الأحد 10 تشرين الثاني 2024

الأحد 10 تشرين الثاني 2024

07 تشرين الثاني 2024

الأحد 10 تشرين الثاني 2024
العدد 45
الأحد (20) بعد العنصرة
اللحن الثالث الإيوثينا التاسعة

أعياد الأسبوع:


10: الرّسول أولمباس وكوارتُس ورفقتهما، الشّهيد أوريستوس، القدّيس أرسانيوس الكبّادوكيّ، 11: الرّسول ميناس ورفقته، استفانيس، ثاوذورس الإستوذيتي، 12: يوحنَّا الرحوم رئيس أساقفة الإسكندريّة، البارّ نيلس السِّينائي، 13: يوحنّا الذهبيّ الفمّ رئيس أساقفة القسطنطينيّة، 14: الرّسول فيلبُّس، غريغوريوس بالاماس، 15: الشُّهداء غورياس وصاموناس وأفيفس، بدء صوم الميلاد، 16: الرّسول متّى الإنجيليّ.

طاعة الدعوة

في المقطع الرسالي سمعنا نبذة من سيرة القدّيس بولس الذاتيّة، حيث يُخبرنا شيئًا عن دعوته وخبرته الروحيّة العميقة. لقد كان إنسانًا يعبد الله كما اعتاد منذ صباه، وبحماسةٍ بشريّة، أي بعنفوانٍ وتحزّب لأبناء دينه وقومه. ونتيجة ذلك كان يضطهد كنيسة الله، دون أن يعلم فداحة الأمر. إلى أن طرأ عاملٌ مهمّ غيّر حياته، دعوة الله التي صعقت كيانه. ونحن نعلم أنّ الله دعا بعضهم لأن يكونوا رسلًا وآخرين أنبياءَ وآخرين معلّمين… وما يزال يدعو كلًّا من الناس إلى الإيمان ويخصّ كلًّا منهم بموهبة لبنيان الجسد الواحد. 

دعا الله بولس إلى أن يكون رسولًا وإناءً مختارًا. هُنا نُسارع إلى الاعتقاد بأنّ كلَّ الخلاص يتوقّف على دعوة الله، وأنْ ليس هناك من أهميّة لتجاوب الإنسان مع هذه الدعوة بإيمانٍ وطاعة. ننسى أنّ الربّ يسوع إلهنا دعا يهوذا أيضًا ليكون رسولًا، ودعا الشابّ الغنيّ وقال له صراحةً ”تعال اتبعني“ (متّى ١٩: ٢١). نعلم أيضًا كيف كان تجاوب يهوذا والشابّ الغنيّ مع دعوة الربّ.

لننتبه الآن لطريقة تجاوب الرسول بولس مع دعوة الربّ له. كتب أوّلّا عمّا فعله الله معه، عن الدعوة والموهبة، ثمّ تابع يُخبر عن ردّة فعله، وبالأدقّ عن تجاوبه مع دعوة الله، قال: ”للوقت لم أستشر لحمًا ودمًا“. ما قصده الرسول بهذه العبارة أنّه لم يشاور أيّ إنسان، بل وَثِق بالله ومضى في طريق جديدة، على منوال أبي الآباء إبراهيم، الذي سيذكره مرارًا في هذه الرسالة كمثال للإنسان المؤمن. انطلق إلى بقاع الأرض يُبشّر ويكرز، وأمضى ثلاث سنوات في دمشق بين المؤمنين الذين تجنّد قبلًا لاضطهادهم. وسافر بعد ذلك إلى أورشليم، لا بل بشّر في كلّ مكانٍ، وتحمّل كلّ شيء، وتطلعنا الأسفار المقدّسة على بعض ما عاناه هذا القدّيس. 
أن يسير الإنسان مع الله على مثال إبراهيم هو خبرة إيمانٍ. يؤمّن الإنسان حياته للقدّوس الذي دعاه ويسير معه حيثما يقوده الروح. 

