الأحد 30 كانون الثّاني 2022
26 كانون الثاني 2022
الأحد 30 كانون الثّاني 2022
العدد 5
الأحد (15) من لوقا
اللَّحن السابع الإيوثينا العاشرة
* 30: الأقمار الثلاثة وأمّهاتهم: آميليا- نونة- أنثوسة، * 31: كيرُس ويوحنّا العادما الفضّة، الشّهيدة أثناسيّا وبناتها، * 1: تقدمة عيد الدُّخول، الشّهيد تريفُن، * 2: دخول ربّنا يسوع المسيح إلى الهيكل، * 3: سمعان الشّيخ، حنّة النبيّة، * 4: البارّ إيسيذوروس الفَرميّ، 5: الشّهيدة أغاثي.
إلى الشبيبة
"أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ، لأَنّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُ الشِّرِّيرَ" (1 يو 2: 13)
الكنيسةُ أمٌّ. كلّنا أبناؤها. الكنيسة بيت. كلّنا سُكّانها. الكنيسة هي جسد المسيح. نحن الكنيسة بهذا المعنى. الكنيسة رأسها المسيح أي هي تتحرُّك بمقتضى ما يصدر عنه إليها ككلّ، كجسد، وكأفراد أي كأعضاء.
موقع الشبيبة في الكنيسة هو موقع القلب واليدين. إنّهم من بواسطتهم يضخُّ الله فيها روح التّجديد وهم الفعلة الّذين لا يُستَغنى عنهم..
إنّ "شَيْبَ الإِنْسَانِ هُوَ الْفِطْنَةُ، وَسِنّ الشّيْخُوخَةِ هِيَ الْحَيَاةُ الْمُنَزّهَةُ عَنِ الْعَيْبِ" (حك 4: 9).
الحكمة لا عمر لها لأنّها تأتي من روح الرّبّ، والخدمة في الكنيسة دَيدَنُها المحبّة الملتهبة بالغَيرة على ما لله.
من هنا، الشبيبة لديها هذه الطّاقة على الحبّ الّتي تحتاج أن تتفتّح وتنمو وتتنقّى، وهذا كلّه يصير بانخراطهم في حياة الكنيسة عبر عِشرة الكلمة الإلهيّة والصلاة والليتورجيا وخدمة المحبّة.
"فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ’ الْحَقّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنّكُمْ أَنْتُمُ الّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ" (مت 19: 28).
يسوع المسيح هو حياتنا الجديدة أي الّتي تختلف عن ما يعيشه النّاس الّذين لا يعرفونه، لأنّه هو من كشف لنا سرّ الإله-المحبّة والّذي يريد أن يهبَنا ذاتَه: "مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيّ وَأَنَا فِيهِ" (يو 6: 56).
علّمنا يسوع أنّ المحبّة هي أن نعطي وجودنا كلّه لمن نحبّ، لكن لكي يستقيم الحبّ فينا نقوّمه بمحبّة الله أوّلًا أي بطاعة وصيّته. هذا هو الطريق إلى الكمال الّذي تَنشُدُه الشبيبة، ولذلك من "كمش" طرف الخيط وتمسّك به ولحقه يصل إلى بركاتٍ وَنِعَمٍ كبيرة ويؤهّلُه الرّبّ ليكون له شاهدًا ونورًا ساطعًا في العالم...
في هذا اليوم تعيِّد كنيستنا المقدّسة لتذكار الأقمار الثلاثة: باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الذّهبي الفم.
هؤلاء تألّقوا بالعلوم الدنيويّة وبالمعرفة الإلهيّة. عرفوا العالم بكلّ ما فيه من حضارة وعلم آنذاك واختاروا أن يتركوه ليطلبوا ما هو أعظم وما هو الجوهريّ بالمطلق.
كان لديهم الغنى العالميّ من أموال وأملاك، والوجاهة كونهم من عائلات مرموقة في الدولة والمجتمع، وعلوم عصرهم، ومع ذلك التهبت قلوبُهم بعشق المسيح فتركوا كلّ شيء وتبعوه حاملين صليب الشّهادة في حياة الرهبنة الّتي اختاروا أن يعيشوها وفي الاضطهادات الّتي تحمّلوها لأجل استقامة الإيمان.
