الأحد 14 كانون الثاني 2024

الأحد 14 كانون الثاني 2024

11 كانون الثاني 2024

 الأحد 14 كانون الثاني 2024
العدد 2
وداع عيد الظهور
اللحن السابع، الإيوثينا العاشرة


أعياد الأسبوع:

14: وداع عيد الظهور، الآباء المقتولون في سيناء وريثو، 15: البارَّان بولس الثيبي ويوحنَّا الكوخي، 16: السجود لسلسلة بطرس المكرّمة، الشهيد دمسكينوس، 17: القدّيس أنطونيوس الكبير معلّم البرّيّة، الشهيد جارورجيوس الجديد (ايوانينا)، 18: اثناسيوس وكيرلّلس رئيسا أساقفة الإسكندريّة، 19: البارّ مكاريوس المصريّ، مرقس مطران أفسس، 20: البارّ إفثيميوس الكبير، الشهيد أفسابيوس.


"توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات"
 
"توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات"، بهذه العبارة، يا أحبّة، يعلن يسوع بداية رسالته البشاريّة. 

النداء هنا هو نداء توبة، والدعوة هي إلى الملكوت. 

المسيح هنا يعلّمنا، ومنذ البداية، أنّ التوبة هي طريقنا إلى الملكوت وليس هناك من طريق آخرَ سواه. 

في الأحد الماضي أخبرنا الإنجيليّ مرقس كيف أنّ المعمدان استبق السيّد، وكرز بالتوبة. 

في هذا الأحد، المسيح يتابع فيصادق على كرازة المعمدان مُثبّتًا تعليمه، ويتقدّم أكثر ليكشف عن غاية التوبة، ألا وهي: الملكوت.

بداية نتساءل: ما هي التوبة؟ 

التوبة، يا أحبّة، هي أن نحيا كلّ لحظة من حياتنا برؤيا الملكوت، أن نحيا في هذه الدنيا على رجاء الحياة الأبديّة. 

وهذا يعني أن يتحرّر قلبنا من ملذّات هذه الحياة، من مغرياتها وأن نلقي عنه همومها ومتاعبها وأن يلتصق بالله.

إنسان اليوم كثيرًا ما يسعى إلى الله منشدًا التوبة، ولكن غالبًا ما تتعثّر توبته، والسؤال: لماذا؟ 

لماذا نحن عاجزون أن نتوب توبة حقيقيّة؟ 

التوبة الحقيقيّة التي تغصب الملكوت تُفتَرض كاملة أو فيها مثابرة، ونحن اليوم غالبًا ما نتوب بشكل مشوّه ومبتور، أو بشكل قليل أو للحظات فقط. 

التوبة لا تتحقّق عندما نقدّم جانبًا من حياتنا لله أو لحظات منها. 

توبة كهذه هي توبة فرّيسيّة، عقيمة وجافّة يشجبها الله. لأنّ الإنسان يسعى من خلالها أن يبرّر ذاته أمام الله وليس أن يبرّره الله. 

التوبة ليست مجموعة من الفروض الدينيّة أو الشرائع أو القوانين، والعلاقة مع الله لا تقوم على الواجبات والحقوق. 

المطلوب أن نسلّم ذواتنا بكلّيّتها إلى أبينا، إلى الله: "يا بنيّ أعطني قلبك"، بمعنى أعطني ذاتك كلّها، وفي كلّ حين، وليس فقط في أوقات الشدائد أو التجارب أو من وقت إلى آخر.

السؤال الآخر الذي يطرح ذاته هو: كيف نعيش التوبة في وسط خضمّ هذا العالم المضطرب؟

الداء الذي يعاني منه عالمنا المعاصر هو نسيان الله. 

العالم اليوم متخم بألوان الرفاهيّات والمتع ووسائل الراحة التي تستهوي إنسان اليوم وتجذب اهتمامه. 

