الأحد 31 تموز 2022

الأحد 31 تموز 2022

27 تموز 2022
الأحد 31 تموز 2022
العدد 31
الأحد السابع بعد العنصرة
اللحن  السادس، الإيوثينا السابعة


أعياد الأسبوع:

31: تقدمة عيد زيّاح الصليب، الصديق إفذوكيمُس، يوسف الراميّ،1: عيد زيّاح الصّليب، الفتيان المكابيّين الـ 7 الـ الشُّهداء وأمُهم صلموني ومعلّمهم لعازر، بدء صوم السيّدة، 2: نقل عظام استفانوس أوّل الشُّهداء ورئيس الشّمامسة، الأبرار اسحاقيوس وذلماتس وففستس، سالومة حاملة الطيب، 4: الشّهداء الفتية السبعة في أفسس، 5: تقدمة عيد التجلّي، الشّهيد آفسغنيوس، نونة أمّ القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ، 6: تجلي ربّنا وإلهنا يسوع المسيح.

محطّاتٌ هامّةٌ في زمن صوم السيّدة

يرتبطُ صومُ عيدِ رُقادِ والدةِ الإله، الذي يبدأ غدًا، بمحطّاتٍ ثلاث:

المحطّة الأولى تبدأ في اليوم الأوّل للصوم الذي نحتفل فيه بتزييح الصليب، الذي هو شجرة الحياة التي رُفِعَ عليها الربّ. الصليب هو أداة خلاصنا، فهو يذكّرنا بتكلفة الفداء وذبيحة الجلجلة، وهو رمزٌ ورايةٌ للنصر، في جهادنا وصومنا، وهو نموذج لِكُلِّ مسيحيّ، ليَصلبَ عليه شهواتِه. الصليب هو السلاح  القويّ، الذي نغلب به العدوّ غيرَ المنظور. فكُلُّ مؤمنٍ يسيرُ في الطريق الضيّق وهو يعلمُ أنَّ وَعدَ الربِّ صادق، يُمضي كلَّ حياتِه في الفرحِ والرجاءِ الذي لا يخيب.

المحطّةُ الثانية تقع في وسط هذا الصوم، يوم عيد تجلّي الربّ، وهو أمرٌ حدثَ قبلَ آلامِ الربِّ يسوع على الصليب بفترة وجيزة. وضعت الكنيسة ترتيب عيد التجلّي والتعييد له في شهر آب، وذلك كي لا يفقد أهمّيّتَه كمرحلةٍ مستقلّةٍ في تاريخِنا الخلاصيّ. ظهر يسوعُ نورًا لتلاميذِه المقرَّبينَ بطرسَ ويعقوبَ ويوحنّا، لكي يشدّدَ إيمانَهم، لأنّهم فيما بعدُ سيَرَونَهُ مصلوبًا. وهو يقولُ لِكُلِّ مؤمنٍ: إنّكَ ما دُمتَ مِنَ المقرَّبِينَ منّي، فسأُغدِقُ عليكَ مِن نُوري، لكي تستوطنَ معي في السماء. هُنا إشارةٌ هامّةٌ إلى أنّ المكافأة الإلهيّة ليست فقط غفران الخطايا، وإنّما اتّحادٌ بالقوى الإلهيّةِ الحيّةِ والمحيية، وهي فقط للّذين هم مقرَّبون حقيقةً من الله بِكُلِّ ما للكلمةِ مِن معنى.

المحطّةُ الثالثة تقع في نهاية الصوم، وهو عيدُ رقادِ والدة الإله، الذي نسمّيه أيضا بالفصح الصيفيّ، الذي يَعِدُنا بمكافأة ملاقاة الربّ في السماء، وأن نكونَ مع الربِّ دائمًا. إنّ والدة الإله، كونَها اختارت أن تكون أَمَةً للربّ، وحَفِظَتْ كلامَهُ في قلبِها، اختبَرَتِ الموتَ بطريقةٍ خاصّةٍ جدًّا، لأنّها هي ثمرةُ قِمّةِ الجنسِ البشريّ بأسرِه. لذا، لم يَسمحِ المسيحُ ابنُها الذي اتّخذَ منها جسدًا، أن يَعْرُوَ جسدَها فسادٌ. ففي اليوم الثالث لِرُقادِها نقلَها نفسًا وجسدًا إلى المجد السماويّ، لكي تكون الشفيعةَ الحارّةَ لنا عنده.

