الأحد 11 حزيران 2023
09 حزيران 2023
الأحد 11 حزيران 2023
العدد 24
أحد جميع القدّيسين
اللحن 8، الإيوثينا 1
أعياد الأسبوع:
11: تذكار الرسولَين برثلماوس أحد الإثني عشر، وبرنابا أحد السبعين، 12: تذكار البارَّين أنوفريوس المصريّ وبطرس الآثوسيّ، بدء صوم الرسل، 13: تذكار الشّهيدة أكيلينا، 14: تذكار النبيّ أليشع، القدّيس مثوديوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة، 15: تذكار النبيّ عاموس، البارّ إيرونيمُس، 16: تذكار القدّيس تيخن أسقُف أماثوس، 17: تذكار الشُهداء إيسفروس ورفقته، الشُّهداء مانوئيل وصابل وإسمعيل.
القدّيسون والقداسة
القدّيس مثالٌ لنا وشفيع.
القداسة حقيقةٌ غيرُ مخلوقةٍ يشترك بها الإنسان، علّيقةٌ مشتعلةٌ وغيرُ محترقة، نارٌ إلهيّةٌ غيرُ مخلوقةٍ "جئتُ لكي أُلقِيَ نارًا على الأرضِ حبّذا لو اشتعلت!" هذه هي محبّةُ الله، تقود أحيانًا إلى الشهادةِ أو إلى الاِستشهاد، وهي مُرافقةٌ غالبًا بالتواضع.
المسألة في النهاية إشتراكٌ في حياة الله ونعمتِه غير المخلوقة.
نعم، إنّ القدّيسين يعكسون الحياةَ الإلهيّة، حضورَ قوّةٍ ليست من هذا العالم.
تُرى ما هو مصيرُ الإنسانِ الذي يُحرَمُ من شفاعة القدّيسين؟!
هناك تعزيةٌ كبيرةٌ يكتسبُها الإنسانُ المؤمنُ في صلاتِه للقدّيسينَ وعند طلب معونتِهم، وكذلك عند السجود لرفاتهم.
هل نقرأ سيرة حياتهم؟
هل نقتدي بما لديهم من فضائل؟
المحبّة، التواضع التفاني والتضحية... من أجل الله ومن أجل الآخرين؟!
يقول القدّيس يوحنا السلّمي في شأن موضوع القداسة:
"القداسة لا تَخُصُّ أشخاصًا محدَّدين، بل الناسَ جميعاً"، ليست عند الله محاباة" (رو 2: 11) أي تفضيل Favoritism.
ويُضيف السلّميّ:
"من يتخلّى عن الأموال من أجل الله فهو عظيم، أمّا من يتخلّى عن مشيئته فهو قدّيس. الأوّل يأخذ مئة ضعفِ أموالِه، أمّا الآخر فيرث حياةً أبديةً" (المقالة 17: 9) من كتاب السلّم الى الله.
القدّيسون هم شعبُ الله "كونوا قدّيسين كما أنا قدّوس".
القداسةُ تذوّق سابقٌ للملكوت.
+ أفرام
مطران طرابلس والكورة وتوابعهما
طروباريّة القيامة باللحن الثامن
إِنْحَدَرْتَ من العُلُوِّ يا مُتَحَنِّن، وقَبِلْتَ الدَّفْنَ ذا الثَّلاثَةِ الأيَّام لكي تُعْتِقَنَا من الآلام. فيا حياتَنَا وقيامَتَنَا، يا رَبُّ، المجدُ لك.
طروباريَّة أحد جميع القدِّيسين باللَّحن الرَّابِع
أيُّها المسيحُ الإله، إِنَّ كنيسَتَكَ إذ قد تزيَّنَتْ بدماءِ شُهَدائِكَ الَّذين في كلِّ العالم، كأنَّها ببرفِيرَةٍ وأُرْجُوَان. فهي بهم تهتِفُ إليكَ صارِخَة: أَرْسِلْ رأفَتَكَ لشعبِكَ، وٱمْنَحِ السَّلامَ لكنيسَتِك، ولنفوسِنَا الرَّحمة العُظْمَى.
