الأحد 21 آذار 2021         

الأحد 21 آذار 2021         

19 آذار 2021
الأحد 21 آذار 2021         
العدد 12
الأحد الأوّل من الصوم  
اللَّحن الثامن الإيوثينا الثامنة


* 21: (أحد الأرثوذكسيّة)، الأسقف يعقوب المعترف، البارّ سرابيون، * 22: الشَّهيد باسيليوس كاهن كنيسة أنقرة، * 23: الشَّهيد نيكن وتلاميذه الـ 199 المستشهدون معه، * 24: تقدمة عيد البشارة، أرتامن أسقف سَلفكية، * 25: عيد بشارة والدة الإله الفائقة القداسة، * 26: عيد جامع لرئيس الملائكة جبرائيل، استفانوس المعترف، المديح الثاني، * 27: الشَّهيدة مطرونة التَّسالونيكيَّة، النبيّ حنانيا. *

    
لقاء الوجه بالوجه 

إنّ هذا العيد الحاضر هو عيد لقاء الوجه بالوجه. الله المحبّ البشر صارَ أيقونةً لكي يُعيدنا إلى المكانةِ الأولى، فألَّه طبيعتنا بالنعمة، وأتحدَ ذاته بالبشر، صائرًا إنسانًا كاملاً، مع كونه إلهًا كاملاً!

أحدُ الأرثوذكسيّة، وإن كان عيدًا مرتبطًا بحدثٍ تاريخيّ، أي إعادة الإكرام للأيقونة المقدَّسة من قبل ملكَي القسطنطينيَّة الدائمَي الذكر ميخائيل وأمّه ثاوذورة، وإنّما أخذ هذا الاحتفال البهِج مع الوقت صورةً ونصرًا لإيمانِ الكنيسة على مدى العصور حتى اليوم الأخير، وصونًا للعقيدة المتعلّقة بيسوع المسيح الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. الكلمة الذي كان في البدء والكلمة كان الله. 

الكلمة الذي أتى نورًا إلى العالم ليُضيء ظلمة هذا العالم من قتام الخطيئة، وينتشلنا من غباوة الجهل والظلمات.

أحد الأرثوذكسيّة يقف مقابل الآحاد التي تليه، أي هو دعوة لكي نؤمن بيسوع المسيح الإله الإنسان مُخلّصًا. عندها إذا سَلكنا في تعليمِ هذه الكنيسة التي أسّسها هو بالجهاد والصوم والتوبة، تنحدرُ علينا نعمة الله المخلّصة. 

فالإنسان التائب والمُجاهد يتلقّى تجلّيات ملكوتيّة في حياته؛ فيُعاين، ولئن على شكل ومضات، إشراقاتٍ إلهيّةً تكون بالنسبة إليه تعزياتٍ إلهيّةً، لكي يُكمل طريقه ويَصِلَ إلى حقيقة الفصح في حياتنا، أي الغلبة على كلّ ضعفٍ واسترخاءٍ في أجسادنا.
 
أحد الأرثوذكسيّة هذا العام هو دعوةٌ لنا لكي نغلب هذا الضعف الحاصل، والذي يشمل العالم اليوم، بجهادٍ حقيقيّ وتوبةٍ حقيقيّةٍ، لكلّ إنسانٍ ينتمي إلى هذه الكنيسة المُجاهدة. 

ونضع أمامنا جهادات كلّ الذين سبقونا، حاملين أتعابنا وأمراضنا وأحزاننا، كمسيرة جلجثة (جلجلة)، ناظرين إلى الذي صُلبَ فوق، وصارخين مع اللصّ: "اذكرنا اليوم في ملكوتك". فيُجيبنا ذلك الصوت: "اليوم تكون معي في الفردوس".