إنّ هذا الصومَ قصيرُ المدّةِ وصارم، لذا فهو يذكّرُنا بِقِصَرِ حياتِنا على الأرض، وأن نعمل لنكون جدّيّين في حياتنا الروحيّة، وأن نلحظ أهمّيّة أن نخلق الجمال في داخلنا، بحفظنا كلام الربِّ ووصاياه، كما فعلت مريم العذراء، لنصبح قدّيسين كما أنّ أبانا السماويّ قدّوس. وهكذا نصعد ونتلاقى مع الربّ وجميع أبراره في ملكوته السماويّ.

طروبارية القيامة باللحن السادس

إنّ القوّاتِ الملائكيّةَ ظهروا على قبرك الموَقّر، والحرّاس صاروا كالأموات، ومريمَ وقفت عندَ القبر طالبةً جسدَك الطاهر، فسَبيْتَ الجحيمَ ولم تُجرّب منها، وصادفتَ البتول مانحاً الحياة، فيا من قامَ من بين الأمواتِ، يا ربُّ المجدُ لك.

قنداق التجلّ باللحن السابع

تجلّيتَ أيها المسيحُ الإله في الجبل، وحسبما وسعَ تلاميذَك شاهدوا مجدَك، حتّى، عندما يعاينونكَ مصلوباً، يفطنوا أن آلامَكَ طوعًا باختيارك، ويكرزوا للعالم أنّكَ أنتَ بالحقيقةِ شعاعُ الآب.

الرسالة:
 رو 15: 1-7
خلّص يا ربُّ شعبَكَ وبارك ميراثَك
إليكَ يا ربُّ أصرُخُ إلهي


يا إخوةُ، يجبُ علينا نحنُ الأقوياءَ أن نحتملَ وَهَن الضُّعفاءِ ولا تُرضيَ أنفسَنا. فليُرضِ كلُّ واحِدٍ منّا قريبَهُ للخيرِ لأجل البُنيان، فإنّ المسيحَ لم يُرضِ نفسَهُ، ولكن، كما كُتِبَ، تعييراتُ معيّريكَ وقعَت عليّ. لأنّ كلّ ما كُتِبَ من قبلُ إنّما كُتبَ لتعليِمنا ليكونَ لنا الرجاءُ بالصبرِ وبتعزية الكُتب. وليُعطِكُم إلهُ الصبرِ والتعزيةِ أن تكونوا متّفقي الآراءِ في ما بينَكم بحسَبِ المسيح يسوع، حتّى إنّكم بنفس واحدةٍ وفمٍ تمجّدون الله أبا ربنا يسوعَ المسيح. من أجل ذلك فليتّخذ بعضُكم بعضًا كما اتّخذكم المسيحُ لمجدِ الله.

الإنجيل: 
متى 9: 27-35 (متى 7)


في ذلك الزمان، فيما يسوع مجتازٌ تبعهُ أعميانِ يَصيحان ويقولان ارحمنا يا ابنَ داوُد. فلّما دخل البيتَ دنا إليهِ الأعميانِ فقال لهما يسوع: هل تؤمنانِ بأنّي أقدِرُ أن أفعَلَ ذلك؟ فقالا لهُ: نعم يا ربُّ، حينئذٍ لمس أعينَهما قائلاً: كإيمانِكُما فليكُنْ لَكُما. فانفتحت أعينُهما. فانتَهرَهما يسوعُ قائلاً: أنظُرا لا يَعلَمْ أحدٌ. فلّما خرجا شَهَراهُ في تلك الأرضِ كلّها. وبعد خروجهما قدّموا اليهِ أخرسَ بهِ شيطانٌ، فلمّا أُخرِجَ الشيطانُ تكلّم الأخرسُ. فتعجّب الجموع قائلين لم يَظهَرْ قطُّ مثلُ هذا في إسرائيل. أمّا الفريسيّون فقالوا إنّهُ برئيسِ الشياطين يُخرج الشياطين. وكان يسوع يطوف المُدنَ كلّها والقرى يعلِمُ في مجامِعِهم ويكرِزُ ببشارة الملكوتِ ويَشفي كلّ مَرَضٍ وكلّ ضُعفٍ في الشعب.

في الإنجيل

"إرحمنا يا ربّ يا ابن داود". إنّه صراخُ الأعميَين، لا بل صُراخُ البشريّةِ المُصابةِ بالعمى الروحيّ، جرّاءَ انجرافِها في سيولِ الخطايا وابتعادِها عن مشيئةِ الله ووصاياه.

