الأحد 28 أيّار 2017
28 أيار 2017
أحد آباء المجمع المسكونيّ الأوّل
اللَّحن السادس الإيوثينا العاشرة
* 28: أفتيشيوس أسقف مالطية، أندراوس المتباله، * 29: الشّهيدة: ثاودوسيَّا، ألكسندروس رئيس أساقفة الإسكندريَّة، * 30: البارّ إسحاقيوس رئيس دير الدلماتن، البارّة إيبوموني، * 31: الشّهيد هرميوس، * 1: الشّهيد يوستينوس الفيلسوف، * 2: وداع الصعود، نيكيفورس المعترف رئيس أساقفة القسطنطينيَّة، * 3: سبت الأموات، الشّهيد لوكليانوس، الشّهيدة بافلا. *
تحتفل الكنيسة المقدّسة، عاماً بعد عام، بالمواسم الإلهيّة والأعياد التي بها نشارك الأحداث الخلاصيّة والتي هي، وبعبارة أخرى، أعمال الإله المثلّث الأقانيم من أجل تقويم الإنسان الذي انحرف عن هدفه المنشود وإعادته للسلوك في المثال.
هذه الأحداث ليست مجرّد مرحلة تحمل نهاية، بل هي أسرارٌ إلهيّة نستمرُّ بها ونحيا، تحمل واقعاً ديناميكيّاً، يجتمع فيه الماضي والحاضر والمستقبل، إذ يشترك فيه المحدود بغير المحدود والمخلوق باللامخلوق. يُفعَّلُ هذا الاشتراك بقوّة وحلول الرّوح القدس المحيي، الذي فيه نعاين الأسرار الإلهيّة المتمّمَةَ بالإبن بمسرّة الآب؛ الرّوحِ القدسِ الذي وعدَ الربّ يسوع تلاميذَه بإرساله لهم، وهو صادقٌ، فكان حلوله في يوم العنصرة كهبوب ريحٍ عاصفة، مالئاً الكلَّ ومؤهّلاً إيّاهم لمعاينةِ الأسرار الالهيّة.
العنصرةُ دعوةٌ لكلٍّ منّا للتحرُّر من أنانيّتنا وكبريائنا وميلنا نحو الخطيئة. دعوةٌ تجدِّدُ فينا معموديّتنا التي أُعدنا بها إلى الملكوت وأُعطينا بها حياةً مقدّسةً، ونحنُ أفسدناها بمغريات العالم التي ما هي سوى عثراتٍ في طريق القداسة. قبولُنا للرّوح القدس وسُكناه فينا هو تحطيمٌ لسائر الحواجز التي تمنعنا عن بلوغ هدفنا المشتهى الذي هو التألّه.
الرّوح القدس ليس سحراً يحوّلنا، كما يعتقد البعض، بل هو، بفعله فينا، يقودنا لمعرفة الحقّ ومعاينته. يقودنا، غير عابئٍ بمحدوديّتنا ومخلوقيّتنا، إلى تلك المعرفة الإلهيّة الحقّة، فنشارك في المجد الالهيّ ونستعلنُ كأبناءٍ لله. حلول الرّوح القدس على التلاميذ، وهم في علّيّة صهيون يستذكرون الربّ سرّيّاً خوفًا من اليهود، جعل منهم كنيسةً تنطقُ مجاهرةً باسمه دون كللٍ أو خوفٍ. كما ولم يغيّر طبيعتهم، لكن أعطاهم أن يدركوا الحقائق الإلهيّة الحاصلة بالاِبن الأزليّ المتجسّد، إذ منحهم روح فهم وفظنة.
هذه كنيستنا، كنيسة الرّوح القدس، كنيسة الآباء القدّيسين الذين استأهلو أن يكونوا أوانيَ للرّوح القدس. آباؤنا القدّيسون الذين نقيم تذكارهم اليوم أدركوا معنى العنصرة وتفاعلوا معها؛ سمعوا نداء الربّ واستدعوا روحه القدّوس لينير أذهانهم ويقدّسها، فطفقوا كالرّسل يجاهرون بإيمان كنيستنا القويم معترفين بالمسيح إلهاً وإنساناً معاً ذا طبيعتين كاملتين، متّحدتين بدون تشوّش أو اختلاط.
آباؤنا الذين نعيّد لهم اليوم، إرتبطوا بالمسيح بوثاقِ الروح القدس. وما تعليمهم سوى تعبير عن هذا الاِرتباط الوثيق بالله، جاعلين من ذواتهم ألسنةً للرّوح القدس ومدافعين عن الإيمان القويم، الذي باعتقادهم به استأهلوا أن يسكن فيهم. فالأب الحقيقيّ هو من يحافظ على الإيمان وعلى التقليد الكنسيّ بكلّ حفاوة، وقوّة وتضحيّة في وجه روح العصرنة والبدع التي تبعدنا عن إيماننا.
الكلام على أسرار الله ليس بالأمر السهل. من لا يَعِش مع الله ولا يقتنِ نعمة روحه القدّوس لا يأتِ كلامه بثمر، بل يتحوّل ثرثرةً وثنيّةً، لا أقوالاً إلهيّة.
