الأحد 21 تمّوز 2024
19 تموز 2024
الأحد 21 تمّوز 2024
العدد29
الأحد الرابع بعد العنصرة
اللحن الثالث، الإيوثينا الرابعة
أعياد الأسبوع:
21: البارَّان سمعان المتباله ويوحنَّا رفيقه في النُّسك، 22: مريم المجدليَّة المعادلة الرُّسل، الشَّهيدة في العذارى مركيَّلا، 23: نقل عظام الشَّهيد في الكهنة فوقا أسقُف سينوبي، النَّبيّ حزقيال، 24: الشَّهيدة خريستينا، 25: رقاد القدِّيسة حنَّة والدة الإله الفائقة القداسة، 26: الشَّهيد في الكهنة أرمولاوس، الشَّهيدة باراسكافي، 27: الشَّهيد بندلايمون الشافي، البارَّة أنثوسة المعترفة.
القلب المتخشّع المتواضع
في عيد النبيّ إيليّا نقرأ مقطعًا من رسالة القدّيس الرسول يعقوب أخي الرب. لم يكن اختيار المقطع هذا لأجل ورود قصّة إيليّا النبيّ في نهايته وحسب، بل لأنّ النبيّ إيليّا يجسّد الفضائل كلّها، وأسرار الأشفية الإلهيّة التي تكلّم عليها أخو الربّ في هذا المقطع، وهذا ما جعله يُنهي كلامه بالتطرّق إلى سيرة التثبيتيّ العظيم.
في بداية قراءة اليوم يطلب الرسول يعقوب من المؤمنين الاقتداء بسيرة الأنبياء الذين تكلّموا باسم الرب، كيف أنّهم واجهوا بالصبر وطول الأناة شتّى أنواع المشقّات. وذكّرهم بصبر أيّوب الذي أصبح نموذجًا لنجاح الصبر في مسيرة الخلاص. فلا بدّ للتجربة من أن تعبر وللمشقّات من أن تتلاشى "لأنّ الربّ كثير الرحمة ورؤوف"، وخلاص الربّ قادم كنور الفجر المشرق في الليل الدامس. في الصبر انتظار لخلاص الربّ وترقّب لتدبير يمين الربّ التي تعمل بما يفوق عقلنا وتوقّعاتنا. الفضيلة في الصبر هي الاتّكال على الربّ والحفاظ على الذهن نقيًّا وبسيطًا، بمنأى عن الأفكار التي تدمّر الرجاء وتدفع إلى اليأس، والتي تدفع الإنسان إلى ابتكار حلولٍ تنطلق من غريزة حبّ البقاء وحبّ الذات.
يكرّر الرسول يعقوب تعليم الربّ يسوع، يكتب: "لاَ تَحْلِفُوا، لاَ بِالسَّمَاءِ، وَلاَ بِالأَرْضِ، وَلاَ بِقَسَمٍ آخَرَ. بَلْ لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ، وَلاَكُمْ لاَ". يُكثر الإنسان من الحلفان كي يحمي نفسه، أمّا الذي يكتفي بنَعَمٍ ولا، فيُظهر بذلك نقاوة ذهنه واعتصامًا بعدل الله وبرّه، فلا يقع تحت دينونة مخالفة وصيّة الرب. هكذا فعل الأنبياء الذين لم يجزعوا من المناداة بقول الربّ من دون محاباة وجوه الملوك والرؤساء، ومن دون الخوف من انتقام الأشرار. هكذا كان إيليّا الذي بقي أمينًا للربّ عندما وقع غالبيّة الشعب في عبادة الأوثان محاباةً لوجه الملك.
ثم يحثّ أخو الربّ على الصلاة وتسبيح الربّ في السرّاء والضرّاء. فإنّ الصلاة تعزّي قلب الحزين الرازح تحت ضغوط مشقّات العالم. وفي حالات المرض المستعصية يستعين المريض بقسوس الكنيسة الذين يدهنونه بسرّ الزيت المقدّس، لشفاء النفس والجسد باسم الربّ يسوع المسيح إلهنا العظيم.
