الأحد 26 أيلول 2021 

الأحد 26 أيلول 2021 

23 أيلول 2021

الأحد 26 أيلول 2021
العدد 39
الأحد 14 بعد العنصرة 
اللحن الخامس   الإيوثينا الثالثة


* 26: انتقال الرّسول يوحنّا الإنجيليّ الثاولوغوس، * 27: كَلّيستراتُس والـ 49 المستشهدون معه، * 28: خاريطُن المعترف، النبيّ باروخ، * 29: كرياكوس السّائح، * 30: الشّهيد غريغوريوس أسقُف أرمينية العظمى، الشّهيد ستراتونيكس، *1: الرّسول حنانيا أحد السّبعين، رومانس المرنّم، * 2: الشّهيد في الكهنة كبريانوس، الشّهيدة إيوستينة. *

أيضًا وأيضًا في حاجتنا إلى التّوبة

"تُوبُوا لأَنّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السّمَاوَاتِ" (مت 4: 17)

التّوبةُ ليست ظرفيّةً بل هي دائمةٌ ومستمرّة، لأنَّ الإنسانَ دائمُ التحرُّكِ والمَيَلانِ إلى الخطيئةِ والشّرّ. 

هذا من جهة، ومِن جهةٍ ثانية، التّوبةُ هي السَّعيُ الكلّيُّ إلى البِرّ والفضيلة. المؤمنُ، في سَعيِهِ إلى اقتناءِ الفضائل، يحاربُ ما فيه مِنَ الأهواءِ والخطايا والزّلات، أي هو يتوب. 

مِن هُنا، فالتّوبةُ هي عَمَلُ حياةِ المؤمنِ الدائم والمستمرّ. هذا هو معنى قَولِ الرّبّ "تُوبُوا"، أي كُونوا دومًا في حركةِ توبة، في فصحٍ مِن عبوديّةِ الأهواءِ إلى حياةِ الفضيلة، في خروجٍ مستمرٍّ من العتاقةِ إلى الجِدّةِ في الروح...

معظمُ النّاسِ يظنّونَ أنّهم يتوبون حين يعرفونَ خطاياهم لِيَرجِعوا عنها. لكنْ، الأخطرُ هو الخطايا أو الأهواءُ الّتي لا عرفُها، إذ يقول كاتبُ المزامير: 

"مَن ذا الّذي يَقدِرُ أن يتبيَّنَ زَلّاتِه؟ نَقِّني مِن زَلّاتي الخفيّة" (مز 18: 12). قد يعتقدُ المَرْءُ نفسَهُ سالِكًا في الطّريقِ القَويم، في حين أنّه ينزَلِقُ يومًا بعدَ يومٍ مِن حالةِ تَعَوُّدٍ إلى حالةِ عبوديّةٍ لأفكارٍ وعاداتٍ ومَسلَكيّاتٍ تأخذُهُ إلى حيثُ لا يريد، إذ يتغيّرُ فِكرُهُ ومَنطقُهُ ويُحِلُّ لنفسِه شيئًا فشيئًا أمورًا كان يَدينُها ويُحاربُها ويعلّمُ ضدَّها.

كيف يصير هذا الانزلاق؟ حين يسمحُ المرءُ لنفسِهِ مرّةً بمخالفةِ قاعدةٍ روحيّةٍ أو وصيّةٍ إلهيّةٍ دونَ مبرِّرٍ سوى، ربّما، ثقتِهِ المُفرطةِ في قدرتِه وانضباطِه، أو خداعًا لنفسِه، متحجِّجًا بالمحبّةِ لتعزيةِ الآخَر. هنا تَكمُنُ "الخطايا المُستَتِرةُ" الّتي لا يَعرفُها الإنسان، والّتي تُحرّكُ فِكرَ الإنسانِ المجاهِد نحو مغامراتٍ غيرِ محسوبةٍ قد تدمِّرُه ما لم يَكُنْ قد حصلَ على نعمةِ الاتّضاعِ الّتي تَحفظُه بنعمةِ العَلِيّ من السّقطات، وما لم يَكُنْ شَفّافًا مع نفسِه في استقامتِه الدّاخلية. 