في غمرتها ووفرتها غالبًا ما يُنسى الله، وعلى أساسها تترتّب شؤون الحياة وتتحدّد الأولويّات. 

ولكونها تستهلك الكثير من الجهد والوقت فإنّ الحياة تُهدر من دون ثمن، وهكذا ينقطع الإنسان عن غاية وجوده "كمواطن الملكوت" وتنقطع تلك الوسائل عن غايتها، فبدلًا من أن نستخدمها كأدوات ووسائط للخدمة والمحبّة تنقلب إلى غايات، وتصبح أهدافًا بحدّ ذاتها. 

وعلى هذا فالتوبة تأتي كعلاج لداء نسيان الله. 

التوبة اليوم تتطلّب منّا أن نعيد ترتيب "أولويّاتنا" في هذه الحياة وفقًا لمعيار "الملكوت"، أي أن ننتخب كلّ ما هو نافع ويخدم الملكوت، وأن ننبذ كلّ ما هو باطل وغير مفيد، وكلّ ما هو سيِّئٌ بالكلّيّة. 

وهذا يستدعي أن نكون يقظين وأن نمتحن كلّ شيء من حولنا كي لا تلتصق قلوبنا بأيّ "اهتمام دنيويّ" لدرجة أن يصبح "هوسًا" يشغلنا عن اهتمامنا الأكبر، وهو: "الله". 

المطلوب إذًا أن نطلب ملكوت الله وبرّه في كلّ اهتمام.

باختصار، التوبة هي أن نقوم بأيّ عمل بوسعنا أن نصلّي فيه: "أبانا الذي في السماوات... إلخ"، قبل ممارسته، وأن نمتنع عن كلّ عمل لا نستطيع أن نصلّي قبله.

+ يعقوب
مطران الأرجنتين وبوينس آيريس 


طروباريّة القيامة باللحن السابع

حطمت بصليبك الموتَ وفتحتَ للّص الفردوس، وحوَّلتَ نوحَ حاملاتِ الطيب، وأمرتَ رسلكَ أن يكرزوا بأنّكَ قد قمتَ أيّها المسيح الإله، مانحًا العالم الرحمةَ العظمى.

طروباريّة الظهور باللحن الأوّل

باعتمادك يا ربّ في نهرِ الأردنّ ظهرت السجدةُ للثالوث، لأنّ صوتَ الآب تقدّمَ لكَ بالشهادة، مسميًّا إيّاكَ ابنًا محبوبًا، والروح بهيئة حمامة يؤيّدُ حقيقةَ الكلمة. فيا مَن ظهرتَ وأنرتَ العالم، أيّها المسيح الإله المجد لك.

قنداق الظهور باللحن الرابع

اليومَ ظهرتَ للمسكونة يا ربّ، ونورُكَ قد ارتسمَ علينا نحن الذين نسبِّحُكَ بمعرفةٍ قائلين: لقد أتيت وظهرتَ أيُّها النورُ الذي لا يُدنى منه.

الرسالة: أف 4: 7-13 
لِتَكُن يا ربُّ رحمَتُكَ عَلَينا
ابتهِجوا أيُّها الصدّيقونَ بالربّ


يا إخوة، لكلِّ واحدٍ منّا أُعطيَتِ النعمةُ على مقدارِ موهبةِ المسيح. فلذلك يقول: لمّا صعد إلى العُلى سبى سبيًا وأعطى الناسَ عطايا. فكونُهُ صعد هل هو إلاّ أنّه نزل أوّلاً إلى أسافل الأرض. فذاك الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق السماوات كلِّها ليملأ كلّ شيء. وهو قد أعطى أن يكونَ البعضُ رُسُلًا والبعضُ أنبياءَ والبعضُ مبشِّرين والبعضُ رُعاةً ومعلِّمين. لأجلِ تكميل القدّيسين ولعَمَلِ الخدمة وبُنيانِ جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعُنا إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسانٍ كاملٍ، إلى مقدار قامةِ مِلءِ المسيح.

