الأحد 23 شباط 2020
العدد 8
أحد مرفع اللحم
اللَّحن الثالث الإيوثينا الثالثة
* 23: بوليكربُس أسقف أزمير، القدِّيسة غورغوني أخت القدِّيس غريغوريوس اللاهوتي، * 24: ظهور هامة السَّابق للمرَّة الأولى والثانية، * 25: طاراسيوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة، * 26:بورفيريوس أسقف غزَّة، فوتيني السَّامرية، البارّ ثاوكليتُس، * 27: بروكوبيوس البانياسيّ المعترف، ثلالاوس السُّوريّ، * 28: باسيليوس المعترف، * 29: تذكار جامع للآباء الأبرار، البارّ كاسيانوس الرُّومانيّ، البارَّتان كيرا ومارانَّا.
"وَأَمّا أَنتُم فَجَسَدُ المَسِيحِ، وَأَعضاؤُهُ أَفرادًا." (1 كو 12: 27)
الكنيسةُ هي جسدُ المسيح، وهو رأسُها، وأعضاءُ الجسدِ هُم المؤمنونَ بالرَّبِّ إيماناً قويماً، وهنا يطالعنا القدّيسُ مكسيموسُ المُعترِفُ في تفسيرِهِ فيقولُ عنِ الكنيسةِ إنَّها "كَوْنُ الكَوْنِ" أي العالمُ الحقيقيُّ.
تعلَمون أنَّ الولادةَ الطبيعيَّةَ بالجسدِ تحدُثُ بواسطةِ أبوَينِ بشرييّن، ولكنْ لا بُدَّ لنا مِن أنْ نَعي أنَّ الحدثَ المُؤَسِّسَ لنولَدَ الولادةَ الحقيقيَّةَ في الرَّبِّ هو سِرُّ المعموديَّةِ وما يَستتبعُهُ من عيشٍ صميميٍّ لحياةِ هذا الجسدِ الأسراريِّ اللّيتورجيِّ.
وبهذهِ الولادةِ الرُّوحيَّةِ يصبحُ المؤمنُ خاضعاً لقوانينَ مختلفةٍ عنْ قوانينِ هذا الدهرِ.
هذه الولادةُ الرُّوحيَّةُ ليسَتْ حَدَثاً فولكلوريَّاً ولا ضمانةً كافيةً للخلاصِ بحَدِّ ذاتِها؛ إنَّما لها مفاعيلُها إذْ إنَّها تجعلُ الإنسانَ مغروساً في الكنيسةِ ليصيرَ عُضْواً في جَسَدِ الرَّبِّ الحَيِّ مُشاركِاً بقيَّةَ الأعضاءِ (المؤمنينَ) في هذا الانتماءِ الحقيقيِّ الواحدِ، فَيدرِكَ أنَّهُ ليسَ فرداً وحيداً منعزلاً، بل في شركةٍ لا سلطانَ للموتِ عليها.
وبتضافرِ الفكرِ اللّاهوتيِّ المستقيمِ ومشيئةِ الإنسانِ المُعَمَّدِ يتمكَّنُ الأخيرُ من بلوغِ الغِبْطَةِ، أي الخلاصِ.
أُعطِيَتِ القداسةُ مِنَ الرَّبِّ كحقيقةٍ واقعيَّةٍ مختبرةٍ، إذْ الكنيسةُ مقدّسةٌ كجماعةٍ، ولكنَّ قداسةَ أفرادِها تكونُ رَهْناً بمشيئةِ كُلِّ واحدٍ منهم، فعلى المؤمنِ أنْ يَعي ويعرفَ الإيمانَ الحقيقيَّ المستقيمَ ويلتزمَ به حياةً، ليُحَقِّقَ هذه القداسةَ المُعطاةَ منَ الرَّبِّ.
لذا فهدفُ وجودِ الكنيسةِ هو إتمامُ عملِ المسيحِ الخلاصيِّ في التاريخِ زماناً ومكاناً حتّى مجيئِهِ الثّاني المجيد.