في مقطع موازٍ حيث يتحدّث الرسول بولس عن دعوة الله، وتحديدًا في فيلبّي ٣: ٧-٨، يشرح كيف تجاوب مع دعوة الله له لمعرفته، يقول: ”لكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحًا، فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ…“. ومن الناس من لا يسير مع الله في طرق مشيئته المقدّسة عندما يسمع دعوة الله واختياره، ولا يُؤمّن يومًا من عمره لله الذي وهبه الحياة بأكملها. تفتنه الشهوات فينسى الحياة الأبديّة، ويختنق مثل يهوذا، ويحزن مثل الشابّ الغنيّ، و”يحتفر لنفسه آبارًا مشقّقة“ بدلاً من أن يقصد ”ينبوع الحياة“.

كلّ واحد منّا يسمع دعوة الله له على نحوٍ مختلف، كما نتعلّم من سير القدّيسين التي تعرض لنا أمثلةً كثيرة عن أشخاص سمعوا دعوة الله، لا بظهور نورٍ أو صوتٍ من السماء، بل في عمق قلبهم يصدحُ، فأطاعوه. هل نُطيع نحن ”إذا سمعنا صوتَه اليومَ؟ هل نُؤمِن ونُؤمّن لله حياتنا، كي تُثمر موهبتنا للبنيان؟

 الأرشمندريت يعقوب خليل
 عميد معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ
 


طروبارية القيامة باللحن الثالث

لتفرح السماويّات، ولتبتهج الأرضيّات، لأنّ الربَّ صنعَ عِزًّا بساعِده ووطِئ الموتَ بالموتِ وصار بكرَ الأموات، وأنقذنا من جوفِ الجحيم، ومنح العالم الرحمةَ العُظمى.

قنداق دخول السيّدة إلى الهيكل باللحن الرابع

إنّ الهيكل الكلّيّ النَّقاوة، هيكلَ المخلِّص البتولَ الخِدْرَ الجزيلَ الثَّمن، والكَنْزَ الطاهرَ لمجْدِ الله، اليومَ تَدْخُلُ إلى بيتِ الرَّبّ، وتُدخِلُ معَها النِّعمةَ التي بالرّوحِ الإلهيّ. فَلْتُسَبِّحْها ملائكة الله، لأنّها هي المِظلَّةُ السَّماويّة.

الرسالة: غلا 1: 11-19
رتِّلوا لإلهنا رتِّلوا
يا جميعَ الأمم صفِقوا بالأيادي


يا إخوة، أُعلِمُكم أنَّ الإنجيلَ الذي بشَّرتُ بهِ ليسَ بحسبِ الإنسانِ، لأنّي لم أتسلَّمْه أو أتعلَّمْهُ من إنسان بل بإعلان يسوعَ المسيح. فإنَّكم قد سمعُتم بسيرتي قديمًا في مِلَّةِ اليهودِ. أنّي كنتُ أضطَهِدُ كنيسةً اللهِ بإفراطٍ وأدمّرها وأزيدُ تقدُّمًا في مِلَّةِ اليهودِ على كثيرين من أترابي في جِنسي بكَوني أوفرَ منهم غَيرةً على تقليدات آبائي. فلمَّا ارتضى الله الذي أفرزني من جوفِ أمّي ودعاني بنعمتِه، أنْ يُعلِن ابنَهُ فيَّ لأُبشّرَ بهِ بينَ الأممِ، لِساعتي لم أُصغِ إلى لحمٍ ودمٍ ولا صَعِدْتُ إلى أورشليمَ إلى الرسلِ الذينَ قبلي، بل انطَلَقتُ إلى ديار العرب، وبعد ذلك رَجعْتُ إلى دِمشق. ثمَّ إنّي بعدَ ثلاثِ سنينَ صَعِدتُ إلى أورشليمَ لأزورَ بطرس، فأقمتُ عندَه خمسةَ عَشَرَ يومًا، ولم أرَ غيرَهُ من الرسلِ سوى يعقوبَ أخي الربّ.