أيّها الأحبّاء، أيها الشبيبة، لا تخافوا من التّخلِّي عن أوهام السّعادة لتطلبوا الحقّ، لأنّ الحقيقة المطلقة الّتي يكشفها الإيمان وخبرة القدّيسين هي تَرْجَمَتْ لنا سرّ الوجود الّذي كشفه الله الآب بتجسّد ابنه الوحيد ومنحنا اقتناءه بروحه القدّوس عبر الاتّحاد بيسوع المسيح لنعرفه.
هذه هي الغلبة على الموت، الّذي يحاربه الإنسان بسلوك طريق الأنانية القاتل للذّات وللآخَر، بينما الطريق إلى الحياة هو في إماتة الأنا ليحيا الشّخص سرّ الشركة مع الله وفيه مع الآخَر...
الرّبّ يأتي...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة باللّحن السابع
حطمتَ بصليبِكَ الموتَ وفتحتَ للّص الفردوس، وحوّلتَ نوحَ حاملاتِ الطيب، وأمرتَ رسلكَ أن يكرزوا بأنّكَ قد قمتَ أيّها المسيح الإله، مانحاً العالم الرحمةَ العظمى.
طروباريّة القدّيسِين الأقمار الثلاثة باللّحن الأول
هلموا بنا لنلتئم جميعاً، ونكرّم بالمدائح الثلاثة الكواكبِ العظيمة، للآّهوت المثلّث الشموس، الذين أناروا المسكونة بأشعة العقائد الإلهية، أنهارَ الحكمة الجارية عسلاً، الذين روّوا الخليقة كلّها بمجاري المعرفة الإلهية، أعني بهم باسيليوسَ العظيم، وغريغوريوسَ المتكلِّمَ بالإلهيّات، مع يوحنّا المجيدِ الذهبيِّ اللسان، لأنّهم يتشفّعون إلى الثالوث من أجلنا نحن المُحِبِّينَ أقوالَهم.
قنداق دخول السيّد إلى الهيكل باللّحن الأول
يا مَن بمولدِكَ أيّها المسيحُ الإلهُ للمستودع البتوليّ قدَّسْتَ، ولِيَدَيْ سمعان كما لاقَ باركْتَ، ولنا الآن أدركْتَ وخلَّصْتَ، إحفظ رعيَّتَكَ بسلامٍ في الحروب، وأيِّد المؤمنينَ الذين أحبَبْتهم، بما أنّكَ وحدَكَ محبٌّ للبشر.
الرِّسَالة
عب 13: 7-16
إلى كلّ الأرض خرج صوتُهم السماوات تذيع مجد الله
يا إخوةُ، اذكروا مدبِّريكم الذينَ كلّموكم بكلمةِ الله. تأمّلوا في عاقبةِ تصرُّفهم واقتدوا بإيمانهم. إنّ يسوعَ المسيحَ هُوَ هُوَ أمسِ واليومَ وإلى مدى الدهر. لا تنقادوا لتِعاليمَ متنوعةٍ غَريَبة. فإنّهُ يَحسنُ أن يثبَّتَ القلبُ بالنعمة لا بالأطعمة التي لم ينتَفعِ الذين تَعاطَوها. إنّ لنا مذبحاً لا سُلطانَ للذينَ يَخدمونَ المسكنَ أن يأكُلوا منهُ، لأنّ الحيواناتِ التي يُدِخَلُ بدمِها عن الخطيئَة إلى الأقداس بيدِ رئيس الكهنةِ تُحرَقُ أجسامُها خارِجَ المحلّة، فلذلكَ يسوعُ أيضًا تألّمَ خارِجَ الباب ليقدِّسَ الشعبَ بِدَم نفسِه. فلنخرُج إذنْ إلَيهِ إلى خارجِ المحلّةِ حامِلينَ عارهُ، لأنّهُ ليسَ لنا ههنا مدينةٌ باقيةٌ بل نَطلُبُ الآتية. فَلنقرّبْ بهِ إذًا ذبيحةَ التسبيحِ كلّ حينٍ، وهيَ ثمرُ شِفاهٍ معترفةِ لإسمهِ. لا تنسَوا الإحسانَ والمؤاسَاةَ. فإنّ اللهَ يرتَضي مثلَ هذه الذبائح.