الأرثوذكسيّة وتعاليم الكنيسة ليست شيئًا عسير الفهم، بل دعواتٌ في كلّ مرّةٍ نصوم فيها وندخل في عمق التزامنا، إلى أن نُحقّق ما نؤمن به في حياتنا كلّ يوم؛ فنعيش حقيقة القيامة كلّ لحظة في حياتنا، ونموت كلّ يوم عن ملذّات هذه الحياة، ونشرع بجهادٍ وتوبةٍ عميقَين. 

هذه هي الأرثوذكسيّة التي ستبقى منارةً وهّاجةً في عالمٍ يعيش أصعب الظروف، حيث شبح الموت ينقضّ علينا كلّ يوم.

فيا إلهنا المُصوّر نحن نُكرّم صورتك لأنك أكرمتَ طبيعتنا قبلاً بتجسّدك حتى صعودكَ الإلهي! ها نحن كلما تطلّعنا إلى تلك الصورة البهيّة، وشاهدنا أيقونات قدّيسك الذين أحبّوك حتّى الشهادة، يتحرّك فينا الشّوق لكي نُضحي على هذا المثال والصورة، وتتحرّك فينا نعمة الله التي انسكبت علينا في المعمودية، فتقودنا إلى البكاء على كلّ ضعفٍ وخطيئةٍ، وتغسِلُ إنساننا العتيق بالأهواء، وتُجدّد فينا الإنسان الذي خُتم بالميرون الإلهي إلى العمل بحسب وصيّتك الإلهيّة في الإنجيل، وشهادات الرسل القدّيسين، وتعاليم الآباء المُلهمين، وخبرة الكنيسة التي هي منذ الأزل حتّى الأبد. فيا إلهنا المصوّر على أيقونة، أعِنْ ضعفنا وتقاعُسنا، ورمّم تداعيات إيماننا المتزعزع، وألهِبْ فينا الشّوق، هذا الشّوق الذي يُحرق كلّ نتانة إبليس، واسحَقْ رؤوس التنّانين المعشعشة فينا، حتّى نستحقّ أن نجوز هذا الصوم الحاضر، ونستحقّ أن نُشاهد قيامتكَ المُقدّسة!… آمين، آمين. 

طروباريّة القيامة باللّحن الثامن
إنحدَرْتَ من العلوِّ يا متحنِّن، وقبلْتَ الدفنَ ذا الثلاثةِ الأيّام لكي تُعتقنا من الآلام. فيا حياتنا وقيامَتنا، يا ربّ المجد لك.

طروباريَّة أحد الأرثوذكسيَّة باللّحن الثاني
لصورتِكَ الطاهرة نسجدُ أيّها الصالح، طالبينَ غُفرانَ الخطايا أيُّها المسيحُ إلهنا. لأنّكَ سُررتَ أن ترتفعَ بالجسدِ على الصَّليبِ طَوعًا لتُنجَّيَ الذينَ خَلَقْتَ مِنْ عُبوديَّةِ العَدُو. فلذلكِ نهتِفُ إليكَ بشُكر: لقد ملأتَ الكُلَّ فَرَحًا يا مُخلِّصَنا، إذ أتيتَ لِتُخَلِّصَ العالم.

طروباريَّة عذراء "المرآة" باللّحن الأوّل
أيتها العذراءُ الدائمة البتولية. إنّنا نسجدُ لأيقونتك الإلهيّة، التي كانت للملكة ثاوذورة. في مدينة البيزنطيّين ولبولس الإلهيّ وهبتِها. لكي بها تُصلحينا. فالمجدُ لِعظائمك يا نقيّة، المجدُ لإحساناتك. المجد لتعهُّدك إيّانا يا سيّدة.

القنداق باللّحن الثامن
إِنِّي أَنا عبدُكِ يا والدةَ الإله، أَكتُبُ لكِ راياتِ الغَلَبَة يا جُنديَّة محامِيَة، وأُقَدِّمُ لكِ الشُّكْرَ كَمُنْقِذَةٍ مِنَ الشَّدائِد. لكنْ، بما أَنَّ لكِ العِزَّةَ الَّتي لا تُحارَبِ، أَعتقيني من صُنوفِ الشَّدِائِد، حتَّى أَصرُخَ إِليكِ: إِفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.