فحين، لِسَبَبٍ تدبيريّ يُخالِفُ قاعدةً ما، يقومُ في المقابل بالتّعويضِ في نُسكٍ ما، لكي لا يتركَ أبوابَ نفسِه مشرّعةً للمشيئةِ الذّاتيّة المزاجيّة. ما عدا ذلك، فإنّ سرطان الكبرياء هو الّذي يَنخُرُ فِكرَ المجاهدِ الرّوحيّ وقلبَه. مِن هُنا، فالطّريقُ الآمِنُ هو الّذي يكون فيه المجاهدُ الرّوحيُّ مُرافَقًا مِن شيخٍ مُختَبَرٍ مَشهُودٍ لَهُ بِالاِستنارة، لكي يبقى في الاتّضاعِ وعدمِ الرُّكُونِ إلى مشيئتِه فيُحِلُّ ويحرِّمُ لنفسه، بحسب الأهواءِ الخفيّةِ الّتي في قلبه، ما لا يجوزُ لَهُ، أي ما يُدمّرُه من الدّاخلِ إلى الخارجِ مِن دُونِ أن يَعلم... "لأَنّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ" (1 بط 5: 8).

الحربُ الرّوحيّةُ حربٌ لامنظورةٌ لأنّ رَحاها تدورُ في الفِكرِ والقَلب، وتَظهَرُ في حياةِ الجسد. ليستِ الحربُ الّتي يعيشُها المؤمنُ المجاهدُ حربًا بين بَدَنِهِ ورُوحِه، بل بين الإنسانِ "الجسدانيّ" أو "النفسانيّ" أو "الطّبيعيّ" والإنسانِ "الرّوحيّ" (راجع 1كو 2: 14 – 16 وأيضًا غل 5: 13 - 26) أيْ بين رُوحِ اللهِ ورُوحِ العالَم. 

الجِدّيّةُ في طاعةِ الوصيّةِ الإلهيّةِ تَستنزِلُ على الإنسانِ روحَ الرّبِّ الّذي يَهَبُهُ القوّةَ للسُّلُوكِ في مشيئةِ الله -لِتَكُن مشيئتُك- أي في تسليمِ حياتِهِ للرّبِّ في ارتقاءٍ مستمرٍّ من الخوفِ إلى المحبّة، ومن العبوديّةِ إلى البُنُوّةِ لله. 

نصيرُ أبناءَ اللهِ بالمعموديّة، ونجدِّدُ بُنوّتَنا لله بالتّوبة. بدونِ توبةٍ لا وُجودَ لحياةٍ جديدة. التّوبةُ حاجتُنا الجوهريّةُ للدُّخولِ في سرِّ المحبّةِ الإلهيّة، إذْ بدونِ نقاوةِ قلبٍ لا وُجُودَ لِمَعرفةِ لله...

وَمَن لَهُ أُذُنانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسمَعْ...

+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

طروبارية القيامة باللّحن الخامس

لِنُسبِّحْ نحن المؤمنينَ ونَسجدْ للكلمةِ المُساوِي للآبِ والرّوحِ في الأزليّةِ وعَدَمِ الاِبتداء، المولودِ مِنَ العذراءِ لِخَلاصِنا. لأنّه سُرّ بالجَسَدِ أن يَعلُوَ على الصَّليبِ ويَحتمِلَ الموت، ويُنهِضَ الموتى بقيامتِهِ المجيدة.

طروباريّة القدّيس يوحنّا الإنجيليّ باللّحن الثاني

أيّها الرَّسُولُ المتكلِّمُ باللاهوت، حبيبُ المسيحِ الإله، أَسرِعْ وأَنقِذْ شَعبًا عادِمَ الحُجّة، لأنّ الذي تنازلَ أن تتّكئَ على صدرهِ يَقبَلُكَ مُتَوَسِّلًا، فإليهِ ابتَهِلْ أن يُبَدِّدَ سَحابةَ الأُمَمِ المُعانِدة، طالِبًا لَنا السَّلامَ والرّحمةَ العُظمى.

القنداق باللّحن الرابع

يا شَفيعةَ المَسيحيّينَ غَيرَ الخازِية، الوَسِيطةَ لدى الخالِقِ غَيرَ المَردُودة، لا تُعرِضي عن أصواتِ طلباتِنا نَحنُ الخَطأة، بل تَدارَكِينا بالمَعُونةِ بِما أنَّكِ صالِحة، نَحنُ الصارخِينَ إليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعة، وأَسرِعي في الطلْبة، يا والدةَ الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بِمُكَرِّمِيكِ.