الإنجيل
لو 19: 1-10
في ذلك الزمان، فيما يسوع مجتازٌ في أريحا، إذا برجلٍ اسمُه زكّا كان رئيساً على العشّارين، وكان غنيًّا، وكان يلتمس أن يرى يسوعَ مَن هُوَ، فلم يَكُنْ يستطيعُ مِنَ الجَمْعِ لأنّه كان قصيرَ القامة. فتقدّمَ مُسرِعًا وصَعِدَ إلى جُمَّيزةٍ لينظرَه، لأنّ يسوعَ كان مزمعًا أن يجتاز بها. فلما انتهى يسوعُ إلى الموضع رفع طَرْفَهُ فرآه فقال له: يا زكّا، أسرع أنزل، فاليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك، فأسرعَ ونَزَلَ وقَبِلَهُ فَرِحاً. فلمّا رأى الجميع ذلك تذمَّروا قائلين إنّه دخل لِيَحُلَّ عند رَجُلٍ خاطئ. فوقف زكّا وقال ليسوع: هاءنذا يا ربُّ أعطي المساكين نصف أموالي، وإن كنت قد غَبنتُ أحداً في شيءٍ أَرُدُّ أربعةَ أضعاف. فقال له يسوع: اليومَ قد حصل الخلاصُ لهذا البيت، لأنّه هو أيضًا ابنُ إبراهيم، لأنّ ابنَ البشرِ إنّما أتى لِيَطلُبَ ويُخلِّصَ ما قد هلك.
في الإنجيل
العشّارون هم طائفةُ الجُباة، وكانوا يستوفون أكثرَ من الجزية المقرّرة ويأخذونها لأنفسهم، ولذلك كرههم اليهود وأسموهم لصوصًا. لهذا تذمّر اليهود إذ قبل السيّد دخول بيت زكا، وذلك دون أن يسأله فهو عارفٌ بما في القلوب.
في الآيات السابقة ترك الربّ الأعمى يصرخ فترةً، بعدها استجاب وشفاه، وهنا نجده يطلب هو بنفسه أن يدخل بيت زكّا. فالربّ يدخل بيتي، أو يدخل قلبي ويتمّم الشفاء حين يرى القلب مستعدًّا. فهذا الأعمى لم يكن مستعدًّا بعد للشفاء، والصراخ جعله مستعدًّا، وعندما رآه السيّد مستعدّا، تدخّل وشفاه.
أمّا زكا ففي انسحاقه وفي اشتياقه لرؤية السيّد كان مستعدًّا، فدخل يسوع بيته. هنا نرى جزاء قبول يسوع في حياتنا، وجزاء اشتياقنا له، بينما نحن شاعرون بعدم الاستحقاق، يدخل يسوع قلوبنا، ويغفر لنا خطايانا ونفوز بالخلاص.
ربّما كان إيمان زكّا ضعيفًا، وربّما كان خاطئًا، ولكنّه باشتياقه صار مضيفًا للربّ، وبتوبته صار مسكنه قصرًا سماويًّا يدخله الربّ، لقد مُنِحَ زكّا مجدًا عظيمًا.
كثيرون منّا وُلِدوا بعاهاتٍ خَلْقيّة، مثل زكّا الذي كان قصير القامة، وهم يشتكون بسببها، ولكن ألا نرى أنّ عاهة زكّا كانت سببًا في خلاصه؟ إذًا علينا أن نفهم أنّ الله لا يخطئ. وإذا كان شيءٌ ينقصنا، كان هذا سببًا لخلاصنا. فَلْنُسَمِّ هذه العاهات "بركات خلقيّة"، فعملُ الله دائمًا كامل.
قصّة زكّا العشّار فتحت باب الرجاء والأمل لكلّ خاطئ، حين يعود بالتوبة مشتاقًا للمسيح، يدخل المسيح إلى قلبه، ويقبله ويغفر خطاياه. صار زكّا هُنا تطبيقًا حيًّا لمثل الفريسيّ والعشّار، فهو نال الخلاص مثل ذلك العشّار الذي قال عنه السيّد المسيح "نزل إلى بيته مبرّرًا".