تُرَكِّزُ الكنيسةُ على البُعدِ الجماعيِّ للخلاصِ، إذْ أنا وحدي لَسْتُ جَسَدَ الرَّبِّ، بَلْ أنا عضوٌ في الجسمِ (الجماعةِ) الذي هو يُكَوِّنُ جَسَدَ الرَّبِّ (فلا مُبَرِّرَ لوجودِ الأعضاءِ إنِ انتفى وجودُ الجسدِ كَكُلٍّ)، ولهذا فكُلُّ ممارساتِها وخدمِها اللّيتورجيَّةِ تكونُ جماعيَّةً لا فرديَّةً.
خلاصُنا هو عملٌ مشترَكٌ من جهةٍ وشخصيٌّ من جهةٍ أخرى، إذْ حتّى النُّساكُ يوظِّفونَ موهبتَهم ووجودَهم، بعيداً عن العالمِ، ولكنْ في الصلاةِ من أجلِهِ، إذْ هُمْ في مناسكِهِم لا ينفكّونَ مُتَّحدينَ مَعَ الجماعةِ الواحدةِ حولَ الأسقفِ الواحد.
تساعدُنا الكنيسة بألّا ننتمي إلى هذا العالمِ الساقط، بَلْ أنْ نَتَّجِهَ نحوَهُ لنرفعَهُ. وشروطُ هذا الرَّفعِ تكون باتِّخاذِ الصليبِ حياةً، أي أنْ يُنكِرَ الإنسانُ مشيئَتَهُ. وبهذا يكونُ عملُ الكنيسةِ الأساسيُّ تقديسَ حياةِ الإنسانِ أوَّلاً، وكلُّ أعمالِ المحبَّةِ تأتي كنتيجةٍ لهذا التَّقديسِ.
بالإضافةِ إلى ما سَبَقَ، تتجلَّى شهادُة الكنيسةِ على الصعيدَينِ الجَماعيِّ والشخصيِّ في آنٍ؛ على الصعيدِ الجماعيِّ شهادتُها هي عَمَلُها الرِّعائيُّ بينَ النَّاسِ كإطعامِ الجياعِ ومساعدةِ المرضى والمحتاجين، أمّا على الصعيدِ الشخصيِّ فتستبينُ شهادتُها عبرَ اتِّجاهِ مؤمنيها محبَّةً نَحوَ الآخَرينَ فِعلاً وقَولاً. لذا لا يستطيع المسيحيُّ القولَ: "لا يَهُمُّني الآخرُ" لأنَّ هذا الموقف
يَنِمُّ عن خللٍ وظيفيٍّ فيه، فهو يتكمَّلُ بمحبَّتِهِ الخالصةِ للإخوةِ.
الكنيسةُ مُعطاةٌ لتكونَ وَسَطَ تقديسٍ لأنَّها تُتَوِّبُ الإنسانَ، فَيَفْقَهَ أنَّ وجودَهُ الفعليَّ هو من أجلِ الآخرِ، وأنَّ وجودَ الآخرِ الفعليَّ أيضاً هو من أجلِهِ.
طروباريّة القيامة باللّحن الثالث
لتفرح السماويّات، ولتبتهج الأرضيات، لأنّ الربَّ صنعَ عِزًّا بساعدِه، ووطِئَ الموتَ بالموتِ، وصارَ بكرَ الأموات، وأنقذنا من جوفِ الجحيم، ومنح العالم الرحمةَ العُظمى.
قنداق أحد مرفع اللحم باللّحن الأول
إذا أتيتَ يا الله على الأرضِ بمجدٍ، ترتعدُ منكَ البرايا بأسرها، ونهرُ النارِ يجري أمامَ المِنبر، والكتبُ تفتحُ والأفكار تشَهَّر. فنجِّني من النار التي لا تطفأ، وأهّلني للوقوف عن يمينِك، أيُّها الدَّيانُ العادِل.
