الأحد 23 كانون الثّاني 2022      

الأحد 23 كانون الثّاني 2022      

19 كانون الثاني 2022
الأحد 23 كانون الثّاني 2022
العدد 4
الأحد (14) من لوقا
اللَّحن السادس الإيوثينا التاسعة


* 23:  كْليمِندُس (Klymendos) أسقُف أنقرة، الشّهيد أغاثنغلوس (Aghathangelos)، * 24: البارّة كساني (Kseni) وخادمتها، الشّهيد بابيلا (Babila) الأنطاكيّ ورفقته، * 25: غريغوريوس (Grigorios) الثاولوغوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة، * 26: البارّ كسينُفوندُس (Xenofondos) مع زوجته ماريّا وولداه أركاديوس ويوحنّا،
* 27: نقل جسد القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، القدّيسة ماركيانيس (Markianis)، * 28: البارّ أفرام السريانيّ، البارّ بلاديوس (Palladius)، *29: نقل بقايا الشّهيد في الكهنة إغناطيوس المتوشّح بالله. 
    
التربية المسيحيّة

التعليم المسيحيّ يتطلّب معرفةً صحيحةً للكنيسة وأهميّتها. الأخلاقيّات المسيحيّة لا بدّ منها لكي يدركَ التلاميذ هدفَ وجودهم على الأرض، لماذا الحياة ههنا. المسيح هو المعلّم أوّلاً.

خلال حياتنا نشارك موهبةَ المسيح التعليميّة كما نشارك حياةَ الكنيسة. 

يمكن لأستاذ الفلسفة أو الرياضيّات أو العلوم المختلفة أن يُلِمَّ بالمعرفة النظريّة دون أن يُشارك حياته الروحيّة. أمّا من جهتنا نحن فلا يُمكننا أن ننقلَ المعلومات الكنسيّة إلى الآخرين، وبخاصّةٍ الأولاد، دون أن نكون قد اختبرناها أوّلاً بأنفسنا ولو جزئيًّا، أي دون أن نكون قد عايشنا المسيحَ ولو قليلاً.

إن كان يترتّب علينا أن نتّبع أوامرَ الكنيسة كمجرّد "واجبات"، عندها سنرى التلميذ وقت نضوجه ينفر من الكنيسة ويبتعد عنها.

كلّ كاهن هو معلّمٌ ومُرَبٍّ، عليه أن يدرّبَ أبناءه الروحيّين على الحياة في المسيح. لقد قال الربّ يسوع لتلاميذه قبل أن يغادر هذا العالم: "اذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم... وعلّموهم أن يحفظوا جميعَ ما أوصيتكم به" (متى 28: 19-20).

العنصر الأوّل الذي ينبغي على المعلّم أن يتمتّع به هو التطهّر من الأهواء المعيبة، وبخاصّةٍ التحرّر من الأنا égoisme، لأنّ الأنانية تولّد الأهواء النفسيّة الأخرى. إذا لم يُجاهدِ الكاهنُ ليتحرّرَ من الأنا التي فيه، ويتطهّرَ من سائرِ الأهواءِ المعيب، يكونُ معلّمًا فاشلًا، لأنّه يقولُ ما لا يفعل. 

لا بل كالكتبةِ والفرّيسيّينَ المُرائين، يُحمِّلُ الناسَ أحمالًا شاقّةَ الحَمل، ولا يُحَرِّكُها بإحدى أصابعِه.

يميّز آباءُ الكنيسة ثلاثةَ أنواعٍ من البشر تِبعًا لأهدافِهم من طاعة الوصايا الإلهيّة: العبيد والأُجَراء والأبناء. فالعبيدُ هم الذينَ يُطيعُونَ الوصايا خوفًا من الله ومن عقابِه؛ والأُجَراءُ هم الذينَ يطيعونَ الوصايا طمعًا بالمنفعة والمكافأة؛ والأبناءُ هم الذين يطيعون وصايا اللهِ مدفوعينَ بمحبّتهم الخالصة له.

وبناءً عليه، ينبغي على المعلّمينَ ألّا يلجأوا إلى أسلوبِ الفرضِ بالقوّة. 

الإنجيلُ لا يدرَّسُ بهذه الطريقة، وإلّا كانت وصاياه عبئًا منفِّرًا. على المعلّمينَ أن يتحلَّوا بالحكمة، عارفِينَ أحوالَ مَن هم تحتَ إشرافِهم، ومتفهّمينَ آراءَهم وقناعاتِهم. المعلّمُ المسيحيُّ الحقّ هو الذي يقتربُ من الآخر، ولا يجتذبُه عنوةً. 