العدد اثنان، وكأنّهما يمثّلان العالَم بشقّيه، آنذاك، اليهوديّ والوثنيّ. كلاهُما مُصابٌ. كلاهُما بعيد. الدّنيا كلّها تصرخُ، بلسانِ الأعميَين، طالبةً الربّ ليُخَلِّصَها مِمّا هي فيه.

الإنسانُ استحقّ مصائبَهُ جرّاءَ خطاياه؛ والرّبُّ وحدَهُ القادرُ على انتشالِ الإنسان.

المسيحُ هو نورُ العالَم. هو نورٌ لِمَن لا يُبصِرون. وهو لا يعيدُ إلينا البصرَ وحَسْبُ، بل البَصيرةَ، عينَ القَلب، فنرى مجدَ الله ونعودَ إلى الإيمان به والحياةِ معه: "أنا هو نور العالَم، مَن يتبعُني فلا يمشي في الظُّلمة، بل يكونُ له نورُ الحياة" (يو12:8).

لماذا قادَهُما إلى البيت؟ لماذا لم يَشفِهِما فورَ سَماعِهِ أصواتَ صُراخِهِما، بل انتظر إلى أن يصلَ إلى البيتِ الذي كان يقصدُه، وبعدَ دخُولِهِ البيت ابتدأ يُحاوِرُهُما ثُمَّ شَفاهُما؟!!! السببُ هو أنّه أرادَ أن يُعلّمَنا أن نهربَ من المجدِ الباطل. لذلك لم يشأ أن يُجترحَ أعجوبةَ الشفاءِ على مرأى من الكثيرين. وللتأكيدِ على ذلك، نلاحظ أنّه بعدَ شفائهما شدّدَ عليهما ألّا يقولا لأحدٍ ما جرى. وهذا يوضحُ تمامًا رغبتَهُ في عدم التّباهي أمامَ الناس بقدرتِه على صنعِ العجائب.

وهُنا يخطرُ ببالِنا السؤالُ التالي: إذاً، لِماذا في مواضع أُخرى يقولُ لِمَن يشفيه: "إذهبْ وحدّثْ بما صنعَ اللهُ إليك"؟!!! والجواب أنّه يعلّمُنا من خلالِ ذلك أن ننسبَ المجدَ إلى الله، ويشدّدُ على ضرورةِ الإعلانِ في هذه الحالة.

أمّا الأخرسُ الذي به شيطان، فهو يُمثِّلُ البشريّةَ الّتي سكنَها، بسببِ الخطيئة، شيطانٌ جعلَها غيرَ قادرةٍ أن تتحدّثَ مع خالقِها وأن تُسَبِّحَهُ وتشكُرَهُ. لقد ربطَ الشيطانُ لسانَهُ ونَفْسَهُ. جاء السّيِّدُ وطردَ الشّيطان، فتحرّرَ النّاس، وصار بإمكانِهم أن يحمَدوا الله وَيُسَبِّحوه.

أمّا أَصحابُ المعرفةِ النّظرِيّةِ، الفرِّيسيُّون، فرأَوا فيه رئيسَ الشّياطين، لأنّ كبرياءَهم أَعْمَتْ عيونَهم وجعلَتْهم يَضِلُّون عن الحقيقة. إِنّهم قادةُ الشّعب، ولكنّهم بدلاً من رِعايتِه، يرعَون كرامتَهم وخزائِنَهم وبُطونَهم، لذلك عَمِيَتْ بصيرتُهم، وصاروا، على حدِّ تعبيرِ بولسَ الرّسول: "يطلُبون ما هو لأنفسِهم لا ما هو ليسوعَ المسيح" (في21:2).

وأخيرًا، نرى أنّ يسوعَ كان يطوفُ المُدُنَ كُلّها والقُرى، يُعَلِّمُ ويكرزُ ويَشفي. وهذا يعني أنّ يسوعَ لم يعاقبِ الفرّيسيّينَ على عدمِ إيمانهم وقساوةِ قلوبِهم، ولا وَبَّخَهُم، بل على العكس، أبرزَ وداعتَهُ، وعن طريقِها الوداعةِ أنّبَهم. وبدلًا مِن إضاعةِ الوقتِ بالمُهاتَراتِ الكلاميّة، راحَ يُتابعُ تجوالَهُ في المُدُنِ كُلِّها والقُرى. راحَ يتابعُ تعليمَهُ وإشاداتِه وأعمالَ الرحمةِ والشفاء.