الرِّسَالة
1 كو 8: 8-13، 9: 1-2
قُوَّتي وتَسْبِحَتي الربُّ أدباً ادَّبَني الربُّ، وإلى المَوْتِ لَمْ يُسلمني
يا إخوة، إنّ الطعامَ لا يقرِّبُنا إلى الله، فإنّنا إن أكلنا لا نزيدُ، وإن لم نأكل لا ننقُص ولكنْ أنظروا أن لا يكونَ سلطانُكم هذا مَعثرةً للضعفاء. لأنّه إن رآك أحدٌ يا من له العِلمُ مُتَّكِئاً في بيتِ الأوثان، أفلا يتقوّى ضميرُه، وهو ضعيفٌ، على أكلِ ذبائح الأوثان، فيهلكُ بسببِ علمك الأخُ الضعيفُ الذي مات المسيحُ لأجلِه. وهكذا، إذ تخطِئون إلى الإخوةِ وتجرحون ضمائرَهم، وهي ضعيفة، إنما تُخطئِون إلى المسيح. فلذلك، إن كان الطعامُ يُشَكِّكُ أخي فلا آكلُ لحمًا إلى الأبد لئلا أُشكِّكَ أخي. ألستُ أنا رسولا؟ ألستُ أنا حُراً؟ أما رأيتُ يسوعَ المسيحَ ربَّنا؟ ألستم أنتم عملي في الربّ؟ وإن لم أكن رسولاً إلى الآخرين فإنّي رسولٌ إليكم، لأنّ خاتَمَ رسالتي هو أنتم في الربّ.
الإنجيل
متى 25: 31-46
قال الربُّ: متى جاءَ ابنُ البشر في مجده وجميعُ الملائكةِ القدّيسين معه، فحينئذٍ يجلس على عرش مجدِه، وتُجمَعُ إليه كلُّ الأمم، فيميِّزُ بعضَهم من بعضٍ كما يميِّزُ الراعي الخرافَ من الجِداء. ويقيمُ الخرافَ عن يمينه والجِداءَ عن يسارِه. حينئذٍ يقول الملكُ للّذين عن يمينه: تعالوا يا مبارَكي أبي، رِثوا المُلكَ المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم، لأنّي جُعتُ فأطعمتموني، وعطِشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآوَيتموني، وعُريانًا فكسَوتموني، ومريضاً فعُدتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليّ. يُجيبه الصدّيقون قائلين: يا ربُّ، متى رأيناك جائعاً فأطعَمناك أو عطشانَ فسقيناك، ومتى رأيناكَ غريباً فآوَيناك أو عُريانا فكسَوناك، ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟ فيُجيبُ الملكُ ويقولُ لهم: الحقَّ أقولُ لكم، بما أنَّكم فعلتم ذلك بأحدِ إخوتي هؤلاء الصِّغار فبي فعلتُموه. حينئذٍ يقولُ أيضاً للّذين عن يسارِه: إذهبوا عنّي يا ملاعينُ إلى النار الأبدَّية المُعدَّةِ لإبليسَ وملائكتِه، لأنّي جُعتُ فلم تطعِموني، وعطِشتُ فلم تسقُوني، وكنتُ غريباً فلم تؤووني وعُرياناً فلم تكسوُني ومريضًا ومحبوسًا فلم تزوروني. حينئذٍ يُجيبونَه هم أيضاً قائلين: يا ربُّ متى رأيناكَ جائعًا أو غريبًا أو عُريانًا أو مَريضًا أو مَحبوسًا ولم نخدُمْك. حينئذٍ يُجيبُهم قائلاً: الحقَّ أقولُ لكم، بما أنَّكم لم تفعلوا ذلك بأحدِ هؤلاء الصِّغار فبي لم تفعلوه. فيذهبُ هؤلاءِ إلى العَذابِ الأبديّ، والصِدّيقونَ إلى الحياةِ الأبديّة.
حول الرسالة
في نص رسالة أحد الدينونة نقرأ عن فكرتين مهمتين هما العلم والمحبة. فالعلم الذي يقصده الرسول هو ما نعتبره اليوم بديهية بأنه لا يوجد إله سوى الله، وليس العلم بالمعنى المعاصر للكلمة. أما المحبة فهي تلك المراعاة لمشاعر الآخرين خاصةً الذين ليس لهم علم.
ويخرج الرسول بولس بنتيجة أن المحبة أهم من العلم حتى لا يكون المؤمن أي العالِم عثرةً لأحد.
وفي هذا الكلام مفهوم روحي أساسي في سلوكنا اليومي المعاصر. فبيننا عديدون يتصرّفون بحسب قناعتهم وهواهم دون مراعاة لمشاعر الآخرين مفتكرين "بما إننا على حق فلا يهمنا أحد" وبهذا يكونون سبب عثرة للآخرين. فبولس يقول أن هذا ضد المحبة.