ونلاحظ أنّ زكا تكلّف الكثير، فهو في مركزه كرئيس للعشّارين، كان من غير اللائق أن يتسلّق جمّيزةً كما يفعل الأطفال، هذا ما نسمّيه الجهاد، وفي المقابل فَلْنَرَ النعمة التي حصل عليها.
كانت هناك معوّقات كثيرة تحول بين زكّا والمسيح:
أوّلاً خطيئته، إذ يُحسب العشّارون كالزواني.
ثانيًا كراهية المجتمع له.
ثالثًا مركزه كرئيس قد يتأثّر بما فعله، من تسلّقه لجمّيزة.
رابعًا قِصَرُ قامتِه، ومثل هذه العاهة تجعل الإنسان يتقوقع حول نفسه، مفضّلاً الابتعاد عن المجتمع.
ولكنّ إيمان زكا انتصر على كلّ ذلك، ونالَ الخلاصَ بسببِ اشتياقه وقلبه التائب. فبالإيمان الحيّ العمليّ نغلب كلّ ضعفٍ فينا ونرتفع فوق الظروف لنلتقي بربّنا يسوع فنخلُص.
الأقمار الثلاثة
يمكن أن يُقال عن القرن الرابع الميلاديّ إنّه كان أقسى قرنٍ عرفته الكنيسة، من حيث خطر الهرطقات التي واجهتها. لكنّ الربّ الّذي لم يترك نفسه من دون شاهد في كلّ زمن أرسل شهودًا عظماء بمقدار عظمة الخطر الّذي كان يُواجه الكنيسة. هؤلاء الّذين دُعُوا لاحقًا الأقمار الثلاثة، وهم باسيلوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتيّ ويوحنّا الذهبيّ الفم، واجهوا هرطقات القرن الرابع وثبّتوا الحقيقة الإلهيّة، بالنعمة الكبيرة التي أُعطيت لهم.
هؤلاء فهموا أنّ خطر الهرطقات على الكنيسة ليس وهميًّا، كما نعتقد اليوم، وتغيير حرف واحد في الإيمان يطال الإيمان كلّه. جهادهم لأجل الحقيقة دفعهم ليصوغوا عقائد الإيمان الأساسيّة، خاصّة فيما يتعلّق بعقيدة الثالوث. وهذا ما دفع الكنيسة لتطلق عليهم أعظم الألقاب، "معلّمي المسكونة"، الّذين "أناروا العالم بأشعّة عقائدهم". ودُعوا أيضًا "بحر لا ينفذ من العقائد".
كيف استطاع هؤلاء القدّيسون أن يصيروا آباء للكنيسة ومعلّمين للمسكونة؟ بالطبع لم يكن يكفي تعليمهم ليصيروا هكذا، وإنّما مثالهم الحيّ. أطاع هؤلاء الآباء الكنيسة وإيمانها وقوانينها. علّموا أنّ هذه الطاعة ينبغي أن تكون كاملة ومطلقة، وهي لا تُفرض بالقوّة إنّما بالمحبّة وبحريّة الإرادة؛ الطاعة تُفرض حين لا يبقى مكان للتواضع في النفس البشريّة؛ والقوانين هي وسائل تربويّة لتساعد الإنسان الخاضع للأهواء على العمل بمشيئة الله.
جهادهم الروحيّ لأجل التنقية الداخليّة الّتي تتمّ بالمسيح يسوع، لا يُفهم بمعنى حقوقيّ وناموسيّ، لكن يقوم على تعليم الكنيسة العقائديّ حتّى يكون حقيقيًّا، ولكي تستمرّ علاقة الإنسجام بين الإيمان والعمل. هذا ما اجتذب النعمة الإلهيّة وجعل تعليمهم ملهمًا من الله، وأن يُصبحوا آباء حقيقيّين للكنيسة الجامعة.