قنداق أحد جميع القدِّيسين باللَّحن الرَّابِع
أيُّها الرَّبُّ البارِئُ كلَّ الخليقةِ ومُبدِعُها، لكَ تُقَرِّبُ المسكونَةُ كَبَواكيرِ الطَّبيعةِ الشُّهَدَاءَ اللابِسِي اللاَّهوت. فبطَلِباتِهِم وَشَفاعةِ والدةِ الإله، اِحْفَظْ بالسلامَةِ التامَّةِ كنيسَتَكَ وَشَعبَك، يا جَزِيلَ الرَّحمَةِ وَحدَك
الرِّسَالَة (عب 11: 33-40، 12: 1-2)
عَجِيبٌ هو اللهُ في قدِّيسيه
في المجامِعِ بَارِكُوا الله
يا إخوةُ، إنَّ القدِّيسينَ أَجمَعِين بالإيمانِ قَهَرُوا الممالِكَ وعَمِلُوا البِرَّ ونَالُوا المواعِدَ وسَدُّوا أَفْوَاهَ الأُسُود، وأَطْفَأُوا حِدَّةَ النَّارِ ونَجَوْا من حَدِّ السَّيْفِ وتَقَوَّوْا من ضُعْفٍ، وصارُوا أَشِدَّاءَ في الحربِ وكَسَرُوا مُعَسْكَرَاتِ الأجانِب. وأَخَذَتْ نساءٌ أَمْوَاتَهُنَّ بالقِيامة. وعُذِّبَ آخَرُونَ بتوتيرِ الأعضاءِ والضَّرْبِ، ولم يَقْبَلُوا بالنَّجَاةِ ليَحْصُلُوا على قيامةٍ أفضل. وآخَرُونَ ذَاقُوا الهُزْءَ والجَلْدَ والقُيُودَ أيضًا والسِّجن. ورُجِمُوا ونُشِرُوا وٱمْتُحِنُوا وماتُوا بِحَدِّ السَّيْف. وسَاحُوا في جُلُودِ غَنَمٍ ومَعْزٍ وهُمْ مُعْوَزُون مُضَايَقَونَ مجَهُودُون. ولم يَكُنِ العالمُ مُسْتَحِقًّا لهم. فكانوا تائِهِينَ في البراري والجبالِ والمغاوِرِ وكهوفِ الأرض. فهؤلاء كلُّهُم، مَشْهُودًا لهم بالإيمانِ، لم يَنَالُوا الموعِد. لأنَّ اللهَ سبَقَ فنظَرَ لنا شيئًا أَفْضَلَ، أنْ لا يُكْمَلُوا بدونِنَا. فنحن أيضًا، إذا يُحْدِقُ بنا مثلُ هذه السَّحابَةِ من الشُّهُودِ، فلْنُلْقِ عنَّا كُلَّ ثِقَلٍ والخطيئةَ المحيطَةَ بسهولةٍ بنا. ولْنُسَابِقْ بالصَّبْرِ في الجِهادِ الَّذي أمامَنَا، ناظِرِين إلى رئيسِ الإيمانِ ومكمِّلِهِ يسوع.
الإنجيل: متى 10: 32-33، 37-38، 19: 27-30 (متى 1)
قال الربُّ لتلاميذه: كلُّ مَنْ يعترفُ بي قدّامَ الناسِ أعترفُ أنا بهِ قدَّام أبي الذي في السموات. ومَن ينكرُني قدَّام الناس أنكره انا قدَّامَ أبي الذي في السماوات. مَن أحبّ أباً أو أماً أكثرَ منّي فلا يستحقُّني، ومن أحبَّ أبناً او بنتاً أكثر منّي فلا يستحقُّني، ومَن لا يأخذُ صليبه ويتبعُني فلا يستحقُّني، فأجابَ بطرسُ وقال لهُ: هوذا نحنُ قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك، فماذا يكونُ لنا؟ فقال لهم يسوع: الحقَّ أقولُ لكم، إنَّكم أنتمُ الذين تبعتموني في جيل التجديد، متى جلس ابنُ البشر على كرسيّ مجده، تجلِسون أنتم أيضًا على اثنَيْ عَشَرَ كرسيًّا تَدينونَ أسباط إسرائيلَ الاِثنَيْ عَشَر. وكلُّ مَن ترك بيوتًا أو إخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أُمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حقولًا من أجل اسمي، يأخُذُ مِئَةَ ضِعفٍ ويرثُ الحياة الأبديّة. وكثيرون أوَّلون يكونون آخِرين، وآخِرون يكونون أوَّلين.