الرِّسَالة 

الرِّسَالة 1 يو 4: 12-19

إلى كلّ الأرض خَرَجَ صوتُهُم
السماواتُ تذيعُ مجد الله


الله لم يُعاينهُ أحدٌ قَطُّ. إنْ أحبَبْنا بعضُنا بعضًا يَثبتُ اللهُ فينا وتكونُ محبّتُهُ كامِلةً فينا، وبهذا نَعلَمُ أنّا نَثبُتُ فيهِ وهُوَ فينا بأنّهُ آتانا مِن رُوحِه، ونحنُ قد عَلِمنا ونَشْهَدُ أنّ الأبَ قد أرسلَ الإبنَ مخلِصاً للعالم، فكلُّ من اعترفَ بأنّ يسوعَ هوَ ابنُ الله فإنّ الله يَثبُتُ فيهِ وهُوَ في الله، ونحنُ قد عَرَفْنا وآمَنّا بالمحبّةِ التي عندَ اللهِ لَنا. اللهُ مَحبّة. فَمَن ثَبَتَ في المحبّةِ فقد ثبَتَ في اللهِ واللهُ فيهِ. بهذا كَمَلتِ المحبّةُ فينا حتّى تكونَ لنا ثِقةٌ يومَ الدِّينِ بأنْ نَكُونَ كما كانَ هُوَ في هذا العالم. لا مَخافةَ في المحبّة، بل المحبّةُ الكاملةُ تَنفي المخافَةَ إلى خارج. لأنَّ المَخافةَ لها عذاب. فالخائِفُ غيرُ كاملٍ في المحبّة. نحنُ نُحِبُّ اللهَ لأنّهُ قد أحبّنا هو أوّلًا.

الإنجيل
يو 19: 25-27، 21: 24-25


في ذلك الزمان كانت واقفةً عندَ صليبِ يسوعَ أمُّهُ وأُختُ أُمّهِ مريمُ التي لِكْلاوبا ومريمُ المجدليّة. فلّما رأى يسوع أمّهُ والتلميذَ الذي كان هو يحبُّهُ واقفًا قالَ لأُمِّهِ يا امرأةُ هُوَذا ابنُكِ، ثُمَّ قالَ للتلميذِ هُوَذا أُمُّك. وَمِن تلكَ الساعةِ أَخَذَها التلميذُ إلى خاصَّتِه. هذا هُوَ التلميذُ الشاهِدُ بهذه الأُمورِ والكاتِبُ لَها، وقد عَلِمْنا أنَّ شَهادتَهُ حَقٌّ. وأشياءُ أُخَرُ كثيرةٌ صنعَها يَسوعُ لَو أنَّها كُتِبَتْ واحدةً فَواحدة، لَما ظَنَنْتُ العالَمَ يَسَعُ الصُّحُفَ المكتوبة.

في الإنجيل 

مقطعٌ إنجيليٌّ قصيرٌ مِن يوحنّا، وكذلك الرسالة. الرابِطُ الصَّغيرُ بينَهما هُوَ "المحبّة". 

الهدفُ في بداية المقطع الإنجيليّ اليوم، ليس الكلام عن الصلب وإنّما عن التلميذ الذي كان يسوعُ يحبّه. هذا التلميذ هو الذي كَتَبَ الإنجيلَ الرّابع، وثلاثًا مِنَ الرَّسائلِ الجامعةِ الموجودةِ في القسمِ الأخيرِ مِن كتابِ العهدِ الجديد. 

ودائمًا لا يَذكر اسمَه، لا في الإنجيل ولا في الرسائل التي كَتَبَها. ليس صدفةً أن يكون المحور (طبعًا بعد الرّب يسوع) هو يوحنّا الإنجيليّ فاليوم يصادفُ عيدُ رُقادِه، أو انتقالِه، كما يذكر الميناون.