ألم يفعلِ الربُّ نفسُه هذا؟! ألم يتنازلْ إليها من عليائه إلى أرضِنا؟! لماذا؟ لأنّه يحبُّنا، ولأنّه متواضعٌ رغمَ عظمتِه. محبّتُه وتواضعُه دفعاهُ إلى الاقترابِ منّا بهذا الشكل، باذلًا نفسَه لكي يرفعَنا إليه.

ينجحُ التواضعُ والمحبّةُ واللِّينُ في إيصالِ وصايا الإنجيل، حيثُ يفشلُ التّعالي والضغطُ والقسوة.

+ أفرام
مطران طرابلس والكورة وتوابعهما


طروباريّة القيامة باللّحن السادس

إنّ القوّاتِ الملائكيّةَ ظهروا على قبرك الموَقّر، والحرّاس صاروا كالأموات، ومريمَ وقفت عندَ القبر طالبةً جسدَك الطاهر، فسَبيْتَ الجحيمَ ولم تُجرّب منها، وصادفتَ البتول مانحاً الحياة، فيا من قامَ من بين الأمواتِ، يا ربُّ المجدُ لك.


قنداق دخول السيّد إلى الهيكل باللّحن الأول

يا مَن بمولدِكَ أيّها المسيحُ الإلهُ للمستودع البتوليّ قدَّسْتَ، ولِيَدَيْ سمعان كما لاقَ باركْتَ، ولنا الآن أدركْتَ وخلَّصْتَ، إحفظ رعيَّتَكَ بسلامٍ في الحروب، وأيِّد المؤمنينَ الذين أحبَبْتهم، بما أنّكَ وحدَكَ محبٌّ للبشر.

الرِّسَالة
 1 تيمو 1: 15-17 (31 بعد العنصرة)

خلِّص يا ربُّ شعبَك وبارِك ميراثَك
إليكَ يا ربُّ أصرُخُ إلهي

 
يا وَلَدي تيموثاوس، صادِقةٌ هي الكلمةُ وجديرةٌ بكُلِ قَبولٍ. إنّ المسيحَ يسوع إنّما جاءَ إلى العالمِ ليُخلصَ الخطأةً الذين أوّلهم أنا. لكنّي لأجلِ هذا رُحِمتُ، ليُظهر يسوعُ المسيحُ فيّ، أنا أوّلاً، كلّ أناةٍ، مِثالاً للذينَ سيؤمِنون بهِ للحياة الأبديّة. فَلِمَلِكِ الدُّهورِ الذي لا يَعروه فسادٌ ولا يُرى، اللهِ الحكيمِ وحدَهُ الكرامةُ والمجدُ إلى دهر الدهور. آمين.

الإنجيل
لو 18: 35-43 (لوقا 14)

في ذلك الزمان، فيما يسوع بالقربِ من أريحا، كان أعمى جالِساً على الطريق يستعطي. فلمّا سمع الجمعَ مجتازاً سأل: ما هذا؟ فأُخبِرَ بأنّ يسوعَ الناصريّ عابرٌ. فصرخ قائلاً: يا يسوع ابنَ داودَ ارحمني. فزجرهُ المتقدِمون لِيسكتَ فازداد صراخاً: يا ابنَ داودَ ارحمني. فوقف يسوع، وأمر أنْ يُقدّمَ إليهِ. فلمّا قرُب سألهُ: ماذا تريد أن أصنَعَ لك؟ فقال: يا ربُّ أن اُبصِر. فقال لهُ يسوع: أُبصِر. إيمانك قد خلّصك. وفي الحال أبصَرَ، وتبعَهُ وهو يمجّد الله. وجميعُ الشعب اذ رأوا سبّحوا الله.

في الإنجيل 

أعمى أريحا كان أعمى العينين، ولكنّه كان يمتلك البصيرة ويعرف الكتاب المقدّس. كان يدرك أنّ المسيح ابن داود المخلّص سيأتي إلى العالم، وهو قادر على شفاء المرضى وإعادة البصر للعميان. وهو جالس يستعطي، ولكنّه في حالة انتظار ورجاء لمجيء الطبيب الشافي الربّ المخلّص.

ها إنّ يسوع الناصريّ عابر بقربه، إنّها لحظة مصيريّة، لحظة قد لا تتكرّر، أترى هو المسيح؟ نعم إنّه المسيح ابن داود، لقد أدرك ذلك رغم أنه أعمى، وآمن، فصرخ في الحال. "الآن إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" (عب 3: 15). 

حاولوا إسكاته. إنّه امتحان كبير لإيمانه وصبره ورجائه، هل ييأس ويتراجع؟ كلّا، إنّه لم ييأس بل ازداد صراخًا، "يا ابنَ داودَ ارحمني"...