الرِّسَالة
عب 11: 24-26، 32-40 
مبارَكٌ أنتَ يا رَبُّ إلهَ آبائنا 
لأنَكَ عَدْلٌ في كلِ ما صنعتَ بِنا 


يا إخوة، بالإيمان موسى لمّا كَبُرَ أبى أن يُدعى ابنّا لإبنةِ فرِعَون، مختاراً الشَّقاءَ مع شعبِ اللهِ على التَّمَتع الوقتيّ بالخطيئة، ومعتبراً عارَ المسيح غنًى أعظمَ من كنوزِ مصر، لأنّه نظر إلى الثَّواب. وماذا أقولُ أيضاً؟ إنه يَضيقُ بِيَ الوقتُ إنْ أخبرتُ عن جِدعَونَ وباراقَ وشَمشونَ ويَفتاحَ وداودَ وصموئيلَ والأنبياء، الذين بالإيمانِ قَهَروا الممالكَ وعمِلوا البِرَّ ونالوا المواعدَ، وسَدُّوا أفواهَ الأسود، وأطفأوا حِدَّة النارِ، ونجَوا من حَدِّ السَّيف، وتقوَّوا من ضُعفٍ، وصاروا أشِدّاءَ في الحربِ، وكسروا معسكَراتِ الأجانب. وأخَذَتْ نِساءٌ أمواتَهُنَّ بالقيامة. وعُذِّبَ آخرون بتوتير الأعضاء والضَّرب. ولم يقبلوا بالنجاة ليحصلوا على قيامةٍ أفضل. وآخرون ذاقوا الهُزْءَ والجَلْدَ والقيِودَ أيضّا والسِّجن. ورُجِموا ونُشِروا وامتُحِنوا، وماتوا بِحَدِّ السَّيف. وساحوا في جُلودِ غَنَمٍ ومَعزٍ، وهم مُعْوَزونَ مُضايَقونَ مَجهودون (ولم يَكُنِ العالمُ مستحقّاً لهم). وكانوا تائهين في البراري والجبالِ والمغاور وكهوف الأرض. فهؤلاء كُلُّهم مشهوداً لهم بالإيمانِ لم ينالوا الموعد، لأنّ الله سبقَ فنظر لنا شيئاً أفضل، أن لا يُكمُلوا بدونِنا.

الإنجيل
يو 1: 44-52


في ذلك الزمان، أراد يسوعُ الخروجَ إلى الجليل، فوجد فيلبُّسَ فقال له: "اتبَعْني". وكان فيلِبُّسُ من بيتَ صيدا من مدينةِ أندراوسَ وبطرس. فوجد فيلِبُّسُ نثنائيلَ فقال له: "إنّ الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياءِ قد وجدناه، وهو يسوعُ بنُ يوسُفَ الذي من الناصرة". فقال له نثنائيلُ: أَمِنَ الناصرةِ يمكنُ أن يكونَ شيءٌ صالح! فقال له فيلِبُّسُ: "تعالَ وأنظر". فرأى يسوعُ نَثَنائيلَ مُقبلاً إلبه، فقال عنه: "هُوَذا إسرائيليٌّ حقًّا لا غِشَّ فيه" فقال له نثنائيلُ: "مِنْ أين تعرفُني؟ أجاب يسوع وقال له: "قبلَ أن يدعوَكَ فيلِبُّسُ وأنتَ تحت التينةِ رأيتُك". أجاب نثنائيل وقال له: "يا معلِّمُ، أنتَ ابنُ اللهِ، أنتَ مَلِكُ إسرائيل". أجاب يسوعُ وقال له: "لأني قلتُ لكَ إنّي رأيتُكَ تحت التينةِ آمنت. إنّك ستُعاينُ أعظمَ من هذا". وقال له: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم، إنّكم من الآنَ تَرَونَ السَّماءَ مفتوحة، وملائكةَ اللهِ يصعدون وينـزلون على ابنِ البشر.