ذاك لأن العلم بدون محبة ينفخ ويملأ النفس غرورًا وكبرياء. فيفقد العلم قيمته عندما يدفع الإنسان إلى عدم مراعاة مشاعر الآخرين.
وهنا تنفع الإشارة إلى أن كل الذين نادوا بالهرطقات كانوا علماء متكبرين، أي لهم علم دون محبة فسقطوا وأعثروا كثيرين. وعلى أساس هذا الفهم يستنتج الرسول أن الله لن يكافئنا على علمنا بل على محبتنا للآخرين لأن ملكوت الله ليس أكلًا وشرابًا (رو 14: 17) بل هو برّ وسلام وفرح.
وهنا لا بد أن نلاحظ أن الكثيرين في زماننا، والجميع اليوم يعلمون، يكررون الكلام أعلاه أي أن الأكل أو الصوم لا يزيد الإنسان، وعليه هم يمتنعون عن الصوم بحجة أن الله يعرفهم ويعرف ما في قلوبهم.
إنهم بهذا يهملون أن الصوم مع الصلاة طريق رسمه السيد لنهزم به الشياطين (مت 17: 21)، وأنه هو نفسه قد صام أربعين يومًا ومثله الرسل ومنهم بولس الذي صام كثيرًا (2كو 11: 27). كما أن السيد نفسه قال أننا نصوم حين يُرفع العريس عنا (لو 5: 35).
لهذا يقول الرسول بولس"ولكن انظروا لئلا يصير سلطانكم هذا معثرة للضعفاء".
السلطان هو العلم. بالمسيح قد صارت لنا حرية أن نأكل أي شيء دون أن نتنجس كما عَلّمَ السيد بأن ما يدخل الفم لا ينجّسه، بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجّس. هذا الكلام يأخذه الكثيرون حجةً للامتناع عن الصوم من دون أن يكون معناه ذلك.
فوائد الصوم كثيرة أبسطها تطبيق الوصية. لكن الذين يمتنعون عنه ويوردون الآيات لدعم آرائهم فبهذا يكونون معثرة للضعفاء الذين إذ يرون مَن يتقدّمون عليهم في العلم لا يصومون يفتكرون بأن هؤلاء العالِمين على حق فيمتنعون عن الصوم أيضاً.
"وهكذا إذ تخطئون إلى الاخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون إلى المسيح." أي أن التصرف الخاطئ يعثر الأخ الذي مات المسيح لخلاصه، ما يجعل الإساءة للأخ إساءة للسيد. لهذا يعلنها صراحة الرسول: "لذلك إن كان طعام يعثر أخي فلن آكل لحماً إلى الأبد لئلا أعثر أخي".
هذا الإعلان ليس عن أكل اللحم بل هو مبدأ هام في المسيحية: على المسيحي أن يمتنع لا عن الخطأ وحسب، بل عن كل ما يجعل الآخر يتعثر لكونه مسئولاً عن حياة الآخرين الروحية. ما يريد الرسول قوله لنا هو إن جوهر الصوم هو محبة الإخوة.
ترقّب يوم الدينونةأتظنّون أنّ الله ينام؟
يوم الدينونة ليس غريبًا عن حياتنا التي نعيشها الآن. فمنذ زمن تجسّد المسيح بدأت المرحلة الأخيرة من سرّ تدبير خلاص الإنسان، مرحلة ترقّب ملكوت السماوات، والمسيح نفسه عرَّفَنا عن هذه الحقيقة حين أعلن في بداية كرازته عن اقتراب "ملكوت السماوات".
لهذا تجسّد المسيح كان بداية النهاية، والآن نحن ننتظر استكمال النهاية والاستعلان الأخير لملكوت السماوات، الّذي سيلي يوم دينونة جميع البشر.
كثيرون في هذا الزمن الحاضر، يُحاولون إنكار حقيقة الدينونة الأخيرة أو على الأقل تهميش هذه الحقيقة؛ يُحاولون نزع كل فكرة تذكّرنا بالموت والدينونة.فيما الكتاب المقدّس، من العهد القديم، يصف ذلك اليوم أنّه سيكون يوم ضيق رهيب، "أليس يوم الرّبّ ظلامًا لا نورًا، وقَتامًا ولا نور له؟" (عاموس20:5)، "يوم نار تأكل الأرض كلّها" (صفنيا18:1)؛
عمل الكنيسة كان دائمًا التذكير بحقيقة الدينونة. يقول القدّيس بوليكاربوس من القرن الثاني، "إن الّذي ينكر القيامة والدينونة هو ابن الشيطان البكر".