في الإنجيل
إنَّ الرَّبَّ الكلّي المعرفة، الذي يرى المستقبل البعيد وكأنّه زمن حاضر، قال لتلاميذه الماثِلين أمامه، «فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى١٠: ٣٢-٣٣).
وهذا الكلام مُوَجَّه لجميع تلاميذ المسيح في جميع الأزمنة والأمكنة بدون استثناء؛
وبالتالي هذا الكلام مُوَجَّه أيضًا لكم أنتم المتواجِدين في هذا الهيكل المقدّس، لأنّكم صِرتُم تلاميذَ المسيحِ باقتبالِكم المعموديّةَ المقدَّسة.
وكما يُضيءُ البرقُ السماءَ من ناحيةٍ إلى الأُخرى مِن دون أن يفقدَ لَمَعانَه، هكذا أيضًا وَصَلَتْنا وصيّةُ الربّ منذ ثمانية عشر قرنًا، مُعلَنةً في الأناجيل بقوّةٍ ووُضوحٍ.
إنَّ تلاميذ الربّ ليسوا فقط أولئك الذين يُسَمُّون أنفسهم مسيحيّين على اسمه، وليسوا أولئك الذين نَذَروا حياتهم لخدمته فحسب؛ بل تلاميذه هم الذين يعترفون به حقًّا كَرَبِّهِم وسيّدهم وملكهم الأبديّ، ويعترفون بأنَّ تعاليمه إلهيّة، ويطبّقون وصاياه على أنّها من الله.
يجب أن يكون اعترافُهم هذا بالفكر والقلب والقول والفعل وبكلّ حياتهم.
فلا يجب أن يُخامِر هذا الاِعترافَ أيُّ تَردُّدٍ أو خَجَلٍ أو مَلامَةِ.
عندما تقرأ حياة القدّيسين تهزّ رأسك وتفكّر، "لا يمكنني أبدًا فعلُ أيِّ شيءٍ مِن هذا القبيل."
عانى الكثيرون من عذاباتٍ مُروِّعةٍ حتّى الموتِ لأنَّهم رفضوا إنكارَ المسيح.
آخَرون حَرموا أنْفُسَهُم من المأكلِ والملبسِ والمأوى بِطُرُقٍ تبدو خارجةً عن قُوَّةِ البشر.
قَبِلَ البعضُ الهُزْءَ والقُيودَ وهم يغفرون لمُعَذّبيهم كما تُذَكّرنا قراءة الرسالة اليوم.
فإنَّ قدّيسي العهد القديم قد تحمّلوا مثل هذه التجارب لمجرَّدِ انتظارِهم مجيءَ المخلّص.
في يوم الأحد هذا، المخصَّصِ لجميع القدّيسين، نُحيي ذِكرى كُلِّ أولئك الَّذين اتَّحدوا بالربِّ لدرجةِ أنّهم أصبحوا مُستَنيرينَ بقداسته بقوّة الروح القدس، بما في ذلك أولئك الذين لم يتمَّ تقديسُهم رسميًّا كقدّيسين مِن قِبَلِ الكنيسة.
إنَّ القِدّيسينَ المُقَدَّسين يقفون كأمثلة مشرقة لطاعة الربّ.
نحتفل بهم لأنَّ حياتهم هي مثل هذه الرُّموز الحيّة لما يعنيه أن يصبح الإنسان مُشاركًا في الطَّبيعة الإلهية بالنّعمة.
نحن بالطبع لا نعرف أسماء جميع القدِّيسين.
بطبيعة الحال، فإنَّ الهدف من القداسة ليس مجرّدَ لَفتِ الاِنتباه إلى الذّات.
بدلًا من ذلك، يجب أن نكون أُمناء في تسليمِ حياتنا للمسيح.
إذا أردنا أن نُحصيَ عددهم، فعلينا أن ننتبه بعنايةٍ لتعاليم المسيح اليوم في قراءة الإنجيل.
فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ (متّى ١٠: ٣٢-٣٣)".
لا شكَّ في أنَّ هذه الكلمات تتعلَّقُ بأهمية بقاءِ المرءِ أمينًا للربّ حتّى في مواجهة الاِضطهاد العنيف.
يستمرُّ الشهداءُ والمعترفون في رفض إنكاره، بغضّ النَّظر عن الأذى الجسديّ الذي يعانون منه والخُضوع للآخر في الحياة.
ليس الخضوع للمجتمع البشريّ شديدًا كالخضوع للعائلة.