الإنجيل: لو 10: 25-37

في ذلك الزمان دنا إلى يسوعَ ناموسيٌّ، وقال مجرّبًا لهُ: يا معلّمُ ماذا أعملُ لأرثَ الحياةَ الأبديَّة؟ فقال لهُ: ماذا كُتِبَ في الناموس؟ كيف تقرأ؟ فأجابَ وقال: أحببِ الربَّ إلهَكَ من كلِّ قلبِك ومن كلّ نفسِك ومن كلّ قدرتِك ومن كلّ ذهنِك، وقريبَك كنفسِك. فقال لهُ بالصواب أجبتَ. إعملْ ذلك فتحيا. فأراد أن يُزكّيَ نفسَهُ، فقال ليسوعَ: ومَن قريبي؟ فعاد يسوع وقال: كان إنسانٌ منحدِرًا من أورُشليمَ إلى أريحا فوقع بين لصوصٍ فعرَّوهُ وجرَّحوهُ وتركوهُ بين حيٍّ وميتٍ. فاتَّفق أنَّ كاهنًا كان منحدِرًا في ذلك الطريق فأبصرَهُ وجاز من أمامه، وكذلك لاويٌّ أتى إلى المكان فأبصرَهُ وجازَ من أمامِه. ثمَّ إنَّ سامِريًّا مسافِرًا مرَّ بهِ فلمَّا رآهُ تحنَّن فدنا إليهِ وضَمَّدَ جراحاتِه وصَبَّ عليها زيتًا وخمرًا وحملهُ على دابَّته وأتى بهِ إلى فندقٍ واعْتنى بأمرِه. وفي الغدِ، فيما هو خارجٌ أخرَجَ دينارَيْن وأعْطاهما لصاحِبِ الفندقِ وقال لهُ اعتَنِ بأمرهِ. ومهما تُنفِقُ فوقَ هذا فأنا أدفعُهُ لك عند عودتي.
فأيُّ هؤلاءِ الثلاثةِ تَحْسَبُ صار قريبًا للذي وقع بين اللصوص؟ قال: الذي صَنَعَ إليهِ الرحمة. فقال لهُ يسوع: امضِ فاصنْع أنتَ أيضًا كذلك.

في الإنجيل

"يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لأرِثَ الحياةَ الأَبَدِيَّة؟". كان يسوع يعرف أنّ محاوره خبير في الكُتب، فطلب منه أن يجيب بنفسه، وهذا الأخير يعطيه جوابًا كاملًا: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ".

وبالتّالي يقوده يسوع ليقيس ذاته مع الوصيّة الأساسيّة ويختتم: "اِعمَل هذا تَحيَا". لا يمكن لأيّ تعليم حول المحبّة أن يُحَدَّ في نظريّة، لأنّ المحبّة تضع على المحكّ الكائن البشريّ بأسره في واقعيّة الحياة.

عندها طرح ذاك الرّجل سؤالًا آخرًا قيّمًا لنا: "ومَن قَريبي؟" وهو يعني: "أقربائي؟ أهل وطني؟ أولئك الذين ينتمون إلى ديانتي..." يريد قاعدة واضحة تسمح له بتصنيف الآخرين بين "قريبين" و"غير قريبين"، وبين الذين بإمكانهم أن يُصبحوا قريبين والذين لا يمكنهم أن يصبحوا قريبين. 

يجيب يسوع بمثل، ويضع في المشهد كاهنًا ولاويًّا وسامريًّا. الأوّلان هما شخصيّتان مرتبطتان بالعبادة في الهيكل؛ والثالث يهوديّ منشقّ، يُعتبر كغريب، وثنيّ ودنس، أي السّامريّ.

على الدّرب التي تقود من أورشليم إلى أريحا، التقى الكاهن واللاويّ برجل عرّاه اللُّصوص وانهالوا علَيهِ بِالضَّرْب. ثمَّ مَضَوا وقد تَركوهُ بَينَ حَيٍّ ومَيت.