إذا كانَ الرُّعاةَ قد فسَدوا، فإنَّ الرّبَّ لا يَترُكَ شعبَه، بل يأتي إليهم بنفسِه ليفتقدَهم، مِن أجلِ محَبّتِه وتَحَنُّنِه. وفي هذا يقولُ الرّبُّ: "هأنذا أَسألُ عن غَنَمي وأفتَقِدُها" (حز11:34).

والـــدة الإلــه والصـــوم

والدة الإله هي والدة العريس والفادي والمخلّص، والصوم قبل عيد رقادها ليس موجّهًا لإكرامها الشخصيّ بمقدار ما هو استعداد للدخول أعمقَ في هذا السرّ الّذي أدّته في عمل تدبير الله لخلاص البشر.

إنّ صومها يُهيِّئُنا للوقوف بِرَهبةٍ أمامَ هذا العملِ الّذي كان لها الدور الأكبر في نجازه. ومن جهة أخرى، صومها يهيّئنا لمعرفة دورها في حياتنا، كوالدة الإله وشفيعة ومحامية ومُعينة. ويظهر هذا في طروباريّة رقادها، التي نرتّل لها فيها، "... وفي رقادك ما أهملت العالم وتركته يا والدة الإله".

ما بلغته والدة الإله، لم ينزل عليها من فوق بدءًا، بل جاهدت لاِقتنائه. اختيارها من قبل الله لم يكن أمرًا عشوائيًّا، اختيارًا مُبهمًا، إنّما لأنّ تلك النقاوة والكمال المقدّس الّذي حقّقته، بَلَغَته بإرادتها الحرّة وإخضاع مشيئتها. وعلى قاعدة إرادتها الحرّة اختارها الله، وعلى أساس ما حقّقته في جهادها الروحيّ هذا أعطتها الكنيسة كلَّ هذا الاكرام والتمجيد. 

إنَّهٌ لأمرٌ يفوقُ كُلَّ إدراكِ العقلِ البشريّ أن يُخضِعَ الإنسانُ مشيئتَهُ بالكاملِ للمشيئةِ الإلهي. هذا غيرُ ممكنٍ إلّا بعد جهادات عظيمة وإنكارٍ كاملٍ للذّات، وبلوغ الحالة القُصوى من اللاهوى. هذا ما تحقّقَ في مريمَ العذراء.

لقد فاقت في إيمانها إبراهيم وكلَّ الأنبياء، لأنّها صدّقت أمرًا يستحيل تصديقه بشريًّا، فاستحقّت هذه النبوءة: "طوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قِبل الربّ". من يعلم كم من الأصوام صامت والدة الإله، حتّى استطاعت أن تقول بهذه البساطة والسهولة، "ليكن لي بحسب قولك".

الكتاب المقدّس مملوء شهادات عن أصوام رجال الله قبل البدء بعمل إلهيّ يعملونه لخدمة سرّ تدبير الله للبشر. حقًّا إنّ الصوم يخلق فينا إرادة مهيّأة للطاعة وإخضاع المشيئة الذاتيّة لتتقبّل وتعمل بسهولة مشيئة الله. ما هي قداسة القدّيسين سوى في أنّهم أخضعوا مشيئتهم، بملء إرادتهم، لمشيئة الله، وأتحدوا ذهنهم، عبر حفظ الوصايا، بذهن المسيح. 

فالصوم يكشف عن طبيعة إنكار الذات، لمسيرة الإنسان مع الله. لهذا أعطى الله الصوم، من البدء، كوصيّة إلهيّة تُعين الإنسان في مسيرته مع الله. وقد حفظت كنيسة العهد الجديد هذه الحقيقة، وشدّدت على الصوم كجهاد روحيّ عظيم، في تنقية الذهن وتطهير الإرادة.

الصوم يرتبط بالصراع ضدّ الأهواء؛ ثقل البطن يؤديّ إلى بلادة الذهن، وله تأثير مباشر على ضغط الأفكار.

الصوم يقود حتمًا إلى تهدئة أهواء الجسد، وهذه تنعكس مباشرة على تهدئة هيجان الأفكار، ليصير مستطاعًا السيطرة عليها. قوانين المجامع المقدّسة وتقليد الآباء كلّه شدّد على أهميّة الصوم. وهذا يكشف عن الطبيعة النسكيّة لمسيرة الخلاص الأرثوذكسيّة.