علينا أن نعترف بالخطايا بعضنا لبعض، يقول الرسول يعقوب. فالاعتراف بالخطيئة هو بداية العودة عن المساوئ التي تطغى على قلب الإنسان. اعترافي بخطيئتي مهمّ لكي يصلّي من أجلي الآخر، لا سيّما الكاهن البارُّ، لكي أشفى من خطيئتي. يستمطر سرّ الاعتراف نِعَمَ الله السماويّة على ضعفنا وتهاوننا ويأسنا ومرضنا.
جسّد إيليّا النبيّ في حياته أسرار قدرة الله، فهو إنسان من طبيعتنا الهشّة ذاتها، إلا أنّه كان رجل صلاة واجه بجرأة أصعب الظروف والاضطهادات بالاعتماد على الله وحده. هكذا خَبِرَ إيليّا خلاص الله وقدرة يمين العليّ. لم يتغلّب فقط على مشقّاته الثقيلة، بل تغلّب على ناموس الطبيعة الثابت، فأوقف بصلاته المطر ثلاث سنين وستّة أشهر، وأقام الشاب من الموت. هل هناك ما يتعذّر حلّه وعلاجه أكثر من الموت وما يتعذّر السيطرة عليه أكثر من ناموس الطبيعة؟ حتّى على هذه كلّها تغلّب إيليا بصلاته وصبره ونقاوة السيرة والاتّكال على الله وحده.
فلنقتدِ بسيرة إيليّا النبيّ، يدعونا يعقوب البارّ الرسول الذي كان مثالًا للنقاوة والطهارة عند اليهود والمسيحيّين. ينصحنا أن نعرف قدرة الربّ التي لا تخذلنا، والتي تستعلن في كنيسته المقدّسة، مجمع الرسل والأنبياء والأبرار والقدّيسين.
الأرشمندريت يعقوب خليل
عميد معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ
طروباريّة القيامة باللحن الثالث
لتفرحِ السماويّات، ولتبتهجِ الأرضيّات، لأنّ الربَّ صنعَ عِزًّا بساعِده، ووطِئَ الموتَ بالموتِ، وصارَ بكرَ الأموات، وأنقذنا من جوفِ الجحيم، ومنح العالم الرحمةَ العُظمى.
القنداق باللحن الثاني
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية الوَسيطة لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعرْضي عَنْ أصواتِ طلباتنِا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصارخينَ إليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرسالة:
رو 6: 18-23
رتِّلوا لإلهنا رتّلوا
يا جميعَ الأمم صفّقوا بالأيادي
يا إخوةُ، بعد أنْ أُعتِقُتم من الخطيئَةِ أصبحتُم عبيدًا للبرّ. أقولُ كلامًا بشريًّا من أجل ضَعفِ أجسادِكم. فإنَّكم كما جعَلتُم أعضاءَكم عبيدًا للنجاسَةِ والإثم للإثم، كذلك الآن اجعَلوا أعضاءكم عبيدًا للبرّ للقداسة. لأنَّكم حينَ كنتُم عبيدًا للخطيئة كنتمُ أحرارًا منَ البِرّ. فأيُّ ثمرٍ حَصل لكم من الأمورِ التي تستَحيون منها الآن. فإنَّما عاقِبَتُها الموت. وأمَّا الآن، فإذا قد أُعتِقُتم من الخطيئة واستُعبِدتُم لله، فإنَّ لكم ثمرَكم للقداسة. والعاقِبةُ هي الحياةُ الأبديّة، لأنَّ أجرةَ الخطيئة موتٌ وموهبةُ اللهِ حياةٌ أبديَّةٌ في المسيحِ يسوعَ ربَّنا.