الإنجيل: متّى 4: 12-17

في ذلك الزمان، لمّا سمع يسوع أنّ يوحنّا قد أُسلم انصرف إلى الجليل، وترك الناصرة، وجاء فسكن في كفرناحوم التي على شاطئ البحر في تُخوم زبولون ونفتاليم، ليتمّ ما قيل بإشعياء النبيّ القائل: أرض زبولون وأرض نفتاليم، طريق البحر، عِبرُ الأردنّ، جليلُ الأمم. الشعبُ الجالسُ في الظلمة أبصر- نورًا عظيمًا، والجالسون في بقعة الموت وظلاله أشرق عليهم نور. ومنذئذ ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات.

في الإنجيل 

يتحدّث متّى البَشير في هذا المقطع الإنجيليّ عن الربّ عندما ذهب من اليهوديّة إلى الجليل، بعد القبض على المعمدان، وما لبث أن غادر مدينته الناصرة تارِكًا الّذي له لأنّه رفضه، وتوجّه الى جليل الأمم حيث بدأ كرازته في هذه المنطقة الوثنيّة الغارقة في العبادات الباطلة، والخمول الروحيّ والنّعاس الدينيّ. 

منطقة شعبها قابعٌ في كورة الموت لا رجاء له بأيّ خلاص. 

إنّه الشعب الّذي كان عاجزًا عن الخروج من ظلمة السقوط، ولكنّه بحضور الربّ أبصر نورًا عظيمًا. 

أبصر إنسانًا منزّهًا عن الخطيئة فانتقل من مرحلة إلى أخرى، طارِحًا عنه كلّ خمولٍ ونعاسٍ. 

شعب جليل الأمم يُمثّلُ حالة كلّ عاقلٍ يقبل المسيح في المعموديّة فيلبسُ النّورَ ويكسب إمكانيّة دخول ملكوت الله. 

ولكن هل يكفي أن نلبس النور في المعموديّة لدخول الملكوت؟  

كلّ واحد منّا عليه المحافظة على هذا النور بحيث نكون حذرين من تسلّل الظلمة إلى نفوسنا، حريصين دائمًا على إبقائه مُشتعلًا فينا مُنيرًا قتام ظلمة خطايانا. 

علينا أن نفعّله باتّباع وصايا الربّ، المحبّة والتواضع، الترفّع عن الأنانيّة وحبّ الذّات، العطاء وطبعًا بالاشتراك في جسد المسيح ودمه المكَرّمَين، وأن نسمع كلامه هو الّذي دعانا إلى التوبة في أوّل عظة "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات"، فبدون توبة ومن دون النور الحقيقيّ لن نرى ملكوت الله.

التوبة ليست بكاءً على ما اقترفناه، إنّما هي رجوع إلى الله بالفكر والعمل، هي تغيير الذهن وطريقة التفكير، إنّها معموديّة ثانية، والربّ يفرَح بتائب واحد أكثر من تسعةٍ وتسعين بارًّا. 

التوبة عمل مُستمرٌّ، فلا يجوز لنا أن نحمل خطايانا إلى ساعة موتنا. 

الحقيقة أنّ ملكوت الله في داخلنا يبدأ من القلب فعمل التوبة هو تنقية هذا القلب، وعيش الملكوت يبدأ على الارض باخضاع لذّات الجسد وأهوائه للرب. 