أطلَقَتِ الكنيسةُ عليهِ ثلاثةَ ألقاب: الحبيب واللاهُوتيّ والإنجيليّ. عُذِّبَ يوحنّا ولم يَمُتْ، وُضعَ في قِدْرٍ مَغْلِيّةٍ مِنَ الزيتِ وخرجَ وكأنّه مِن ماءٍ بارِد، مِمّا جعلَ الإمبراطورَ يَنفيهِ إلى جزيرةِ بَطْمُس، حيثُ كَتبَ يوحنّا سِفْرَ الرُّؤيا. 

وعندما مات الإمبراطورُ عادَ يُوحنّا إلى رعيّتِه. عاش هذا القدّيسُ أكثرَ مِن مئةِ سنة، مِمّا جعلَ بعضَ مُعاصرِيه يظنُّون أنَّ هذا التلميذ لا يموت.

يوحنّا كان يردد دائمًا أمام المؤمنين: "أحبّوا بعضكم بعضًا"، داعيًا اِيّاهُم أن يتبادَلُوا المحبّةَ على غرارِ محبّةِ المسيح لهم. 

هذه خلاصة ما تعلّمه هو من الرّبّ يسوع. المحبة، كيف لا وهو أكثرُ مَنِ اختبرَ وعلَّمَ أنّ اللهَ مَحبّة، كما نلاحظ في إنجيله ورسائله، وحتى في عمق سفر الرؤيا الذي كتبه. كيف لا وتعاليمُ الكنيسةِ كلُّها تَتَمَحْوَرُ حولَ المحبّة، لأنّ الله محبّة، ولأنّهُ بادَرَ بِمَحبَّتِنا أوّلًا، بَدْءًا مِنَ الخَلْق، مُرُورًا بالتجسُّدِ الإلهيّ، وانتهاءً بالفِداء. 

القدّيسُ يوحنّا الذهبيُّ الفَمِ يقول: "المحبّةُ هي أَصلُ ويَنبوعُ كُلِّ شيءٍ صالح، إنّها في الحقيقةِ الشَّجَرةُ الّتي تتفرّعُ منها أغصانُ الفضائلِ الكثيرة، وكاليَنبوعِ الذي تتدفّقُ منه الجداولُ العديدةُ الوافرة، وهي كالأُمِّ التي تَضُمُّ إلى صدرِها كُلَّ الملتجئين إليها...". المحبّةُ هي ثمرةُ الرُّوحِ القُدُسِ كما يقولُ الرَّسولُ بولس.

ألا جَعلَ اللهُ المحبّةَ متملِّكةً على قُلوبِنا وأفكارِنا وأرواحِنا، بشفاعةِ القدّيسِ يوحنّا الحبيب، آمين.

المحبّةُ الإلهيّةُ والحقُّ المفقود 

يَكشِفُ الإنجيليُّ يوحنّا في كتاباتِه المقدَّسةِ عن أعظمِ عطيّةٍ كَشَفَها الربُّ يسوعُ للعالَم، وهي المحبّة. وقد طَلَبَ مِنَ الآبِ أن يَمنحَ تلاميذَهُ المحبّةَ ذاتَها التي بِها أحبَّ الآبُ الاِبنَ: "لِيَكُونَ فيهم الحُبُّ الّذي أحبَبتَني به" (يو26:17)؛ وأيضًا: "أنا فِيهِم وأنتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكمَّلِينَ إلى واحد، وَلِيَعلَمَ العالَمُ أنّكَ أرسلتَني، وأحببتَهم كما أحببتَني" (يو23:17). هذه المحبّةُ تَكشِفُ، بحسبِ الإنجيليّ يوحنّا، سِرَّ الخَلْقِ الأوّل.

 فاللهُ لَم يَخلُقْنا لِنَكُونَ خُدّامًا عبيدًا لَهُ، إنّما أبناء. أحبَّ اللهُ الآبَ خليقتَهُ التي مِنَ العَدَم، كما أَحَبَّ ابنَهُ الوحيدَ الّذي مِن طبيعتِه ذاتِها، وشاءَ لنا أن نصيرَ على مِثالِه "محبّة". لا يُمكِنُ لأحدٍ أن يَصيرَ ابنًا حقيقيًّا لله إلّا عبرَ الإيمانِ والمحبّة. وهذه المحبّةُ ذاتُها طَلَبَ الربُّ مِن تلاميذِهِ أن يَنقُلُوها إلى العالَمِ أَجمع.