يسوع عالِمٌ بِه. وقف، وقال: نادَيتَني وعرفتَ مَن أنا، رأيتَني بِعَينِ قلبِك، فماذا تريد أن أصنع لك؟ إنّها لحظةُ الخلاص، لحظةُ العُمر، بل لحظةُ الأبديّة... "يا رَبُّ أن أُبصِر"...

"من أجل شقاء المساكين وَمِن أجلِ أنينِ البائسين، الآن أقومُ يقول الربّ أصنع الخلاصَ علانية." (مز 11: 5)
"أَبصِرْ"، "إيمانك خلّصك". 

وضع رجاءَه على الربّ، وصرخ نحوه بإيمانٍ ثابتٍ لا يتزعزع، ورجاءٍ حارٍّ لا يثنيه أحد. اخترقَتْ صلاتُه قلبَ المخلّص وخاطبت حنانَه، فاستجاب الربُّ وأعطاه نورَ البصرِ والبصيرة، وقام "يتبعُه وهو يمجّد الله"...

إنّ الله يَعبُرُ في حياةِ كُلِّ واحدٍ مِنّا، ويَقرَعُ على باب قلوبنا، طالبًا أن يسكن فيه ليشفينا ويقدِّسَنا، يريد أن يمنحنا النور والحياة لأنّه هو وحده النور والحياة، فهل ندرك ذلك؟ هل نلاحظ عبوره بيننا؟ هل نسمع صوته؟ هل نصرخ نحوه بحرارة وإيمان ورجاء؟... 

إنّ الأبدية تبدأ بلحظة اللقاء مع يسوع ...

يا ربُّ اجعَلْ إيماني كإيمان هذا الأعمى، فأُلاحِظَ مُرورَكَ بقربي وحضورَكَ معي، فأنادِيَكَ صارخًا: 
"تعالَ أيّها الربُّ يسوع وارحمني، آمين".

بيوتٌ مباركة 

يطلّ علينا شهر كانون الثّاني بأعياد قدّيسين وقدّيسات كبار. إنّ الاحتفال بأعياد القدّيسين يزيدنا بركةً ويَدفُقُ علينا نِعَمًا بغزارة، وحياتُهم نورٌ يدلُّنا على الطريق الحقّ في زمن الضياعِ ومسالكِه المعوجّة. 

تحتفلُ الكنيسةُ في الثّلاثين مِن كانون الثّاني بعيدِ الأقمار الثّلاثةِ الذين عاشوا في القرن الرابع للميلاد: باسيليوس الكبير، رئيس أساقفة قيصريّة الكبادوك، غريغوريوس اللاهوتيّ، ويوحنّا الذّهبيّ الفم، هؤلاء "الثلاثة الكواكب العظيمة، لِلّاهُوتِ المثلّث الشّموس، الّذين أناروا المسكونة بأشعّة العقائد الإلهيّة، أنهار الحكمة الجارية عسلًا، الذين روّوا الخليقة كلّها بمجاري المعرفة الإلهيّة" (طروباريّة عيد الأقمار الثّلاثة). 

اتّسم الزّمن الّذي عاش فيه هؤلاء القدّيسون الثّلاثة مع عائلاتهم بالاِضطراب الإيمانيّ في الكنيسة، وبالاِنفلات الأخلاقيّ في المجتمع. ووَفْقًا للباحثين، لم يَكُنْ ذلك العصرُ أقلّ تَخَبُّطًا وقلقًا من زمننا الحاضر. كيف استطاع هؤلاء القدّيسون أن يحافظوا على أمانتهم حتّى النّهاية؟ 

نجحوا في ذلك أوّلًا بقوّة نعمة الروح القدس العاملة فيهم، وثانيًا بمساعدة عائلاتهم وتعاضدهم المسيحيّ، وبالأخصّ أمّهاتهم اللواتي سعَينَ من أجل أن تنال عائلاتُهُنّ النصيبَ الصالح والأفضل. 

لقد جسّدُوا البيتَ العائليّ كنيسةً صغيرةً محمولةً بالصلوات الحارّة. شكّل عيش الفضائل المسيحيّةِ هاجساً عندهم. لذا تُقيمُ الكنيسةُ في هذا اليوم أيضًا تذكارَ أُمّهاتِ الأقمار الثلاثة: إميليا، ونونا، وأنثوسا. 