علىينا أن نجاهد ونصلّي لئلّا نعود إلى أرض الظلمة وظلال الموت، أن نكون متمسّكين بالنعمة التي فينا مُستعدّين لمواجهة كلّ محاولة تعترضنا من الشرير ومن فساد هذا الزمن الّذي يعجّ بالأفكار الماكرة الخبيثة التي تحارب الكنيسة وأبناءها، هذا الزمن الّذي يلوّن الخطيئة بأجمل الألوان ويُظهرها بأبهى الصور ليجتذب النّاس كلّ الناس بكافّة الوسائل من الموضة إلى المثليّة الجنسيّة مرورًا بالمخدّرات وعولمة الفكر الإنسانيّ بهدف إلغاء فرادة الإنسان الأرثوذكسيّ، هذا الإنسان الّذي يجب أن يكون تائبًا دائمًا، أن يكون في كلّ زمان ومكان "صوت صارخ" متشبّهًا بالسابق وصابغ المسيح، جاعلًا ملكوت السموات مشتهى قلبه، آمين.

الخطيئة وشرور الحروب

الكتاب المقدّس كلّه من التكوين وحتّى آخر كتاب الرؤيا يتكلّم على صراع لا ينتهي بين الخير والشرّ، بين وصايا الله وأهواء البشر؛ بين الملائكة القدّيسين والشياطين الخادعين؛ بين الأنبياء الملهمين والمعلّمين الكذبة؛ بين الآباء المدافعين، والمرائين والهراطقة.

كلّ هذا الصراع كان سببه الأوّل كبرياء ملائكة كانوا قدّيسين سقطوا ليصبحوا شياطين؛ ومحاولتهم التي لا تملّ جعل البشر شياطين على صورتهم. 

الشياطين أدخلت الكبرياء إلى النفس البشريّة وأفقدتها سلامها الداخليّ. 

وما هذه الأحقاد والحروب بين البشر سوى نتيجة هذا الكبرياء الشيطانيّ الذي لا يرتوي إلّا بالانتقام.

آباء الكنيسة نظروا إلى الحروب على أنّها عمل الشياطين. 

واعتبروا أنّ المسيحيّين هم "نسل سلام"، تدرّبوا ليس على الحروب إنّما على السلام. 

لهذا فالعدوّ الحقيقيّ الوحيد بالنسبة إلى المسيحيّ هو الشيطان، الذي يدفع البشر إلى العداوة والحروب وكلّ أنواع الأحقاد. 

كلّ حرب بين الناس تبدأ أوّلًا في القلب البشريّ حين يستسلم الإنسان لبغض أخيه الإنسان وحقده. 

الحسد الموجود عند الشيطان يدفعه إلى أن يريد أن يهلك كلّ الناس. 

وإذا تملّك الحسد إنسانًا، يصير وحشًا تجاه أخيه الإنسان، i8 mi وآلة شيطانيّة لكلّ أنواع الشرور والأحقاد التي تمدّ جذورها في الحروب. 

أشرّ الحروب والأكثر قساوة وهمجيّة هي الحروب الدينيّة. 

الحروب الدينيّة هي من أقسى الحروب وتكون من دون رحمة. 

الحقد الدينيّ أخطر بكثير من كلّ الأحقاد الأخرى؛ يُسيطر على النفس البشريّة بقوّة لا تُضبط. 

ليس المبدأ الدينيّ، إنّما الحقد، هو الذي يدفع الإنسان ليقتل نفسه، ويصير وسيلة قتل لأعدائه لا رحمة فيه.

إذًا، النفس التي لا تغفر سيأكلها حقدها حتمًا. 

لهذا كلّ حرب تخرج إلى النور يُحبل بها أوّلاً في داخل القلب المضطرب. 

يُحبل بها من أب هو إبليس وأمٍّ هي الأحقاد البشريّة. يقول القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ: 

"نحن نقاتل ضدّ عدوّ يُقيم علينا صراعًا وحربًا داخليّة. عدوّ طافح بؤسًا، يجد فينا بالذات الأسلحة التي يوجّهها ضدّنا، ويسلمنا إلى موت الخطيئة. بمواجهة هذا العدوّ، نحتاج إلى إيمان كبير، إيمان مطلق، لكن أيضًا إلى مساندة أكبر من الله".

فالشيطان بعصيانه، فَقَد السلام الملائكيّ، فَقَد الفرح الإلهيّ، الذي كان له جزءًا من طبيعة وجوده. 