مملكةُ المسيحِ ليست مِن هذا العالَم، ومحبّتُهُ أيضًا ليست مِن هذا العالَم. المحبّةُ الحقيقيّةُ واحدة، لكنْ بِسُقُوطِ الإنسانِ سَقَطَتِ المحبّةُ وتجزّأَتْ وأصبحَتْ أنانيّةً مِن هذا العالَم. المسيحُ وحدَه، بِتَجسُّدِهِ ومَوتِهِ وقيامتِهِ، أعادَ للمحبّةِ جوهرَها الأوّل. وإلى هذا اليومِ مفهومُ المحبّةِ لدى العالَمِ هو بشريٌّ لا إلهيّ، والفرق بينهما عظيم. المحبّةُ الإلهيّةُ كاملةٌ ومُطْلَقَة، لا تتغيّرُ أبدًا. 

المحبّةُ البشريّةُ جُزئيّةٌ ومحدودة، يمارِسُها الناسُ على صعيدٍ أخلاقيٍّ اجتماعيّ؛ وَهِيَ، في أَصْدَقِ أحوالِها محبّةٌ عاطفيّةٌ ممتزجةٌ بأهواءٍ مخفيّةٍ من الأنانيّةِ والمنفعةِ الشخصيّة، على مثالِ محبّةِ يَهُوذا للمسيح. المسيحُ دَعانا إلى محبّتِهِ الإلهيّة، ولأجلِ محبّةِ اللهِ نَتَخلّى عن محبّةِ العالَمِ وَكُلِّ ما هو أرضيّ.

المحبّةُ الإلهيّةُ هِيَ هِبَةٌ من الله، عطيّة، لا يَذُوقُها إلّا الساجدونَ لله "بالروحِ والحقّ". الثمرةُ الحقيقيّةُ لِلجِهاد "بالروح" هي اللاهوى؛ حالةُ اللاهوى هيَ شَرْطٌ رئيسيّ، وَهِيَ تَسبِقُ اقتناءَ المحبّةِ الإلهيّة. وهذا يفترض جهادًا قوّيًّا لِتَنقيةِ القلبِ الداخليّ مِن جميعِ الأهواء. لا يستطيعُ أحدٌ أن يُحبَّ اللهَ ولو قليلًا ما دامَت نفسُه تَمِيلُ بِشدّةٍ إلى الخطيئةِ والأهواء. لهذا، المحبّة الحقيقيّة لله تُقتنى بالتوبة والنُّسْك. وكلُّ كلامٍ عن المحبّة لا يَسبِقُهُ كلامٌ عن النُّسْكِ والتحرُّرِ مِنَ الأهواء، يَبقى نظريًّا، يُروِّجُ لِمَحبّةٍ بشريّةٍ فقط.

المحبّةُ الإلهيّةُ مرتبطةٌ أيضًا "بالحقّ". فمحبّةُ اللهِ تَنسَكِبُ في القلوبِ النقيّةِ حقًّا، لا فقط التي تنقّت بالنُّسْك، لكن أيضًا التي طهَّرَها الحقُّ مِن دَنَسِ التعاليمِ المُلْتَوِية. 

فحينَ طلبَ الإنجيليُّ يوحنّا من المسيحيّين تمييزَ الأرواح: "أيّها الأحبّاء، لا تصدّقوا كلَّ روحٍ، بل امتحِنوا الأرواح: هل هي من الله؟ لأنّ أنبياءَ كذبةً كثيرين قد خرجوا إلى العالَم" (1يو1:4)، ذلك لأنّ الإيمانَ المجرّدَ لا يَكفي، بل ينبغي أن يُمتحَنَ على قاعدةِ الحقيقة. فالأنبياءُ الكَذَبَةُ هُم مُعلِّمُو كُلِّ الهرطقاتِ والعقائدِ الفاسدةِ منذُ بَدْءِ الكنيسة، لا بل مِن بَدْءِ الخليقة، إلى اليوم، والّذين يتبعونهم يُصبحون أدواتٍ في يَدِ إبليس، مُوحِي جميعِ الهرطقات.