حقّق هؤلاء الآباء التواضع الكافي الّذي جعلهم مستحقّين لأن ينموا في كلّ فضيلة ويشتركوا في نعمة الروح القدس. مقتوا التكبّر والاستعلاء وحبّ السلطة. لم يطلبوا مجدًا من الناس ولا أن يكونوا معروفين من الناس.
أيّة جهادات روحيّة ونسك وموت عن العالم حقّقه هؤلاء القدّيسون حتّى استطاعت نفوسهم أن تصير صلبة بهذه القوّة لا تنحني أمام الموت نفسه ولا أمام تهديدات رؤساء هذا الدهر. عاشوا بالروح والجسد ملء آلام الكنيسة واضطهاداتها، لكن أيضًا ملء النعمة التي فيها وثباتها في الحقّ.
لم يكن لهؤلاء الآباء طموحٌ أرضيّ، لا ليصيروا أساقفة ولا لأيّ مركز آخر أكان كنسيًّا أو مدنيًّا. الطموح للوصول إلى مركز كنسيّ، خاصّة الأسقفيّة، يُحطّم كلّ سلام داخليّ ونموّ روحيّ في قلوب طالبيه.
وفي الوقت ذاته يجعل خدمة الكاهن في شعبه خاليةً من كلّ ثمر روحيّ. أصبحوا رؤساء كهنة من دون إرادتهم، الله أرادهم. قبلوا الأسقفيّة محبّة بالمسيح وكنيسته، مدفوعين بغيرة عظيمة على حفظ الإيمان الأرثوذكسيّ المقدّس. الطموح للأسقفيّة والمجد الباطل يبذران في النفس كلّ أنواع الأهواء المقيتة، الغضب، الكذب، الحسد، الافتراء، صغر النفس...
الفضيلة العظمى والوصيّة الأولى، بالنسبة لهؤلاء الآباء، هي محبّة الله، إنّها قمّة الفضائل، هي التي تدفع الإنسان لإكمال مشيئة الله قبل كل شيء آخر. يقول القدّيس باسيليوس: "عندما نتوقّف عن المحبّة، نكون قد فقدنا صورته". لهذا تشكّل المحبّة رباط الإنسان مع الله ومع القريب.
ففي زمن الإنقسامات المرّة بسبب الهرطقات، حيث، كما يقول: "قد بردت المحبّة عند الجميع"، أسّس قدّيسنا شركات رهبانيّة، تقوم على أساس المحبّة الحقيقيّة. فالرهبنة تُعيد إلى هذا العالم الرباط الروحيّ، رباط السلام والنعمة الموحِّدة لكلّ الأشياء.
وكان باسيليوس يقول: "إنّنا نشعر بجوع متزايد إلى المحبّة". فقدّيسنا كان يعي أنّ المحبّة ليست نظريّة، والشركات الرهبانيّة ضرورة، لأن المحبّة القويّة تحتاج إلى الحياة النسكيّة لتتغذّى وتستمرّ وتنمو.
لأجل محبّة الله على المؤمن أن يحفظ نعمة المعموديّة الّتي أعطانا الله إيّاها مجّانًا. لأنّ الخطيئة الّتي يرتكبها بعد المعموديّة، بحسب اللاهوتيّ غريغوريوس، تحتاج إلى تعب وجهاد، إلى تنهّدات ودموع كثيرة لكي يشفى جرح الخطايا. يقول: "كم من الدموع يجب أن نقدّم لتتساوى هذه الدموع مع نهر المعموديّة".
لا ينبغي أن نخاف شيئًا في هذه الحياة أكثر من الخطيئة، لذلك كانت حملات الذهبيّ الفم عنيفة ومتواترة على الخطيئة والتحذير من شرورها. يقول: "لا توجد كارثة للبشريّة أهول من شرّ الخطيئة. لا الفقر ولا المرض ولا الشتيمة ولا النميمة ولا العار ولا الموت المزعوم أشدّ الشرور بأسرها"؛ الشرّ الكبير هو إهانة الله بالخطيئة وعمل ما لا يُرضيه.