إنّ شريعة الربّ تقتضي في حالات كهذه واجب الإسعاف لكنّ كليهما مالا عنه ومضيا. لقد كانا على عجلة من أمرهما... فالكاهن ربّما قد نظر إلى ساعة يده وقال في نفسه: "سأصل متأخّرًا على القدّاس... وينبغي عليّ أن أحتفل بالقدّاس"؛ أمّا الآخر فلربّما قال: "لا أعرف إذا كانت الشّريعة تسمح لي بأن ألمسه، لأنّ هناك دمّ أيضًا وقد أتدنّس..."، وبالتّالي تابعا مسيرتهما عبر طريق آخر ولم يقتربا منه.

وهنا يقدّم لنا المثل تعليمًا أوّليًّا: ليس أمرًا بديهيًّا أنّ الذي يأُمُّ بيت الله ويعرف رحمته يعرف أيضًا كيف يحبّ القريب. ليس أمرًا بديهيًّا! يمكنك أن تعرف الكتاب المقدّس بأسره، كما ويمكنك أن تعرف كلّ الخدم الليتورجيّة، وكلّ اللاّهوت، لكنّ المحبّة لا تأتي من هذه المعرفة: للمحبّة درب أخرى، هي تحتاج إلى الذّكاء وإلى شيء آخر أيضًا... فالكاهن واللاويّ رأيا ولكنّهما تجاهلا؛ نظرا ولكنّهما لم يتدخّلا.

ومع ذلك لا وجود لعبادة حقيقيّة إن لم تتجسّد في خدمة القريب. لا ننسينَّ هذا الأمر أبدًا: إزاء ألم العديد من الأشخاص المنهكين من الجّوع والعنف والظلم، لا يمكننا أن نبقى مكتوفي الأيدي. ماذا يعني تجاهل ألم الإنسان؟ يعني تجاهل الله! أي إذا كنت لا أقترب من ذاك الرّجل أو تلك المرأة أو ذاك الطفل أو ذاك المسنّ أو تلك المسنّة المتألِّمة فأنا لا أقترب من الله.

ونصل إلى جوهر المثل: السّامريّ، أي ذاك المرذول، والذي لا يأبه به أحد، والذي مع ذلك كان لديه هو أيضًا التزاماته وما يقوم به، ولكن عندما رأى الرّجل المجروح لم يمضِ كالرّجلين الآخرَين، المرتبطين بالهيكل، بل "أشفق عليه". هكذا يقول لنا الإنجيل: "أشفق عليه"، أي تحرّك قلبه وتحرَّكت أحشاؤه! هذا هو الفرق. الرّجلان الآخران رأياه ولكنّ قلبَيهما بقيا مغلقين وباردَين. أمّا قلب السّامريّ فكان متناغمًا مع قلب الله.

في الواقع، تشكّل "الشّفقة" ميزة أساسيّة لرحمة الله. فالله يُشفق علينا. ماذا يعني هذا الأمر؟ يتألَّم معنا ويشعر بآلامنا، فالشّفقة تعني "التألُّم مع الآخر". والفعل يشير إلى أنّ الأحشاء تتحرّك وتتجمّد لدى رؤية شرّ الإنسان.

وفي تصرّفات السّامريّ الصّالح وأعماله نرى عمل الله الرّحيم داخل تاريخ الخلاص بأسره. إنّها الشّفقة عينها التي من خلالها يأتي الربّ للقاء كلّ فرد منّا: هو لا يتجاهلنا، يعرف أوجاعنا ويعرف مدى حاجتنا إلى المساعدة والتّعزية. يقترب منّا ولا يتركنا أبدًا.

على كلٍّ منّا أن يسأل نفسه ويُجيب في قلبه: "هل أؤمن؟ هل أؤمن أنّ الربّ يُشفق عليَّ، هكذا كما أنا، خاطئًا مع العديد من المشاكل؟ ليفكِّر في هذه الأمور وفي الجّواب الذي هو: "نعم!" ولكن على كلّ واحد منّا أن ينظر في قلبه إن كان يؤمن بشفقة الله هذه، وبالله الصّالح الذي يقترب ويشفينا ويلمسنا بحنان. وإن رفضناه ينتظر: لأنّه صبور وهو إلى جانبنا دومًا.