لم يأتِ المسيحُ إلى العالَمِ لِيَرعى حاجاتِ الناسِ الأرضيّةِ فقط، ويُسايِرَهُم في اعتقاداتِهم، إنّما أوّلًا لِيَكشِفَ لَهُمُ الحقّ. يقول: "لهذا قد وُلِدْتُ أنا، ولهذا قد أتيتُ إلى العالَمِ لأشهَدَ لِلحَقّ"؛ وقد شَهِدَ لِهذا الحقِّ في كَلامِهِ معَ السامريّةِ ومَعَ نيقوديموس ومع قيافا وبيلاطس. 

هكذا الرُّوحُ أيضًا، يَهُبُّ حيثُ يَشاء، لا لِيَترُكَ الإنسانَ في ضَلالِه، بل لِيَقُودَهُ إلى الحقيقةِ الإلهيّة. الشَّيطانُ "كذّابٌ وأبو الكذّاب"، على حَدِّ تعبيرِ الرَّبّ، لأنّه عدوُّ الحقيقة، هَمُّهُ الأساسيُّ إخفاءُ الحقيقةِ عَبْرَ مَزْجِ الحقِّ بِالضلال، واستقامةِ الإيمانِ بالتعليمِ الكاذب؛ همُّه الأوّلُ فَصْلُ المحبّةِ عن الإيمانِ الحقّ. 

حينَ تنفصلُ المحبّةُ عن الحقيقةِ تُصبحُ تلقائيًّا بشريّة؛ وهذه المحبّةُ البشريّةُ هي التي يُروِّجُ لها إبليسُ في زمنِنا الحاضر، مُرِيدًا أن يَجمَعَ بها كلَّ البَشَر، بِمَعزِلٍ عَنِ الحقِّ الّذي بالمسيح يسوع. هذه هي الهرطقةُ الأُولى التي تخضُّ الكنيسةَ في هذا الزمنِ الجديد. 

"اللهُ محبّة"، المسيحُ محبّة. المسيحُ هُوَ الحقّ. المحبّةُ والحقُّ هُما قُوَّتانِ مقدَّستانِ لِمَسيحٍ واحد. لا يمكن لأحدٍ أن يَبلُغَ إلى محبّةِ اللهِ إلّا عَبْرَ الإيمانِ الحقّ. هكذا أحبَّنا المسيح، وهكذا أحبَّنا تلاميذُه: 

"الشّيخُ، إلى كيرِيّة المُختارة، وإلى أولادها الّذين أنا أحبُّهُم بالحقّ، ولست أنا فقط، بل أيضًا جميعُ الّذين قد عَرَفُوا الحقّ. من أجل الحقّ الّذي يَثبُتُ فينا وسيكون معنا إلى الأبد" (2يو1:1-2).

ولكي لا تُصبحَ الحقيقةُ عُرْضَةً لِتَأويلاتِ البشر، تحدَّدَتِ الحقيقةُ المسيحيّةُ بِأُسُسٍ عقائديّةٍ ثابتةٍ تَكْفَلُها قوانينُ كنسيّةٌ محفوظةٌ في هذا التقليدِ المقدَّسِ الّذي تفتخرُ به الأرثوذكسيّة، كَضامِنٍ لِمَسيرتِها في الحقّ. يوجدُ مِعيار للحقيقة، وهو تعليمُ الكنيسةِ عَبْرَ الدُّهُور، عقائدُها وقوانينُها؛ لا يَحُقُّ لأيِّ أُسقُفٍ أو كاهنٍ أو لاهوتيٍّ مهما كان، أن يتكلّمَ مِن ذاتِه مهما كانت تبريراتُه، لأنّه بهذا يُنصِّبُ نفسَهُ مِعيارًا فوقَ الكنيسة. 

هذه كانت سقطةَ بابا روما القديمة. يقولُ القدّيسُ باسيليوسُ الكبيرُ إنَّ كُلَّ أُسقُفٍ أو كاهنٍ يُعلِّمُ عقيدةً مختلفةً عَمّا تُعلِّمُهُ الكنيسة، يُصبحُ "شاهدًا كاذبًا لله ومدَنِّسًا لِلقُدُسات".