أولئك المقتنعون بمسيحيّة أخلاقيّة لا يعنيهم الصوم وكل الجهاد الروحيّ، فهم لا يحتاجون إليه في تصرّفاتهم اللائقة اجتماعيًّا. أمّا الّذين همّهم تطهير إنسانهم الداخليّ وبلوغ معاينة الله، فهم يعشقون الصوم كعشقهم للصليب، لأنّهم يعلمون أنّه لا يمكن أن يصيروا مسيحيّين بالفعل من دونه.

لهذا تطبيق وصايا الإنجيل في عمقها مستحيل من دون صوم وما يُرافقه من جهادات روحيّة أخرى. المسيح هو خبزنا الجوهريّ، ولكي نشبع من المسيح علينا أن نزهد بكل طعام آخر ماديّ.

كل هذا الإيمان والجهاد الروحيّ امتزج بحالة من التواضع لا توصف. وإخضاع المشيئة أيضًا مستحيل من دون تواضع. لهذا قالت مريم بكلام موحى من الله، "لأنّه نظر إلى تواضع أمته".

هكذا اعتبر الصوم، الّذي يُمارس بمعرفة وتوبة، أنّه سحق لكبريائنا وأنانيّتنا. فالله لا يُنصت إلى صلاة المتكبّرين. ونحن حين نطلب، بصلوات وأصوام، شفاعة والدة الإله والقدّيسين فنحن نعبّر عن أقصى انسحاقنا وعدم استحقاقنا لما نطلب. ولهذا يستمع الربّ صلاتنا لأجلهم.

ظهور الملاك المفاجئ لوالدة الإله، وعدم اضطرابها من حضوره، إنّما فقط من كلامه الغريب، يُظهر حالة اليقظة الروحيّة التي كانت تحيا فيها. اليقظة الروحيّة الدائمة هي وليدة الأصوام المتواصلة والصلوات التي تجعل الذهن في هدوئيّة ذكر متواصل للربّ.

يقول الكتاب أن مريم "كانت تحفظ كل هذه الأمور في قلبها"، ويعتبر الآباء القدّيسين أنّها كانت تحفظ كل هذا في صلاة القلب الداخليّة.

 لقد بلغت والدة الإله إلى هذه الحالة السامية من الصلاة القلبيّة غير المنقطعة، في صمت قدس الأقداس، هناك درّبت ذهنها على رفض الأفكار البشريّة وتوجيه كل قوى النفس نحو خيرات الدهر الآتي وهذا الخلاص العتيد أن يُكشف سرّه.

هذا الصوم الّذي يلدُ كلّ هذه البركات، ارتبط بالتوبة أيضًا. يقول القدّيس باسيليوس الكبير، التوبة من دون صوم هي عقيمة. لهذا، لم يكن الصوم يومًا عبئًا على الأرثوذكسيّ الّذي يعي مسيرة خلاصه، إنّما حاجة ونعمة. وفي الوقت ذاته سلاح ضدّ كل هجمات الشياطين.

 التوبة وكل الجهاد الروحيّ، الّذي يتفعّل بالصوم، ليس هدفًا بحدّ ذاته، إنّما له ارتباط وثيق ببلوغ محبّة الله. مَن يُحبّ الله يزهد بكل شهوات ومغريات هذا الدهر ويكفر حتّى بنفسه لكي يكتمل حبّه لله. هكذا أحبّت والدة الإله، إلهها وخالقها، بعد صوم وإنكار ذات عظيمين.

وهكذا كل نفس تجاهد وتصوم، تخترقها محبّة الله، ويدفعها عشقها لله لأن تعيش حالة شكر لا ينتهي للإله الّذي أعطى الإنسان كلَّ شيءٍ حتّى ذاتَه.

هكذا يصل الإنسان إلى الحريّة الكاملة، الحريّة المطلقة، التي تصير فيها نفسه حرّة من أيّ هوى يستعبدها. حرّة في أن تصنع ما تشاء، لكنّها تختار بملء إرادتها، كوالدة الإله مريم، أن تكون مكرّسة ومهيّأة لإلهها وخالقها فقط.

  القدّيس باسيليوس الكبير، On Fasting 1, 3. PG 31, 168A))