الإنجيل:
متى 8: 5-13 (متى 4)
في ذلك الزمان دخل يسوع كفرناحومَ، فدنا إليهِ قائدُ مئةٍ وطلب إليهِ قائلًا: يا ربُّ، إنَّ فتايَ مُلقًى في البيت مُخلَّعٌ يُعَذَّبُ بعذابٍ شديد. فقال لهُ يسوع: أنا آتي وأشفيهِ. فأجاب قائدُ المئةِ قائلًا: يا ربُّ، لستُ مستحِقًّا أن تدخُلَ تحتَ سقفي، ولكنْ قُلْ كلمةً لا غيرَ فيبرأ فتايَ، فإنّي أنا إنسانٌ تحت سلطانٍ ولي جندٌ تحت يدي، أقولُ لهذا اذهبْ فيذهَبُ وللآخر إئتِ فيأتي ولعَبْدي إعمَل هذا فيعْملُ. فلمّا سمع يسوعُ تعجَّب وقال للذين يتبعونَه: الحقَّ أقول لكم، إنّي لم أجِدْ إيمانًا بمقدارِ هذا ولا في إسرائيل. أقول لكم إنَّ كثيرين سيأتون مِنَ المشارقِ والمغاربِ ويتَّكئون معَ إبراهيمَ وإسحقَ ويعقوبَ في ملكوت السماوات، وأمَّا بنو الملكوت فيُلقَون في الظلمةِ البَرَّانيَّةِ. هناك يكونُ البكاءُ وصَريفُ الأسنان، ثمَّ قال يسوع لقائد المئة: اذهَبْ وليكُنْ لك كما آمنتَ. فشُفيَ فتاه في تلك الساعة.
في الإنجيل
قلب يسوع المقاييس، فقائد المئة الذي يأتي إليه الناس وبخاصّة اليهود خاضعين له، قد أتى هو منسحقًا إلى يسوع ليقول له لست مستحقًا، ولكنّني أثق بأنّ كلمة منك تشفي غلامي.
ما سرّ قائد المئة؟ ماذا يخفي في داخله؟
إيمان راسخ، وتواضع سحيق يخفيان في طيّاتهما حبًّا عميقًا للفتى المريض. وهو على الأرجح عبدٌ عنده ولكنّه جعله فتاه لأجل محبّته له.
إيمان يصل إلى درجة الثقة والاعتراف بأنّ الرب يسوع هو الوحيد القادر على الشفاء. إيمان مرتكز على التواضع وممتدٌّ بالكلّيّة إلى كلمة الربّ الفاعلة والمخلّصة "آمن بالربّ يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك" (أع 16: 31)
تواضع يصل إلى درجة انسحاق القلب والاستسلام الكامل لمشيئة الربّ. تواضع لا يحجبه مقام أو مركز أو رتبة، "القلب المتخشّع والمتواضع لا يرذله الله" (مز 17:50)
محبّة تصل إلى درجة صار فيها العبد ابنًا والغريب قريبًا. محبّة جعلت القويّ منسحقًا، والقائد متواضعًا، "ليس لأحد حبّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو 15: 13). محبّة جعلت المريض معافًى، والمستحيل ناجزًا. محبّة نابعة من الذي أحبّنا أوّلًا وبذل نفسه لأجلنا، "لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو 3: 16)
ومتى اجتمع الثلاثة الحبّ والإيمان والتواضع، حصل التحوّل من المرض إلى الصحة، من الموت إلى الحياة، بكلمة من ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح طبيب النفوس والأجساد.
لقد سبق قائد المئة بإيمانه وتواضعه اليهود كلّهم لذلك مدحه الربّ، فلم يجد إيمانًا مثل ذلك في إسرائيل كلّه.
هل لدينا مثل هذا الإيمان؟
الويل لنا إن لم يكن لدينا مثل هذا الإيمان، ومثل هذا التواضع، ومثل هذا الحبّ، لأنّنا عندئذ سنخسر الملكوت، ولن يشفع فينا انتماؤنا الظاهر إلى "جماعة الملكوت"، وسيعطى لأمّة أخرى يقول الربّ.
الخلاص هو فقط في الالتصاق بالربّ والإيمان به، وإبقاء شعلة المحبّة ملتهبة في قلوبنا، عاملين بوصاياه. أن نتحلّى بتواضع "قائد المئة" وجرأته على رفض ما يمنعنا من المحبّة، مهما كانت المغريات وما أكثرها! أن نكون مؤثّرين في الآخرين وغير متأثّرين بهم، وإلّا اخرجوا من وسطهم، إذا كان إيمانكم سيتزعزع، يقول الربّ:
"أنتم هيكل الله الحيّ، كما قال الله: إنّي سأسكن فيهم وأسير بينهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا. لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا، يقول الربّ. ولا تمسّوا نجسًا فأقبلكم، وأكون لكم أبًا، وأنتم تكونون لي بنين وبنات، يقول الربّ القادر على كلّ شيء" (2 كورنثوس 6 : 17).