في الإنجيل 

يقولُ الربُّ الإلهْ "لا تَهتَمّوا لِحَياتِكُمْ بِما تَأْكُلونَ وَبما تَشْرَبونْ، وَلا لأجْسادِكُمْ بما تَلْبَسونْ... " 

اليومَ يا إخوَتي هُوَ الأحدُ الأوّلُ من الصومِ الأربعينيّ المقدّس. هذا الذي هوَ صومُ الأصوامِ... نتهيّأُ فيهِ للفرحِ السماويِّ الأكبر، فرحِ القيامةِ. قِبلَتُنا دومًا هي الفصحُ، كلَّ يومٍ، كلَّ أسبوعٍ، وكلَّ سنةٍ. لا حزنَ في الصومِ، حيثُ يقولُ لنا الربُّ "لا تكونوا عابسينَ كالمرائينَ...أمّا أنتَ فمتى صُمْتَ فادهَنْ رأسَكَ واغسِلْ وجهَكَ...". في الصومِ الكبيرِ يا إخوتي تعبٌ، ولكنّهُ تعبٌ مُفْرِحٌ، إذ نحنُ نفرحُ بالفرحِ الآتي.

نحنُ مدعوّونَ في الصومِ الكبيرِ إلى أنْ يُصبِحَ لدينا وُضوحٌ في الرؤيا، ونعبُدَ ربًّا واحِدًا، فالإنسانُ لا يمكنهُ عبادةُ ربّينْ: اللهُ والمالُ مثلما يخبرُنا الربُّ.  في بدايةِ رحلةِ الصيامِ يسألُني اللهُ: هلْ تعبدُ إلهًا واحِدًا؟ هلْ بالحقيقةِ تؤمنُ بإلهٍ واحدٍ؟ ...منْ تعبدْ: اللهَ أمِ المالَ. اللهَ أمِ الجسدَ. اللهَ أمِ اللباسَ. اللهَ أمِ المظاهرَ. اللهَ أمِ الذاتَ...؟ يا أحبّائي عليَّ أنْ أمسحَ عيوني وأنظرَ جيّدًا، هل هذا صحيحٌ؟ هل أنا أعبدُ اللهَ حقًّا أم أعبدُ كلَّ هذهِ الأشياءِ الماديّةِ الفانية؟! بَيْدَ أنَّ الربَّ يسوعَ يقولُ لي "أطلبوا أوّلاً ملكوتَ اللهِ وَبِرَّهُ" ولكنّني إنْ كنتُ أعبدُ كلَّ هذهِ الأمورِ الأرضيّةِ لنْ أصلَ أبدًا إلى الملكوتِ السماويِّ.

هذهِ التعليماتُ يا إخوةُ مهمّةٌ جدًّا للسائرينَ في رحلةِ الصومِ، عليَّ أن أطلبَ ملكوتَ اللهِ وبرَّهُ، وكلُّ شيءٍ آخرَ يأتي منْ دونِ أنْ أطلُبَهُ، فَكَما قُلنا إنّ اللهَ يدري بكلِّ شيءٍ، اللهُ هوَ حياتي ونورُ طريقي وقوّتي ومعونَتي...هوَ كلُّ حياتي ويجبُ أنْ يكونَ كلَّها.

يقولُ الربُّ في بشارةِ يوحنّا التي سَمِعْناها: "مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّماءَ مفتوحةً، وملائكةَ اللهِ تصعدُ وتنزلُ على ابنِ البشرِ" وهذا هوَ دليلُنا إلى أحدِ الأرثوذكسيّةِ في الإنجيلِ المقدّسِ. يظهرُ منْ هذهِ الآيةِ أنَّ الكنيسةَ أرادَتْ أنْ تُظهِرَ بهذا أنَّ الأيقونةَ سلَّمٌ تجمعُ بينَ الأرضِ والسَّماءِ، لأنّها تمثّلُ الفاديَ الذي جمعَ بينهُما، وَتمثّلُ أصحابَهُ الذينَ عاشوا على الأرضِ حياةً سماويّة. 