الخدمة في الكنيسة

 لا تنطبق العُجالة التالية فقط على أسرة التعليم الدينيّ في رعيّةٍ ضمن إطارٍ جغرافيٍّ محدّد، بل على كلّ عملٍ كنسيّ. 
على الرغم من مآسي الحروب وإراقة الدّم، التي تنعكس لا محالة على الكنيسة والوطن، نحن ننتفض ونرمّم جدارنا الداخليّ ونُكمِلُ المسيرة. 

يقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهلِ رومية (١٥:١٢-٢١) إنّنا جسدٌ واحدٌ، وأعضاء، ومواهب. ينطلق من الواحد إلى الكلّ، فكلّنا واحدٌ في المسيح، نحن أعضاءٌ في الجسد الواحدِ ولكلِّ واحدٍ منّا مواهب. 

العمل في حقلِ الرّب متكاملٌ، هو كلوحةٍ بريشة فنّانٍ ليس فيها شوائب، بل هي جميلةٌ ومتناسقةُ الألوانِ، وما من لونٍ يتفوّقُ على الآخرِ، بالعكسِ، الأقلّ وهجًا يجمّلُ ما قد نقصَ من البقيّة. 

المسؤوليةُ كبيرةٌ على مَن أرادَ أن يكون عضوًا فعّالاً في جسد المسيح الواحد، فالتزامنا ليس فقط سطحيٌّ وعابر، التزامنا ينطلقُ من الإحساسِ بمسؤوليّتي كعضوٍ فعّال في كرم المسيح الواحد. التزامنا ينطلقُ من الأنا إلى الأنتَ، من الشخصيّ إلى الآخر. 

هذا يعني أنّ العمل الكنسيّ ليس ما أراه مُناسبًا، بل يتطلّبُ الكثيرَ من الصبر، يتطلّب الكثير من الإصغاءِ إلى الآخرِ بطولِ أناةٍ لأنّ الآخرَ هو العضوُ الذي يُكمّل جسد المسيح الواحد.

لكي تفعل ماكينات مواهب الرّوح القدس فينا، يتطلّب منّا الأمر تعبًا. هذا ما نُسمّيه في الكنيسة «الجهاد الرّوحيّ»، هذا الجهاد يتطلّب حياةً روحيّة بجدٍّ، وإرادةً صلبة. هذا ما عناهُ الرّسولُ قائلاً: «غَيْرَ مُتَكَاسِلِينَ فِي الاجْتِهَادِ، حَارِّينَ فِي الرُّوحِ، عَابِدِينَ الرَّبَّ، فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ، صَابِرِينَ فِي الضِّيْقِ، مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ».  "مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ!" (عب ٣١:١٠). 

يتطلّب العمل في حقل الرّب جهدًا مضاعفًا. المسيحيّةُ تعبٌ لكن بفرح، المسيحيّةُ سهرٌ على الذّات، هي صلاةٌ مستدامة وصومٌ وانسحاقٌ لعنادِنا وتصلّبِ فكرِنا أمام الآخر الضّعيف. 

إذا أردنا عملًا ناجحًا، علينا أن نمرّ بهذا الامتحان ولا يُمكن لأحدٍ أن يجتازهُ بذكاءٍ بشريّ، بل بإرشاد الكنيسة عبر الأبوّة الروحيّة، أي باختصار، بالطاعة والاعتراف بالضعف الذي يتآكلني.

هل تساءلنا لماذا كلّ عملنا في الكنيسة لا يأتي ينتيجة، وقد فقدنا القدوة والمثال؟ هذا لأنّنا، وبكلّ بساطة، لا نُصلّي ولا نُجاهد كما يجب! الصلاة هي الباب الذي منه نعبر، والصلاة ليست فقط ما نقوم به حصرًا خلال القدّاس الإلهيّ، بل هي عملٌ يوميّ، كالقوت اليوميّ الذي يحتاج إليه الإنسان. 
لذلك، ينصح القدّيس بورفيريوس الأهل، في مقالته الشهيرة حول تربية الأولاد، بالصلاة كأوّل دواء.