إيليا النبيّ المتغرّب العفيف
من يستطيع أن يتحدّث عن حياة النبيّ إيليا المبارك؟ هذا الذي عاش على الأرض كأنّه ملاك أرضيّ كما لو كان في السموات قبل نقله، عشيرًا للملائكة عادمي الأجساد، هو الذي لم يمتلك شيئًا على الأرض، الذي ارتدى الصوف فقط، وظهر مرعبًا لأولئك الذين يرتدون التيجان والأثواب الملكيّة، ليس بسبب قوّة الجسم، بل بتغرِّبه وعفّته، وبنعمة الروح القدس التي حصل عليها جزاءً عن حياته الصالحة، هو الذي لم يمتلك شيئًا، ومع ذلك كان يملك كلّ شيء الذي رفض مغريات هذه الحياة ومباهجها كلَّها، الذي شقّ النهر بأمره، الذي أمر السماء بألّا تمطر على الأرض مدّة ثلاث سنوات وستّة أشهر، الذي نبذ كلّ مجدٍ باطل، الذي أخمد لهيب الخطيئة وهو الذي حافظ على العفّة ووبّخ الأنبياء المجدّفين والمضلّلين. ذبح كهنة بعل، وأمر النار بالنزول من السماء، أحرق الكافرين وعاتب الملك على تسليته هو الذي امتلك جرأة وشجاعة في الكلام.
لم يعش هذا النبيّ العظيم على الأرض من دون أحزان وإغراءات، بل على العكس، بعد صنعه معجزات عظيمة كهذه، وخشية من امرأة، هرب وهاجر، واضطر إلى السفر أربعين يومًا وهو صائم لكنّه لم يجد الراحة، بل تبعه امتحان آخر، ألا وهو موت طفل الأرملة. فبعد لطف الضيافة، رأت هذه المرأة المباركة أنّ طفلها قد مات، وفيما كانت تنتظر أن تتلقّى من النبيّ بركة مكافأة لها على ضيافتها، تلقّت بدلًا من ذلك الألم، وبعدما كانت تأمل في أن تجد العزاء في حياتها، فقدته في حضور النبيّ.
يا له من أسى قد حصل للنبيّ ويا للمعاناة! يا للضعف فالمرأة طلبت طفلها، أمّا هو الذي ربط السحاب فقد ارتبك إزاء طلبها، لكنه استجابة لإلحاحها نفخ سبع مرّات في فم الطفل، ورفع صلاة حارّة إلى الله من أجله فأعاد الطفل إليها بعد إحيائه من الموت لأنّه كان لديه الصوم والغربة معينين له في هذا العمل.
رأيتم يا إخوتي، قوّة الغربة وضبط النفس، كيف ألغيا الموت وأعطيا الحياة للطفل وكيف أنقذا النبيّ من التجارب والمخاطر وأعدّاه ليصعد الى السيّد على المركبة الناريّة دون أن تمسّه النار بأذى. ولأنّه عاش حياة عفيفة ونقيّة مملوءة بنعمة الله، كان وهو لا يزال في الجسد عشيرًا للملائكة عادمي الأجساد.
يا ليتنا نماثله في هذه الأيّام في غيرتنا على الإيمان بالله، ونشهد له بهدوء فقد وجده النبيّ ليس في العاصفة والضجّة. يا ليتنا نتعلّم من تغرّبه حيث أضحى بلا وطن ولا شعب ينتمي إليه ليغدو صورة ليسوع الذي لم يكن له مكان يسند إليه رأسه. يا ليتنا نهرب إلى صحرائنا الداخليّة لا خوفًا من العالم بل بحثًا عن الله طالبين منه أن يرسل لنا نعمته الإلهيّة لنقتات بها ونحيا. ونسأله أن يرفعنا إليه لنحلَّق على مركبة نار الحبّ الإلهيّ الذي وشّح النبيّ إيليا وأشعله غيرة وأهّله لأن يغدو شاهدًا حقيقيًّا للإله الحيّ إلى أبد الدهور آمين.