ما أمرَّ الصراعَ لأجلِ الحقيقة، في عالَمٍ يَكرَهُ الحقيقة. والمأساةُ الكُبرى حين يَرضَخُ رجالُ الكنيسةِ لهذه الروح، ويُصبحون هم أنفسُهم لامبالين بالحقيقة. حقًّا إنّ المحبّة تتنافى معَ أهواءِ الحَسَدِ والنَّميمةِ والمجدِ الباطلِ والصراعِ على السُّلطة والحقد؛ المحبّة "لا تفرح بالإثمّ، بل"، يُكمل بولس الرسول، "تفرح بالحقّ"، لهذا المحبّةُ تَمقُتُ الهرطقةَ لأَنَّ الهرطقةَ كَذِبٌ على الله، وتكرَهُ الضلالَ والمُراوغةَ والمحاباةَ في الإيمان. المحبّةُ تريدُ أن تَجمَعَ الكُلَّ "ليكونوا واحدًا"، لكنْ فقط في وحدةِ الإيمان الحقِّ بيسوعَ المسيح. المحبّةُ لا ترتضي أن تتعايشَ مع التعاليمِ الملتوية، ولا تَسكُنُ في قلوبِ أولئك الّذين يُناقضون قوانين الكنيسةِ وتعليمَ آبائِها. 

"المحبّة لا تسقط أبدًا"، لسببٍ واحد، لأنّها قائمةٌ على الحقيقة. متى انهارت الحقيقة تنهار المحبّة الحقيقيّة وتُصبح مزيّفة، لها صورة المحبّة، لكنّها مِن داخلٍ مملوءةٌ مراءاةً وكَذِبًا. الّذين فَتَرَتْ فيهم الغيرةُ على الإيمان الأرثوذكسيّ، تَفتُرُ تلقائيًّا محبّتُهم للمسيح وملكوتِه؛ محبّتُنا للإيمانِ الأرثوذكسيّ وعقائدِهِ ليست هدفًا بحدّ ذاتها، إنّما هي سُلَّمٌ نَصعدُ به إلى محبّةِ المسيحِ الحقّة.

ما الفائدةُ مِن محبّةٍ يُروِّجُ لها الكثيرون، ويفرضونها على كنيسةِ المسيح، وهي لا تقومُ على الحقّ؟ كيف يَحتملُ البعضُ محبّةً منسوجةً مِن أهواءِ البَشَرِ الفاسدة، مِن كبريائِهم ومحبّتِهم للمجدِ الباطل، لا مِن نعمةِ اللهِ المُنسكِبةِ في نَقاوةِ قُلُوبِ المتواضعينَ والّذينَ يُطيعونَ الإيمان. 

يقول المسيح: "وتعرفون الحقَّ والحقُّ يُحرّرُكم"؛ لهذا السببِ بالتحديدِ يسعى العالَمُ لِقَتلِ الحقيقة، لأنّه يَعلَمُ أنّه يستعبدُ المسيحيّين ويتسلّطُ عليهم حين يَقتُلُ معرفةَ الحقِّ في نُفوسِهم. 

والكنيسةُ ذاتُها تبقى للمسيحِ طالما هي متمسّكةٌ بالحقيقةِ وتَشهَدُ لها، وتُقاوِمُ كُلَّ انحِرافٍ عن هذه الحقيقةِ مهما كان صغيرًا. 

الكنيسةُ موجودةٌ لِتَشهَدَ لِلحَقّ، والعالَمُ يُحاوِلُ أن يَقتُلَ هذا الحقّ. 

هذه هي حربُ الكنيسةِ، مُنذُ نَشأتِها، ضدَّ العالَم؛ وعملُها أن تُنشئَ شعبَها على الحقِّ لِتَحفظَهُ مِن عبوديّةِ فِكرِ إبليس. إذا تهاوَنَتِ الكنيسةُ في حفظِ هذه الحقيقةِ تَخسَرُ محبّةَ الله وكُلَّ عِلّةِ وجودِها، وتكونُ أوّلَ المستسلمين لهذه العبوديّةِ التي ينبغي أن يخضعَ لها الجميعُ عندَ مجيءِ دجّالِ الزمن الأخير.

"بدء المحبّة كثرة التواضع" (السلّميّ). هذا التواضع الّذي مِن دونِه يستحيلُ على أحدٍ أن يَبلُغَ إلى معرفة الحقّ.