ما يقدّس الأولاد ويجعلهم صالحين هي حياة الوالدَين في المنزل. أمّا إذا نقصَ ذلك في البيت بسبب جهل الأهل وعدم وعيهم، فعلَينا أن نعوّضه على قدر الإمكان في التربية الكنسيّة. هم يقدّمون محبّةً بحسب ما يعرفون وعلى قدرِ ما يستطيعون، مؤمّنين لأولادهم احتياجاتهم، ظانّينَ أنّهم بذلك قد يسدّون عوَزهم. المحبّة ليست عاطفيّة، المحبّة ذبيحةٌ من أجل الآخر.

ليس النشاط الكنسيّ مجرّد نشاطٍ عالميّ كأيّ نشاطٍ آخر نراه. ولسنا أيضًا ضمن منهجٍ تربويّ بحتٍ ومُلزمين فيه كأنّنا في المدرسة. 
يبدو النشاط الكنسيّ وكأنّه الأصعب لأنّه يتطلّب صقل الذّات من أجل الآخر. صحيحٌ أنّه يتطلّب نظامًا لكي لا تسود الفوضى، لكن يجب ألّا نقف عند هذا الحدّ. يتطلّب العمل الكنسيّ شيئًا من النظام من ناحية منهجيّة التعليم، لكن يتطلّب إحساسًا رقيقًا تجاه ضعف الآخر، يتطلّب الكثير من الرفق، الكثير من الرّأفة والصبر إلى أقصى الدرجات، لأنّ هذا الولد الذي نحن مسؤولون عنه، ينتظر منّا شيئًا، وينتظر المحبّة على وجه الخصوص.

    إذًا، لا النصائح، ولا القسوة، ولا النظام تنفع الأولاد أو تخلّصهم، فقط قداسة الإنسان هي التي تجذب الآخر، لأنّ نعمة الله هي التي تجعل الآخر يُحبّك إذ يرى الله فيكَ ظاهرًا بأعمالكَ. الإيمان هو أبسط ما يمكن للإنسان اكتسابه لأنّنا كلّنا مؤمنون، «الإِيْمَانُ وَالْوَدَاعَةُ، فَيَغْمُرُ صَاحِبَهُمَا بِالْكُنُوزِ» (سي ٣٥:١). 

ويُضيف «مَخَافَةُ الرَّبِّ أَوَّلُ مَحَبَّتِهِ، وَالإِيْمَانُ أَوَّلُ الاِتِّصَالِ بِهِ» (سي ٢٥:١٦). أمّا رسالة يعقوب فتقول "لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ» أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي» (يع ١٨:٢).

إذن يا إخوة، نحنُ أمام مسؤوليّةٍ كُبرى، ليس فقط أمام هذا العمل البشاريّ الذي نقوم به بل أمام الله. هؤلاء هم مسؤوليّتنا، لذا واجبٌ علينا أن نتعب قليلاً حتّى نجني كثيرًا. 

رجاءً، وبكلّ محبّة، لا تقعوا في المناكفات البشريّة التي نراها أينما كان. رجاءً أن نضع جانبًا كلّ اختلافاتنا وكلّ هذا التنظير والكلام الفارغ وكلّ هذا الهراء، والأهمّ كسلنا وعدم جدّيتنا في كثيرٍ من الأحيان. 
رجاءً، لا تُطفئوا الروح، بل فلنضع أيدينا بعضها ببعض، واضعين نُصبَ أعيننا الهدف المرجوّ، حتّى نقوم بشيءٍ مرضيّ أمام الله وأمام كنيستنا. 

