسُلِ للربّ يسوع (لوقا ٥:١٧)، والتحذيرُ "مَن يظنّ أنّه قائم" مأخوذٌ من رسالةِ بولس الأولى إلى أهل كورنثوس ١٢:١٠.
[5] هذا القولُ منسوبٌ إلى الروائيّ الروسيّ فيودور دوستويفسكي (١٨٢١-١٨٨١)، وهو يصفُ الصراعَ الرُّوحيَّ في قلبِ الإنسان بين اللهِ وإبليس. وردت فكرةٌ مشابهةٌ في روايتِه )الأخوة كارامازوف» (الجزء ١، الكتاب٣، الفصل٣) حيث تقول إحدى الشخصيّات: "اللهُ والشيطانُ يتصارعان، وميدانُ معركتِهما قلبُ الإنسان". يُذكَرُ باخوس وأفروديت في الاقتباس على أنَّهما مثالان للأوثان المرتبطة بالشهوات الجسديّة؛ فباخوس هو إلهُ الخمرِ عند الرومان (يقابله ديونيسوس عند اليونان)، وأفروديت هي إلهةُ الجمالِ والحُبّ الشهوانيّ عند اليونان، وقد أراد دوستويفسكي بذلك الإشارةَ إلى أهواء السُّكر والفجور التي يستغلُّها الشيطانُ في حربِه ضدَّ الإنسان.