يسأل كثيرون في زمننا عن علامات الأيام الأخيرة والدينونة، وإن كانت قد بدأت تظهر معالمها.
يتكلّم الكتاب المقدّس بوضوح عن تلك الأيام، وعن ازدياد الاثم وتعاظم الشرّ الطبيعيّ والخلقيّ فيها.
تفاقم ثورات الطبيعة ليس سوى نتيجة حتميّة لتعاظم تجديف الإنسان وارتداده عن الله. وعلامة الارتداد الشامل ستكون ظاهرة في حياة الناس.
ومن اللافت للنظر أنّ علامات الزمن الأخير، كما يذكرها بولس الرسول، هي العلامات ذاتها التي سبقت مجيء المسيح الأوّل.
قبل مجيئه الأوّل كانت مجتمعات الأمم تعيش في شذوذ جنسيّ مقيت، استبدل فيه الناس استعمال أجسادهم الطبيعيّ "بالّذي على خلاف الطبيعة". وكانوا "مملوئين من كلّ إثمٍ وزنًا وشرّ وطمعٍ وخُبثٍ، مشحونين حسَدًا وقتلاً وخصامًا ومكرًا وسوءًا، نمّامين مفترين، مبغِضين لله..." (رو29:1-31).
هكذا كانت حياة العالم قبل مجيء المسيح الأوّل. ويتكلّم الرسول بولس عن الحالة التي سيكون عليها الناس قبل مجيء المسيح الثاني: "أنّه في الأيّام الأخيرة ستأتي أزمِنةٌ صعبةٌ، لأنّ النّاس يكونون مُحبّين لأنفُسهم، مُحبّين للمال، مُتعظّمين، مُستكبرين، مُجَدّفين، غير طائعين لِوالديهم، غير شاكرين، دنسين، بلا حُنُوٍّ، بلا رضًى، ثالبِين، عديمي النّزاهة، شَرسين..." (2تيم1:3-5).
وأخطر الكلّ، وهو من دلائل الأيام الأخيرة، هذا الانتشار المقيت للشذوذ الجنسيّ وتشريعه في زمننا، الّذي ليس هو سوى صورة عن اكتمال الفساد.
هكذا كان العالم يعيش في وثنيّة بشعة، دخل الإنسان في عبادة ذاته، وأصبحت أهواؤه هي آلهته، يعيش ليُشبع غرائزه وشهواته بطريقة حيوانيّة. أتى المسيح فغيّر صورة هذا العالم الجاحد ومبادئه وكل طريقة حياته.
أصبحت مبادئ الإنجيل هي الروح التي على أساسها سنّت الشعوب المختلفة، التي عرفت الإنجيل، قوانين حياتها العامّة.
ولكن في الأيام الأخيرة، التي ستسبق المجيء الثاني للمسيح، سيعود العالم من جديد إلى هذه الوثنيّة الجديدة، التي ستبطل كل مبادئ الإنجيل، وهي تُعظّم أنانيّة الإنسان ولا ترى فيه سوى شهوات وغرائز حيوانيّة؛ هذه الوثنيّة التي تهدم عمل الله وكل حياة خليقته "الحسنة جدًّا"، لتجعلها "بشعة جدًّا".
ومن علامات اقتراب يوم الدينونة، اضطهاد مُخيف للمؤمنين الحقيقيّين. والقليلون الّذين سيثبتون مع المسيح الحقيقيّ ويُقاومون المسيح الدجّال الّذي سيخلقه إبليس، سيهربون إلى البراري.
الكنائس العامّة ستخضع لروح الارتداد، وعبادتها لن تكون مقبولة من الله.
يقول هيبوليتوس، من القرن الثالث، في وصفه للأيام الأخيرة: "والكنائس أيضًا ستنوح وتولول في بكاء عظيم، لأنّه لن يكون هناك ذبيحة قربان ولا بخور يقدّم ولا خدمة مقبولة أمام الله، بل تصبح الهياكل كناطور الكروم... سيكون ظلام للناس ونوح على نوح وويلات على ويلات".