هذه الكنيسة التي تطلب منّا أن نتعب من أجلها خدمةً لشعبها المؤمن. رجاءً، لنضع أيدينا بعضها ببعض، وليجمعنا هاجسٌ وحيد، طالبين من الله كلّ حكمةٍ بتواضع لأنّ مَن أراد أن يعمل الله فيه يُثمر ويأتي بغلّاتٍ كثيرة. هذه هي الحياة المسيحيّة التي هي باختصارٍ عمل الرّوح داخل الجماعة المُتّحدة المتآخية. كلامٌ قليل وصلاةٌ كثيرة. 

هذه هي التربية الصحيحة التي تبدأ باتّزان الشخص الروحيّ والجسديّ، لكي تعمل كلمة الله وتقوم بفعلها.
إذا أردنا جوابًا عمّا طرحتهُ منذ قليل، الجواب هو أوّلًا وقبلَ كلّ شيء «الصلاة». واجبٌ علينا وقبلَ أيّ عمَلٍ نقوم به أن نُصلّي، أن نطلب من الله المعونة والمؤازرة. فلنتكلّم مع الله والله سوف يقول لنا ما يجب فعلهُ. 

لقد علّمنا ذلك يسوع المسيح في الإنجيل، إذ قبل أيّ عمَلٍ كان يذهب ويُصلّي «وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ»(مت ٢٣:١٤).

يقول القدّيس بورفيريوس إنّه بالصلاة والقداسة يمكنكم أن تُساعدوا الأولاد. ويُضيف أنّه إن كانَ لدينا القلق، فهذا يُنقَلُ سرّيًّا إلى الأولاد من حيثُ لا تدرون. بالإيمان يزول القلق. لذلك، تجاوبوا مع محبّة الأولاد بتمييز. إن أحبّوكم، يمكنكم اقتيادهم إلى المسيح، وستكونون أنتم الواسطة. 
من هنا، أكرّر أنّ ما نفعلهُ ليس هو للتسلية، ومَن يشعر بأنّه لا يمكن له أن يتحمّل هذه المسؤوليّة فليتركها جانبًا حتّى لا يكون عثرةً وإعاقةً لعمل الله!    

يتطلّب الأمر وعيًا ومسؤوليّة، لأنَّ المسؤوليّة ليست مركزًا نتبوّؤهُ، بل هي أن أكونَ خادمًا للآخر لأنَّ المسيحيّة هي على صورة المعلّم الذي غسل أرجل تلاميذه، وكان أوّلهم يهوذا.

واجبنا أن ننمّي فيهم المواهب وليسَ شيئًا آخر. لا تنمّوا فيهم الأنا كما نفعل في يوميّاتنا: أنتَ شجاع، أنتَ بطل، أنتَ قويّ، وما إلى ذلك من كلماتٍ تُغذّي فيهم الأنا... علِّموهم أن يطلبوا معونة الله في أيّ شيء، علّموهم الصلاة وأنّها كلّ شيءٍ في حياتنا، ومنها نستمدّ كل قوّة.

المديح يؤذي الكبار والصغار معًا، المديح لا يهيّئ الأولاد لمواجهة صعوبات الحياة. لذلك نراهُم غير متأقلمين، تائهين، وأخيرًا يفشلون. تربيتنا قائمةٌ على المديح، هذا الأسلوب فاشلٌ إذ لا يعود بإمكاننا مجابهة أصغر المشكلات، ونفشل أمام الصعوبات. لذلك نرى هذا الانطواء الذي فيه يبني الشابُّ عالمه الخاصّ، فيؤول ذلك إلى الانحرافات وما يترتّب عليها من نتائج!

الأهل هم المسؤولون عن فشل الأولاد لأنّهم يقدّمون لهم المديح المتواصل ويدفعونهم إلى الغرور. وبهذا الغرور يتخلّون عن الإيمان الذي يتطلّب انسحاقًا وتواضعًا وسماعًا للآخر. فقدان الاحترام لكلّ شيءٍ هو بسبب هذه الآفة التي ذكرتُها آنفًا.
من الواجب علينا أن نضع إصبعنا على الجرح، وأن لا نبقى على السّطح لأنّه لا بدّ من الغوص إلى العمق. إنّ المسؤوليّة تقع علينا جميعًا. والسلام.