نحنُ الأرثوذكسْ نستخدمُ كلَّ وسائلِ البشرِ لنصرّحَ عنْ ايمانِنا، نستخدمُ الكلمةَ فنقرأُ الإنجيلَ، نستخدمُ السّمْعَ فنرتّلُ الصَّلواتِ، نستخدمُ العينَ فنرسمُ السيّدَ والقدّيسينَ، وهذهِ طريقةٌ منْ طرقِ الابتهاجِ بهذا الذي نحبُّ ونتوقُ إليهِ، بهذا الذي نُعايشُهُ بالمحبّةِ. 

هذهِ الأيقوناتُ لم توضعْ في الكنيسةِ والبيتِ والسيّارةِ لنتفرّجَ عليها، ولكنْ لكيْ تُصبحَ وَسيطًا بينَنا وبينَ اللهِ ولتذكِّرَنا بهِ، فنحنُ نغيّبُهُ عنْ أغلَبِ ساعاتِ يومِنا...لهذا نحنُ نضعُ الأيقونةَ في أماكنِ عملِنا وبيوتِنا وعلى جدرانِ غرفِ نومِنا وفي المحفظةِ والكتابِ...وكيفَما الْتَفَتْنا تكونُ هيَ في الوَسَطِ ويصيرُ اللهُ منْ خلالِها شيئًا فشيئًا وَسْطَ حياتِنا.

رؤيةُ الأيقونةِ يا أحبّاءُ، رؤيةُ الربِّ يسوعَ المسيحِ، يجبُ أنْ تترافقَ معَ "طهارةِ القلبِ"، لأنَّ الربَّ يقولُ: "طوبى لأنقياءِ القلوبِ لأنّهمْ يعاينونَ اللهَ". لذا فإنَّ طهارةَ المسْلَكِ تَجعلُنا نَرى الأيقونةَ فعلاً. كما أنَّ رؤيةَ الأيقونةِ تهذّبُ وتعفّفُ فينا المسلَكَ، وهذا هوَ الإكرامُ والسجودُ الحقيقيُّ للأيقوناتِ.

البحث عن الإيمانِ الأرثوذكسيّ اليوم 

من واجب المسيحيِّ الجدّيِّ أن يبحث عن إيمانه في العمق ومن الأعماق. إنّ هذا البحث في عصرنا لهو تحدٍّ كبيرٌ للأُناسِ الجدّيّين الذين يريدون اختبار الله ومعرفته. إنَّ الجهلَ خطيئةٌ والبحث إنّما يجذب الله لأنّه دليلٌ على الجديّةِ والحبّ. كذبةُ الأكاذيبِ أن نُقْنِعَ ذواتِنا بأنَّ دراسة الإيمانِ والبحثَ عنه وحتّى تعليمَه شأنٌ محصورٌ باللاهوتيّين أو بالإكليروس أو بالمرشَّحين للولوج إلى السِّلكِ الكهنوتي. فهذا أمرٌ يخُصُّكَ أيضاً، أيّها القارئُ العزيز، فأنتَ مدعوٌّ أصلاً أن تكونَ لاهوتيّاً؛ بالمعنى الروحيّ أوَّلاً والدِّراسيّ ثانياً والتبشيريّ ثالثاً.