إنّ رفض الخضوع لمطالب المجتمع أسهل من رفض الخضوع لمطالب العائلة، لأنّ الأخيرةَ تستند على قوانين الطبيعة، وعندما تتوافق هذه المطالب مع شريعة الله، فإنَّ شريعة الله نفسها تساعدهم.
غالبًا ما يجد خادم المسيح نفسه في حيرة بسبب المطالب المُتَناقِضة، غير عالمٍ كيف يحقّقها بما يرضي الله.
يجد الربُّ حَلًّا مُرضِيًا وشاملًا لهذه الحيرة بِتَبَصُّرِه. لقد أكملَ الكلمات أعلاه بما يلي: «مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متى٣٧:١٠).
أي مَن يفضّل إرادة والِدَيه أو أيِّ أقارِبَ آخَرِين بحسب الجسد على إرادتي، مَن يفضّل طريقتَهم في التفكير والفلسفة على تعليمي، مَن يفضِّل إرضاءهم بدلًا من إرضائي، فهو لا يستحقُّني.
لا حرج، بالطبع، في محبّة والدِينا أو أطفالِنا، ولكن إذا أردنا أن نتألّق بقداسة الله، فعلينا أن نحافظ حتّى على أقوى محبّتنا بالتّرتيب الصَّحيح.
يجب أن نتذكّر أنَّ والدِينا وأطفالَنا وأزواجَنا هم عطايا من الله لنا.
يجب أن نسأل أيضًا عمّا إذا كنا نعترف به أمام جيراننا في كلِّ يومٍ من حياتنا في ما نقوله ونفعله.
إنَّ كبرياءَنا فقط هي التي تجعلنا نعتقد أنّ الإخلاص الحقيقيّ يجب أن يكون دراميًا ومذهلًا.
يكافح معظمُنا من أجل أن نكون أُمَناءَ حتّى في تجاربِنا اليوميّة. سوف نفشل في توحيد أنفسنا بالمسيح في القداسة إذا فشلنا في رؤية أنّ التحدّيات الأكثرَ شُيوعًا التي نواجهُها هي فُرَصُنا للإقرار بأنّنا ننتمي إليه.
"إرضاءُ النّاسِ" أمرٌ خطيرٌ للغاية لأنَّه في النهاية شكلٌ من أشكال عبادة الأوثان يتمحور حول الذات حيث نَتوق إلى موافقة الآخر لدرجة التَّضحية بأيّ شيء من أجله.
بدلاً من تقديم علاقاتنا الأكثر قيمةً وحميميّةً للربّ من أجل شفائِه وبركاته، ينتهي بنا المطاف بتقديم أنفسنا للآخرين، على استعداد للتنازل عن إخلاصنا.
هذا لا يعني حمل الصَّليب، بل التضحية بطاعتنا للمخلّص من أجل خدمة آلهةٍ أقلّ.
وبما أنّ الدافع وراء هذا الموقف هو رغبتنا الأنانيّة في قبول الآخرين، فهي في النِّهاية طريقة لعبادة أنفسنا.
كثيرًا ما نعتقد أنَّ القداسةَ تحدثُ فقط في سياق جدران الكنيسة الأربعة.
إذا أردنا أن نحملَ الصَّليبَ ونتبع المسيح، يجب أن نتعلَّمَ أيضًا أن نرى الفرص اللانهائيّة للموت عن النفس بدافع الحبّ له وللمجتمع في حياتنا اليوميّة.
إنّه لَمُمكِنٌ الاِبتعاد عن المجتمع البشريّ أو الأقارب؛
ولكن أين تذهب كي تهرب من ذاتك؟
أين يمكنك الاختباء من طبيعتك؟
كيف تُفلِت منها؟
من أجل التَّحَرُّر من العبوديّة إلى الطبيعة الساقطة، يوصينا الربُّ بِصَلْبِ طبيعتنا؛ أي إنكار إرادتنا لتثبيت حركة عقلنا وجاذبيّة قلبنا لوصايا الأناجيل.
وهكذا، «وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ» (غلاطية٢٤:٥):
لقد صلبوا عقلَهم الجسديَّ وإرادةَ طبيعتِهم الساقطة، التي تأسَّسَتْ عليها حياةُ الخطيئة ومَيلُ الجسدِ والنفسِ إلى الخطيئة.
هكذا فالعالم قد صُلِبَ للرسول وهو بدوره قد صُلِبَ للعالم (راجع غلاطية٦: ١٤).