إنّ حياةَ أُمّهاتِ الأقمارِ الثلاثةِ تَمَحْوَرَتْ حولَ محبّتِهِنّ لِعائلاتِهِنّ وللكنيسة، وأمانتهِنّ الشديدة للربّ. هكذا أثمرت حياتُهُنّ بالقداسة والبركات، ليس فقط باقتنائهنّ علومًا دُنيويّة، ولكن أيضًا بتفوّقِ معارفهنّ الروحيّة السماويّة. 

والدة القدّيس باسيليوس إميليا، المدعوّة "أمّ القدّيسين"، وجدّته مكرينا، وأخته مكرينا، جميعهنّ من قدّيسات الكنيسة. اعتبرَ القدّيسُ باسيليوس وأخوه غريغوريوس النيصصيّ أنّ أختَهما مكرينا معلّمتهما العظمى. فهي التي شجّعَتهما على قراءة الكتاب المقدّس، وجعل كلّ التعاليم اللاهوتيّة مؤسّسة بحسب الكتاب. كانت لمكرينا، بفضل الْتِصاقها بأمّها التقيّة، شخصيّةٌ إيمانيّةٌ بارزة، فاستطاعت عند الموت الفُجائيّ لأخيها بَنكراتيوس، أن تشدّد العائلة وأن تثبّت والدتها على رجاء القيامة كي لا تحزن كمن لا رجاء لهم. 

ومن ثم أسّست إميليا مع ابنتها شركة نسائيّة رهبانيّة. اهتمّت مكرينا بأخيها الأصغر بطرس، بعد مرض أمّها ووفاتها. أدارت بيت العائلة في آنيسي في البنطس قرب قيصرية كبادوكية، بعدما صار محجًّا لكلّ محتاج وجائع.   

والدة القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ نونا، لولب الحياة الروحيّة في عائلتها. تزوّجت رجلًا نبيلًا اسمه غريغوريوس، ولكنها اغتمّت كثيرًا إذ كان زوجها غنيًّا بالمادّة وفقيرًا في الروح، تابعًا لإحدى البدع القديمة. رفعت نونا الصلاة ليلًا ونهارًا، بشغف وحرارة، حتى استجاب لها الربّ، فأدار زوجُها وجهَه نحو المسيح، واقتبل الإيمان الحقّ. 

رُسِمَ لاحقًا أسقفًا، وكانت نونا دومًا بجانبه تدعمه في تأدية دوره الأسقفيّ، حتى في دفاعه عن إيمان مجمع نيقية. 

كان هاجسها المسيح، وألّا يحيد أحد من أفراد عائلتها عن طريق الخلاص، فيتوه بمغريات الدنيا وملهياتها. من بعد سيامة زوجها، كُرّست كشمّاسة للخدمة والاهتمام بالمحتاجين والغرباء. انتشر صيتها لأدائها الفريد وإدارتها الناجحة. 

تحمّلت برجاء كبير وفاة ولدَيها باكرًا. قال القدّيس غريغوريوس في رثاء والدته، إنّ كلّ ما عنده في الرّبّ قد أعطته إيّاه أمّه، بما في ذلك حياته الرّوحيّة وليس حياته الجسديّة فقط. ثمارها ابنتها ثيوسيبيا، مع أختها غورغونيا، التي مدحها أخوها القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ وسمّاها "أعظم من الكهنة".

والدة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ أنثوسا الأنطاكيّة، اختارت "النصيب الصالح". تُوُفِّيَ زوجُها الضابط العسكريّ باكرًا، وكان يوحنّا طفلًا. بقيت أرملة، ولم تتزوّج. 

وبما أنّها كانت ضليعةً في علوم عصرها، قرّرت تعليم يوحنّا في البيت العائليّ، ورفضت إرسالَهُ منذ صغره للتعلّم في المدارس العامّة، خوفًا من أن ينشأ بأجواء متفلّتة أخلاقيًّا، رغم أنّ زوجها أورثها ما يكفي من المال لإرسال يوحنّا إلى أرقى المدارس. 

هكذا استطاعت أنثوسا تنمية شخصيّة ابنِها بحسب الإيمان الذي اقتناه أيضًا من خلال التعمّق في قراءة الكتاب المقدّس. شدّدَتْ عليه أن تكون أقوالُه جريئةً ومرضيّةً للربّ، وأن يعرف باليقين أنّ المسيحَ هو قوّتُه ومجدُه. شجّعَتْهُ على التمسُّكِ بالإيمان، حتّى في أحلك الظروف. هذه التربية أعطت القوّةَ ليوحنّا الذهبيّ الفم بمواجهة مضطهِديه الكُثُر بإيمانٍ واتّكالٍ على الله.   