لا بُدَّ بدءاً أن نُعرِّف بإيجازٍ الإيمانَ. هي كلمةٌ مشتقّةٌ من الفعل الثلاثيّ "أمن" ومعناةُ "أمَّنَ" وائتَمَنَ" و"آمن" وَ "سَلَّمَ" و "وضع الثقة بِـ". في اليونانيّةِ πιστεύω أي "أوكِلُ إلى" و"أصَدِّقُ" و"أُؤَمِّن" وتقابلها في اللاتينيّةِ credo التي تحمل المعاني ذاتها. أنْ أُؤْمِن هو أن أسلِّم ذاتي وأضع ثقتي بمَن هو جديرٌ بالثقةِ، أمينٌ، ومحبّ. الإيمانُ هو أيضاً أن يأتمنني أحدٌ على شيء. فإذا كنتُ مؤمناً فأنا مدعوٌّ إلى أن أكون جديرًا بالثقةِ أيضاً، أمينًا وقابِلًا أن أكون مؤتمناً. 

نستنتج من التعريف السّابق أنَّ الإيمان ليس نظريّاً وليس تعصُّباً. هنا يجدر تعريف كلمة "أرثوذكسيّ". الكلمةُ تعني "الرّأي القويم" أي المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا مساومة ولا تنازُل. 

الأرثوذكسيّة هي المحافظة على تعاليم الله الواردةِ إلينا في المصادر التي سيجري الحديث عليها. أمّا المحافظة على الإيمان فلا تكون فقط من خلال التعبير النظريّ، بل من خلال تطبيق التعليم الذي ورثناه. فالتعليم هذا هو كاثوليكي καθολική διδασκαλία أي جامِعٌ أي هو دعوةٌ لجميعِ البشر اعتناقه collective and not selective)) والإيمانُ به باستقامةٍ يُبَرهَنُ عنهُ بالتطبيقِ السَّليمِ المستقيمِ ορθοπραξία. لذا كُلُّ إيمانٍ غيرُ مستقيمٍ هو إيمانٌ نظريٌّ عابرٌ غيرُ مطيعٍ؛ إيمانُ كبرياءٍ مرفوض.

أين لي إذن أن أبحث عن إيماني؟ أوَّلاً في الكنيسة وفي تقليدها. أقول في الكنيسةِ إذ أنت تنتمي إليها وعليها تعليمك إلامَ أنت تنتمي، لأنّها هي المسؤولةُ الأولى على التعليم. أبحث عن إيماني في الكتاب المقدّس الذي هو كتاب الكنيسة الموحى من الله إذ -وباختصار- فيه يعلن الله عن نفسه للبشر ويدعوهم إلى علاقةِ حبّ معه. فالله معروفٌ في نواميسه وأحكامه. 

فالكتاب المقدّس هو المصدر الأوّل والبرهان الأوّل على وجودِ الله، لأنّه مكتوبٌ بحبر شهودِ عِيان. أبحث أيضاً عن إيماني من خلال التقليد الشريف الذي ينقل خبرة آباء الكنيسة مع الله. فهم ذاقوه وتعمّقوا في الصلاة وثابروا على معرفة الكتب المقدّسة. فلذا نجد تعليمهم في مجلّدات وكتب، متى تعمّقنا فيها نفقَهُ تفسيرَ الكتابِ المقدّس ونميّزُ التعليم الصحيح من التعاليم الباطلة. 

فهؤلاء الآباء لم يكتفوا بكتابة تعاليم نثريّة نظريّة، بل ذهبوا إلى التعبير عن الإيمان الحيّ المستقيم من خلال العبادة. ففي الليتورجيا نجد كلَّ النصوص العباديّة الصلاتيّة التي تصلنا بالله وتعلّمنا عن عمق لاهوته وعن علاقته بنا وعلاقتنا به. أضف إلى ذلك النصوص النسكيّة التابعة للتقليد الآبائيّ والتي تعلّمنا السيرة المسيحيّة الحسنة، والسَّيرَ القويمَ والعملَ المستقيمَ (ορθοπραξία) وهناك سير القدّيسين وكتابات الآباءِ المعاصرين وسِيَرُهم التي فيها ستكتشف ذاتك والله معاً.