وأصبح الشرّ لذّته الوحيدة، ونشْرُ الحروب بين البشر تعزيته الكبيرة. 

اختار طريقًا لهذا العالم يتناقض مع طريق الله، وأقنع العالم أنّه لا يوجد سلام من دون حروب واقتتال للبشر فيما بينهم. 

إنّه سلام المتكبّرين ومحبيّ السلطة. كلّ سلام يقوم على الحروب والاقتتال سينتج حروبًا أعظم وشرورًا لا تنتهي. 

أمّا سلام المتواضعين، فهو وحده يخنق الشرّ في جذوره. 

لقد علّم مسيحنا أحبّاءه، في مقابل كلّ هذه التجارب والحروب والاضطهادات، التي يُحرّكها إبليس، أن يُحبّوا أعدائهم ويغفروا لهم، ويسهروا ويصلوا كي لا يدخلوا في تجربة. 

في القرون الأولى للمسيحيّة، آباء الكنيسة، لأجل سلام المؤمنين، في دولة معادية لمسيحهم، كانوا يدعون إلى الابتعاد عن الاشتراك في أيّ نوع من أنواع الحروب وقتل الآخرين. 

أوريجنّس في ردّه على الوثنيّ كلسوس Celsus، (حوالي 248م)، الذي قال إنّ المسيحيّين بعدم عبادتهم الإمبراطور يشكّلون خطر سقوط الإمبراطوريّة بأيدي الأمم البربريّة والهمجيّة. 

أوريجنّس يدافع بقوله إنّ المسيحيّين يقدّمون للأباطرة أعظم مساندة بصلواتهم وتضرّعاتهم لأجله. 

فبمقدار ما يكون عليه الإنسان من تقوى، بمقدار ما تصير مساندته للأباطرة فعّالة، أكثر من الجيوش التي تخرج لتقتل ما تستطيع من الأعداء.

 "المسيحيّون يحاربون عبر صلواتهم إلى الله من أجل أولئك الذين يحاربون من أجل قضيّة عادلة، ولأجل الإمبراطور الذي يحكم بعدل... غلبتُنا عبر صلواتنا، تهزم كلّ الشياطين الذين يدفعون إلى الحروب، وينقضون الأقسام التي تعكّر السلام. 

نحن نعين الأباطرة أكثر من أولئك الذين يُفترض أنّهم يعملون الحروب".    
                                                                                                                                                          
لكن بعد اندماج المسيحيّين في إمبراطوريّة مسيحيّة، وازدياد خطر الوثنيّين والبرابرة، أصبح المسيحيّون ينظرون إلى سلامهم على أنّه جزء من سلام الإمبراطوريّة، لكن ليس من دون تحفّظ. 

يعتبر القدّيس باسيليوس أنّ الوظيفة العسكريّة ليست مانعًا للإنسان الذي يسعى إلى القداسة. 

في رسالة إلى جنديّ يقول: 

"يُمكن، حتّى في الوظيفة العسكريّة، أن يحفظ الإنسان محبّة كاملة لله، وأنّ المسيحيّ عليه أن يتميّز ليس بالثياب التي يرتديها وإنّما بجهوزيّة نفسه". 

حتّى في حالة حدوث قتل في الحرب، يقول قدّيسنا: "أسلافنا لم يعتبروا القتل في الحرب كجريمة لكن، كما أفهمه، أعطوا أعذارًا لأولئك الذين يصارعون من أجل التهدئة والتقوى. 

مع هذا، حسن أن تذكّر أولئك الذين أيديهم ملوّثة أن يمتنعوا عن المناولة فقط لثلاث سنين". 

أحد النصوص الآبائيّة الأخرى من نهاية القرن الرابع وبداية الخامس، يمنع الذي سفك دمًا في الحروب من الاشتراك في الأسرار حتّى يتطهّر من خطيئته بدموع التوبة والنوح.