"العديد من الذين سيكونون أوَّلًا سيكونون أخيرًا، والأخير أوَّلًا".
عبارة المخلّص تنطبق على كلِّ من وضعه في المقام الأوّل في حياته، لأنَّ القيام بذلك يتطلّب التَّضحية بالكثير ممّا يعبده العالم.
ومن الواضح أنَّ هذا هو حال الشهداء والمُعترفين حتّى يومنا هذا، ولكنّه ينطبق أيضًا على كلّ مَن يُضَحّي، ولو بشكل بسيط، من أجل طلب ملكوت الله أوَّلًا.
عندما نوجّه وقتنا وطاقتنا واهتمامنا لخدمة المسيح وكنيسته والَّذين معنا، فإنَّنا نأخذ مكانةً أدنى في تقدير العالم. للأسف، هذا ما يسودُ في أيّامنا هذه، فمن يعيشُ الأرثوذكسيّةَ في حياتِه ويضع المسيحَ وصليبَه نُصْبَ عينَيه، ينتقدُه الآخَر. ومَن يعلِّمُ فِكرَ الآباءِ وفِكرَ الكنيسةِ ويَحفظُ العقيدة مُستقيمةً كمّا تسلّمناها من الرّسل القدّيسين، يُتَّهم بالتَّقليديّ والمنغلق.
يجب أن نتمثّلَ بالقدّيسين في حياتنا، الَّذين جاهدوا في سبيل الحقّ والإيمان والكنيسة "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ 1 بط (1: 16).
نعم، يجب أن نتبع المسيح حتّى الصَّليب، حتّى صليبِنا الشخصيّ، ونحملَه ببسالة، بنعمة الرّوح القدس. وراء هذا الصَّليب، كما نرى اليوم في عيد جميع القدّيسين، توجد حديقةٌ جميلة، كرمةٌ إلهيّة، ليست أقلّ من الفردوس نفسه، فردوس القدّيسين، الذي نرجو أن نستحقَّه، بواسطة ربّنا يسوع المسيح، المُمّجَّد مع أبيه السماوي والروح القدس والصالح ومعطي الحياة، إلى أبد الدُّهور، آمين.
تحدِّيات الكنيسة بين التطرُّفِ والحكمة!
كثيرةٌ هي التحدِّيات التي تواجهها الكنيسةُ اليوم في كلِّ العالم، وكبيرةٌ هي المسؤوليّةُ المُلقاةُ على كاهلها في مواجهة هذه التحدِّيات، سيَّما في حفظ الإيمان والمؤمنين في آن، من الشوائب التي يمكن أن تتسرَّب إلى حياة المؤمنين والكنيسة.
لا شكَّ في أنَّ روح العالم، المخالفَ لروح الإنجيل، هو الخطرُ الأكبر على أبناء الكنيسة وعلى وجود الكنيسة، وهو كالماء الذي يدخل إلى السفينة من ثقبٍ صغيرٍ فيها فيُغرقُها.
هكذا فإنّ روح العالم ومنطق العالم يتغلغلانِ للأسف في أذهان المؤمنين وفكر الكنيسة، ممّا يؤدّي تدريجيًّا إلى تحوِّل الكنيسة إلى كنيسة دهريّة، ويجعلُها مجرَّدَ مؤسَّسةٍ دنيويّةٍ اجتماعيّةٍ إنسانيّة، ويُغيِّبُ عنها مهمّتَها ورسالتّها الأساس في هذا العالم، والتي وُجدت من أجلها، وهي تقديسُ النفوسِ وخلاصُها.
لذلك فالكنيسةُ الأرثوذكسيّةُ معنيَّةٌ بالحفاظ على أبنائها من التعاليم الغريبة عن إيمانها الآبائيّ المستقيم، والتي تسلَّمته جيلًا بعد جيل.
إنَّ مواجهة الكنيسة لهذا الوضع يجب أن تكون مواجهةً حاسمة لا جدل فيها، لكن في الوقت نفسه ولكي تكونَ المواجهةُ ناجحة، يجب أن تتمَّ بتمييزٍ وحكمة، واضعينَ أمامنا هدفَ الحفاظ على الرعية من ناحية، وأن نجذب الآخرين إلى الحقيقة من ناحيةٍ أخرى.