فإبليس، الّذي لا ينام، استطاع في الزمن الحاضر أن يفرض ناموسه الجديد على البشر، "الّذين استبدلوا حقَّ الله بالكذب" (رو25:1)،استبدلوا ناموس النعمة بناموس الخطيئة والارتداد عن الحقّ.
"ولكنّ الرّوح يقول صريحًا: إنّه في الأزمنة الأخيرة يرتدّ قومٌ عن الإيمان، تابعين أرواحًا مُضلّةً وتعاليم شياطين" (1تيم1:4).
هذا الارتداد هو عن إيمان الكنيسة الواحد، وليس عدم الإيمان الكليّ.
من انحرف عن الإيمان المستقيم يتبع تلقائيًّا أرواح الشياطين. لهذا سيكثر في الزمن الأخير وجود الأنبياء الكذبة، آباء كل البدع والهرطقات، الّذين يعملون بإرادة الشيطان، الّذي من البدء يكره كنيسة المسيح الحقيقيّة وعقائدها وقوانينها الإلهيّة.
لهذا، يوم الدينونة العادلة، ستُقاس أعمال الناس بمقياس روح الإيمان ومعرفة المسيح. لن تكون الأعمال مقياسًا بحدّ ذاتها، إنّما أعمال الإيمان ومعرفة ابن الله.
"الّذي يُؤمن به لا يُدان، والّذي لا يُؤمن قد دين، لأنّه لم يُؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يو18:3).
أعمالنا الصالحة تستحقّ مكافأة الله إذا كانت ثمرة لهذا الإيمان الحقّ. من المستحيل الوصول إلى المسيح بواسطة أعمالنا الخارجيّة مهما كانت صالحة وحسنة، إنّما بواسطة تحوّل القلب الداخليّ عبر الإيمان الأرثوذكسي الحقيقيّ. فالحقّ هو عطيّة الله الكاملة لكي يستطيع الإنسان أن يتبع المسيح الحقيقيّ ويعمل الفضيلة بالنعمة لا بالأهواء.
خارج الحقيقة لا يوجد مسيح ولا إيمان ولا أعمال صالحة، إنّما عبادة وثن وأهواء بشريّة وشهوات قلوب تميل إلى النجاسة.
قد تكون دينونة هذا العالم قد اقتربت. لقد تجاوز فساد العالم الحاضر ذاك الّذي كان لسدوم وعمّورة، وذاك الّذي كان لأهل نينوى، وللعالم كلّه قبل طوفان نوح.
كل هذا الارتداد وهذا التجديف، كل هذه الشرور وهذا الفساد، أليس له نهاية؟ أتظنّون أن الله ينام وسيسمح بأن يزول اسمه من بين الشعوب وأن يُجدّف عليه بأعمال نجاساتهم. أتظنّون أنّ الله ينام وسيسمح بأن تغلب شرور الناس خليقته الحسنة ويشوّهوا عمل يديه.
الله يحتاج إلى مسيحيّين تائبين، وحدهم التائبون يمكنهم أن يُغيّروا قرار الله باستعجال الدينونة.
دعوة المعمدان والمسيح: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات"، تعني توبوا فقد اقتربت دينونة الله. وحيث توجد التوبة الحقيقيّة لا توجد دينونة.
لكن، لا يبدو أن العالم سيعود إلى توبة صادقة، كما عاد أهل نينوى قديمًا.
واضح أنّ إثم العالم وجحوده وارتداده عن المسيح الحقّ قد استفحل ولا عودة عنه، وهذه هي علامة الزمن الأخير الكبرى.
الله لا ينام، وإن كان ما زال يمهلنا رغم خطايانا وعدم حملنا ثمار التوبة، فهذا لأجل المختارين، البقيّة التي ما زالت تصوم وتصلّي وتتوب لتخلص وتُقاوم بجهادها فساد وإثم هذا العالم.
وبمقدار ما يتناقص عدد هؤلاء المجاهدين بهذا المقدار تقترب دينونة الله، حيث يدّخر غير التائبين لأنفسهم "غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة" (رو5:2).