خارج الوظيفة العسكريّة، تبقى الكنيسة أمينة كليًّا لوصايا المسيح بأنّ الحروب كلّها غير عادلة وغير مبرَّرة. 

في الغرب تمادى البابوات في نظرتهم إلى مبدأ الحرب العادلة. وذلك استنادًا إلى المغبوط أوغسطينوس، الذي دافع عن مفهوم استخدام القوّة بهدف الدفاع عن الوطن أو لاستعادة أرض مغتصبة. 

وقد تطوّر هذا المفهوم لينشأ منه مفهوم "الحرب المقدّسة". 

هذا المفهوم للحروب دفع العديد من بابوات روما إلى الدعوة إلى الحروب الصليبيّة وإعطاء صكوك غفران كاملة للمحاربين، مع التأكيد لهم أنّهم في حروبهم ضدّ الكفرة ينالون المكافأة الأبديّة. 

هذا المفهوم لم يكن موجودًا في الكنيسة في الشرق، التي سعى آباؤها إلى أن يحفظوا أوّلًا السلام الداخليّ للنفس البشريّة. متذكّرة دائمًا قول المسيح "أحبّوا أعداءكم"، وأنّ "مَن أخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ" (مت52:26). 

القتل في الحروب يُحطّم فضيلة المحبّة في النفس البشريّة. 

لهذا حين حاول بعض أباطرة الروم، كنيكيفورس فوكاس، أن يحصلوا على موافقة الكنيسة في الشرق بأن يُكرَّم الجنود الذين يسقطون في الحروب تكريم الشهداء، رفضت الكنيسة طلبهم.

حروب المسيحيّين كلّها مقدّسة؛ لكنّها حروب روحيّة غير منظورة. 

حروبٌ لا تتوقّف، يُحارب فيها الإنسان لا أخاه الإنسان، إنّما أهواءه والأبالسة الذين يدفعونه إلى قتل أخيه الإنسان. 

لهذا كلّ الحروب والاضطهادات يسمح بها الله، لتكون لشعبه زمن توبة وعودة صادقة إلى الله، بإيمان ثابت وصلاة متواضعة ودقّة في حفظ الوصايا الإنجيليّة. 

إذا تحقّقت هذه التوبة فإنّ الله يوقف الشرور والاضطهادات ضدّ الكنيسة ومؤمنيها، ويعطيهم سلامًا مقدّسًا وفرحًا إلهيًّا أبهى وأنقى. 

وهذا بالتحديد ما كان يحصل في العهد القديم مع شعب الله. 

كثيرون هم الذين فتّشوا عن السلام الحقيقيّ في هذا العالم البائس خلال العصور، فلم يجدوه. 

آخرون أرادوا فرض هذا السلام بالقوّة ففشلوا. 

وحدها وصايا المسيح قادرة بالإقناع أن تُبيد قوّة الشرّ وتُحطّم شرّ الشياطين، وتنشر سلامًا حقيقيًّا بين البشر. 

العمل بوصايا المسيح يُعطي سلامًا بين البشر، لأنّه يقوم على الغفران لأعدائنا، لا على العقاب والانتقام. 

يقول القدّيس أمبروسيوس: "السلام الذي يطرد إغراءات الأهواء ويُهدّئ اضطرابات الروح هو أرفع من ذاك الذي يُخضع البرابرة. ليس أمر أعظم من أن تُقاوم العدوّ داخلك من ذاك الذي هو خارجًا بعيدٌ عنك". 

ملكوت الله ليس فيه حروب وأحقاد إنّما سلام لا ينتهي؛ وقد أعطانا وصايا تجعل هذا العالم أيقونة للعالم الآتي. 

الله سلام، ومملكة السلام لن يدخلها إلّا الذين ثبتوا في هذا السلام، الآتي من محبّة الحقّ وعدالة الله، لا عدالة البشر.