ومن أجل ذلك علينا أن نُتقنَ لغة التخاطب مع أبناء هذا العصر، وأن نعرف كيف نتوجَّه إليهم، في عالمٍ يستخدم كلَّ الوسائل ليخدعهم ويجذبهم إليه.
في هذا المجال يمكن القول أنَّ الغيرة الزائدة التي يبديها بعض الغيارى من الرعاة والمؤمنين، تترك أثراً عكسياً، وبدل أن نحمي الرعية، نبدِّدها، وبدل أن نجذب الآخرين إلى الحقيقة التي ندافع عنها، نجعلهم ينفرون منها.
لذلك إن شئنا أن ندافع عن الحقّ في الإيمان، يَلزَمُنا أن نكون "حُكَماءَ كالحيّات" (متى 10: 16)، ونقتني الحكمة التي كانت لدى الربّ يسوع المسيح، ولنأخذ مثالًا لنا لقاءَه مع السامريّة (يو4: 4-42)، تلك المرأة كانت إنسانة زانية، وفي الوقت نفسه كانت هرطوقيّةً في مفهوم اليهود، لكنَّ الرب لم يستخدم معها أيّةَ كلمةٍ جارحة، لا من حيث خطيئتُها ولا من حيث انحرافُ إيمانِها، بل أيقظَ ضميرها بلطفٍ ورِقَّة، وقال لها الحقيقة بكلمات رقيقة بعيدة عن التجريح، حين أوضحَ لها أنَّ الخلاص هو من اليهود، وليس من السامريّين، ولكنّه في الوقت نفسه خلَّصها بمحبّته وحكمته من حياتها السابقة ومن إيمانها المنحرف، وأتى بها إلى الإيمان به.
كذلك في مثلِ "السامريّ الصالح" (لو10: 30-37)، أظهرَ الربُّ أنَّ السامريَّ المنحرفَ العقيدة، فاقَ بصلاحه الكاهن واللاويَّ اللذَين كانا على الإيمان اليهوديّ، إذ كان مستقيم السلوك عندما تصرَّف برحمةٍ تجاه أخٍ له في الإنسانيّة!
وفي حادثة شفاء الرجال البرص العشرة (لو17: 11-19)، مدَحَ الربُّ ذاكَ السامريَّ الأبرص، الذي وحده عاد شاكرًا!
وأكثر من ذلك فقد مدحَ الربُّ إيمانَ الكنعانيّةِ الوثنيّة "يا امرأةُ عظيمٌ إيمانُكِ" (متى 15: 21-28)، وكذلك مدحَ إيمانَ قائد المئة الوثنيّ "الحقَّ أقولُ لَكُم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا" (متى 8: 5-13).
وبهذه الحكمة تصرَّف بولس الرسول عندما خاطب أهل أثينا الوثنيّين، إذ لم يجرحهم بِنَعتِه لهم أنّهم وثنيّون كَفَرَةٌ أو غيرُ مؤمنين، رغم أنَّ كذلك، لكنَّه بحنكة وحكمة، بُغيةَ اصطيادهم إلى الربّ، وجذبِهم إلى الحقيقة، قال لهم:
"بينما كنت أجتاز وأنظر إلى معبوداتكم، وجدت أيضًا مذبحًا مكتوبًا عليه:«لإلهٍ مجهول»، فالذي تتَّقونه وأنتم تجهلونه، هذا أنا أنادي لكم به" (أع 17: 23)، فهل كان بولسُ يَكذِبُ أو يُساوِمُ على الحقيقة؟!
أبدًا، بل كصيَّادٍ ماهرٍ للنفوس، أراد اجتذابهم إلى الإيمان الحقيقيِّ بابن الله.
إذًا، واجبُنا أن نتمسَّكَ بالحقيقة التي عندنا، ومسؤوليّتُنا أن نُعلِنَها للعالم أجمع، لكن بتمييزٍ وحكمة واحترامٍ لِحُرّيَّةِ الآخَر، تلك الحريَّة التي احترمها الربُّ يسوع لمّا قال:
"إن أراد أحد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (متى16: 24)، وبالتالي من لا يريد، هوَ حرٌّ! هذه الحكمة هي أكثر ما يلزم الكنيسة، من أجل أن تكون قادرةً على التعاطي مع عالمٍ يتغيَّرُ كلَّ يوم، فتقدِّم له الحقيقة بتواضعٍ واحترامٍ ومحبة، تلك المحبّة التي يفتقدها الإنسان اليوم، والتي وحدها ستخلِّص العالم.