إذا تأمّلنا في حياة القدّيسين باسيليوس وغريغوريوس ويوحنّا وأمّهاتهم وعائلاتهم، نرى أنّ حياة العائلة المسيحيّة المفعمة بالبرّ والتقوى تشكّل قوّة روحيّة كبرى تستطيع أن تفعل الكثير في خدمة الكنيسة وخلاص النّفوس، وحتى في مجال الخدمة الاجتماعيّة. نلاحظ أيضًا أنّ الأم الفاضلة لها دور أساسيّ وملهم لعائلتها، فهي ترشدهم في السير بحياة القداسة.

وإذ تمرُّ علينا أيّامٌ صعبة وظروفٌ شديدة، لنا في بيوت هؤلاء الأقمار الثلاثة، بيوت مقدّسة ومملوءة نعمة، براهين حيّة على أنّ الرب لا يترك أحبّاءه، المتمسكين بإيمانهم: "الأغنياء افتقروا وجاعوا، أمّا الذين يبتغون الربّ فلا يعوزهم أيُّ خير". أعطانا الربُّ أن نسلك في عائلاتنا بالنور في طريق الخلاص كما سلكها أباؤنا القدّيسون وأمّهاتنا القدّيسات. آمين.

أبونا الجليل في القديسين غريغوريوس الثاولوغس (المتكلّم باللاهوت) رئيس أساقفة القسطنطينيّة
 
إنّ غريغويوس أحد آباء الكنيسة ومعلّميها العظام، كان من قرية أرينزس (Arianzus) في كبادوكية الثانية، وهي قرية قريبة من نزينزس (Nazianzus)، مولوداً لغريغوريوس الذي حصل في ما بعد أسقفاً على نزينزس. 

وكانت أمُّه تدعى نُنّة (Nonna). فجَدَّ في طلب العِلم مُتَتَلمِذاً في أوّلِ أَمرِهِ في قيصريّة فلسطين، ثُمَّ في الإسكندريّة، وأخيراً في أثينا، حيثُ التقى باسيليوسَ الكبير وربطَتهُما صداقةٌ قلبيّة. وبعدَ ذلك نسكَ غريغوريوس مع باسيليوس زمناً طويلاً في أديرة البنطس. ثُمَّ شُرطِنَ على يدِ أبيه كاهنًا لكنيسة نزينزس. 
ثُمّ رَسَمَهُ باسيليوس الكبير أسقفًا على سيسيمة أو زسيمة الخاضعة لأسقف قيصريّة. وفي سنة 378 ذهب إلى القسطنطينيّة لمساعدة كنيستها التي كان الآريوسيّون يقلقونها مُدّةَ أربعين سنة، فحرّرها من فساد البِدَعِ بأقواله المملوءةِ حكمةً وأتعابِه الكثيرة. فانتخبه المجمع الثاني المسكونيُّ الذي انعقد حينئذ هناك أسقفاً عليها. 

وكان قد اشتهر في المجمع المذكور بعقائده اللاهوتيّة، فترأسَ أعمالَ المجمع إلى سنة 382. ثُمَّ استعفى مُلقِيًا خطبةً وداعيّةً في حضرةِ الملكِ نفسِه ومائةٍ وخمسين أسقفًا. فلمّا وافقوا على طلبِه، عاد راجعًا إلى نزينزس وقضى فيها بقيّةَ حياتِه.

وفي سنة 391 انتقل إلى الربّ ولَهُ مِنَ العُمرِ ما يَنُوفُ على ثمانين سنةً، كما روى البعض. 

وإنّ ما وصل إلينا مِن مؤلَّفاتِه المنثورةِ والمنظومة على أَبحُرٍ مختلفة، هو مُحْكَمُ الفصاحة، يُسْفِرُ عن طَلاوةِ خَطابَتِهِ واتِّساعِ مَعارفِه. وَلِسُمُوِّ معاني أقواله اللاهوتيّة، لُقِّبَ بالثاولوغس أي المتكلّم باللاهوت، وعلى الخصوص بالثاولوغُس الثالوثيّ، لأنّه في جميع مَيامرِهِ تقريبًا يتكلّم عن الثالوث القدّوس ووحدانيّةِ جوهرِه وطبيعته. 

ولهذا نظمَ لَهُ ألكسيوس الأنثروس تقريظًا باليونانيّةِ هذا تعريبُه نثرًا: "لقد ظهرتَ أيّها الأبُ العظيم غريغوريوس كوكبًا ثابتًا ساطعَ النورِ لا يَضِلّ، فنتوصّلُ بأسرارِ معرفتِكَ المنبثقةِ مِن فمِكَ الناريِّ إلى معرفةِ شُعاعِ شمسِ الثالوث".