لقد كانت الكنيسة وشعبها هاجس الآباء الكبادوك، ويزداد هذا الهاجس حين تقوى الهرطقات. كانوا يخشون على شعبهم من الذئاب ومن التهاون، ويتحرّقون غيرة على خلاصهم. كانوا يدفعون شعبهم للحفاظ على غيرتهم المقدّسة، والكهنة على نشر كلمة الله بين غير المؤمنين.
في كلامهم عن واجبات الكاهن في تعليم حقائق الإيمان، يوصي القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ أنّه من واجب الكاهن أن يُعلّم ويشرح للشعب العقيدة المسيحيّة وأسرار الإيمان في العمق.
ينبغي عليه أوّلاً أن يُجاهد لأجل عطيّة الفهم الدقيق للعقائد، وكيفيّة نقلها إلى الشعب بطريقة تستجيب لحاجاتهم. عليه أن يُعالج ما هو روحيّ بطريقة روحيّة، وهذا يتطلّب منه أن يعيش حياة تقوى ويرى الصلاح الموجود في الآخرين. ينبغي أن يكون له كلمة مناسبة جاهزة لتُجيب عن كلّ ما يحصل في الحياة.
فالكاهن، بالنسبة لهم، هو المحرّك الأوّل لغيرة الشعب على الخلاص. لهذا عليه أن يُحافظ هو نفسه على غيرة مقدّسة لا تتعب، مهما قست الظروف وتتالت التجارب، ثابتًا في الصبر والرجاء. هذه الغيرة المقدّسة هي التي تدفعه ليطلب بدون توقّف ملكوت السماوات وخلاص المؤمنين، ويُقدّم نفسه ذبيحة لأجل شعبه، محبّة بالمسيح.
لقد أوكل الكاهن مسؤوليّة خلاص النفوس، أن يتقبّل اعترافات الشعب وترك ديون خطاياهم، وأن يُحارب الأبالسة بأسلحة روحيّة. المسيحي، بالنسبة للذهبيّ الفم، الّذي يشترك في جسد المسيح ويتّحد بسائر أعضاء الجسد الواحد، هو رسول وتوضع عليه مسؤوليّة الرسوليّة.
لا الكهنة فقط إنّما العلمانيّون أيضًا هم "تكملة" أسقفيّة الأسقف، وعلى كلّ واحد منهم أن يكون موجودًا حيث لا يستطيع الأسقف أن يكون، لأنه لا يستطيع أن يكون في كل مكان. "لقد أقامنا المسيح على هذه الأرض لكي ننشر النور... لكي نكون الخميرة... لكي نكون كهولاً بين الأحداث، روحانيّين بين الماديّين، بذارًا لثمار غزيرة".
لقد قدّم الآباء الكبادوك للكنيسة أعظم تقدمة حين حدّدوا، في صراعهم ضدّ الهراطقة، الاصطلاحات اللاهوتيّة التي تبنّتها الكنيسة وبها صاغت المجامع المسكونيّة عقائدها.
هؤلاء الآباء، أحبّوا كنيسة المسيح ودافعوا عن إيمانها، لأنّهم اعتبروها مصدر خلاصهم. الكنيسة، بالنسبة لهم، هي مقدّسة مبدأُها ومصدر وجودها هو إلهيّ، سماويّ وليس بشريًّا أرضيًّا.
لهذا إيمانها أيضًا، الّذي هو جوهر وجودها، وثمرة هذا المبدأ الإلهيّ المقدّس، أُعطي لنا لنحفظه نقيًّا ومقدّسًا. فقد رأى الآباء كم هي "قويّة عقائد الهراطقة الهدّامة"، وكيف أنّ "الشيطان يبذر فساد عدم التقوى بعقائد الهراطقة الشرّيرة". فميزّوا بين العقائد الأرثوذكسيّة وتلك الهرطوقيّة.
ودعوا المؤمنين ليبنوا خلاصهم "على أساس العقائد الأرثوذكسيّة". لأنّ العقائد هي التي تحفظ الإيمان المقدّس من الانحراف، وتثبّت الكنيسة في إيمان صحيح بالربّ يسوع المسيح. الكنيسة التي لا تُعطي أهميّة لعقائد إيمانها يتغلغل فيها روح شيطانيّة تقودها بسهولة لتصير كنيسة علمانيّة من روح فساد هذا الدهر.