هذا ما عاشه الآباء القدّيسون، وهذا ما علّموه من خلال خبرتهم وجهاداتهم الروحيّة. حياتهم كانت للمسيح والمسيح كان حياتهم.
ألا أهّلنا الربّ أن نستنير بتعاليمهم القويمة لنستطيع، نحن أيضاً، أن نسلّم هذه الوديعة المقدّسة إلى أبنائنا لنبلغ إلى ملء قامة المسيح.
رئيس دير مار إلياس شويّا البطريركيّ
طروباريَّة القيامة باللَّحن السادس
إنَّ القوَّاتِ الملائكيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صاروا كالأموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القبرِ طالِبَةً جسدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجحيمَ ولم تُجرَّبْ منها، وصادَفْتَ البتولَ مانِحًا الحياة. فيا مَنْ قامَ من بين الأمواتِ، يا ربُّ المجدُ لك.
طروباريَّة الآباء باللَّحن الثامن
أنتَ أيُّها المسيحُ إلهُنا الفائِقُ التَّسبيح، يا مَنْ أَسَّسْتَ آباءَنا القدِّيسينَ على الأرضِ كواكِبَ لامِعَة، وبهم هَدَيْتَنَا جميعًا إلى الإيمانِ الحقيقيّ، يا جزيلَ الرَّحمةِ المجدُ لك.
طروباريَّة الصّعود باللَّحن الرّابع
صَعِدْتَ بمَجْدٍ أيُّها المسيحُ إلهُنا، وفرَّحْتَ تلاميذَك بموعِدِ الرُّوحِ القُدُس، إذ أيقَنُوا بالبَرَكَة أنَّكَ أَنْتَ ٱبنُ اللهِ المنْقِذُ العالَم.
لـمَّا أَتْمَمْت َالتَّدبيرَ الَّذي من أجلِنا، وجعلتَ الَّذين على الأرض مُتَّحِدِينَ بالسَّمَاوِيِّين، صَعِدْتَ بمجدٍ أَيُّهَا المسيحُ إلهُنا غيرَ مُنْفَصِلٍ من مكانٍ بل ثابتًا بغيرِ ٱفتِرَاق وهاتِفًا: أنا معكم وليسَ أحدٌ عليكم.
مُبَارَكٌ أَنْتَ يا رَبُّ إلهَ آبائِنَا
فإنَّكَ عّدْلٌ في كلِّ ما صَنَعْتَ بِنَا
في تلكَ الأيَّامِ ارتأَى بولسُ أنْ يتجاوَزَ أَفَسُسَ في البحرِ لِئَلَّا يعرِضَ له أن يُبْطِئَ في آسِيَةَ، لأنَّه كان يَعْجَلُ حتَّى يكون في أورشليم يومَ العنصرةِ إِنْ أَمْكَنَهُ. فَمِنْ مِيلِيتُسَ بَعَثَ إلى أَفَسُسَ فاسْتَدْعَى قُسوسَ الكنيسة. فلمَّا وصَلُوا إليه قال لهم: ﭐحْذَرُوا لأنفُسِكُم ولجميعِ الرَّعِيَّةِ الَّتي أقامَكُمُ ﭐلرُّوحُ القُدُسُ فيها أساقِفَةً لِتَرْعَوا كنيسةَ اللهِ الَّتي ﭐقْتَنَاهَا بدمِهِ. فإنِّي أَعْلَمُ هذا، أَنَّهُ سيدخُلُ بينَكم، بعد ذهابي، ذئابٌ خاطِفَةٌ لا تُشْفِقُ على الرَّعِيَّة، ومنكم أنفُسِكُم سيقومُ رجالٌ يتكلَّمُون بأمورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلامِيذَ وراءَهُم. لذلكَ، ﭐسْهَرُوا مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي مُدَّةَ ثَلاثِ سنينَ لم أَكْفُفْ ليلًا ونهارًا أنْ أَنْصَحَ كلَّ واحِدٍ بدموع. والآنَ أَسْتَوْدِعُكُم يا إخوتي اللهَ وكلمةَ نعمَتِه القادِرَةَ على أَنْ تبنيَكُم وتَمْنَحَكُم ميراثًا مَعَ جميعِ القدِّيسين. إنِّي لم أَشْتَهِ فِضَّةَ أَحَدٍ أو ذَهَبَ أَحَدٍ أو لِبَاسَه، وأنتم تعلَمُونَ أنَّ حاجاتي وحاجاتِ الَّذين معي خَدَمَتْهَا هاتان اليَدان. في كلِّ شيءٍ بَيَّنْتُ لكم أنَّه هكذا ينبغي أن نتعبَ لنساعِدَ الضُّعَفَاء، وأن نتذكَّرَ كلامَ الرَّبِّ يسوعَ. فإنَّه قال: إنَّ العطاءَ مغبوطٌ أكثرَ من الأَخْذِ. ولـمَّـا قال هذا جَثَا على رُكْبَتَيْهِ معَ جميعِهِم وصَلَّى.
في ذلكَ الزَّمان رَفَعَ يسوعُ عَيْنَيْهِ إلى السَّماءِ وقالَ: يا أَبَتِ قد أَتَتِ السَّاعَة. مَجِّدِ ٱبْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ٱبنُكَ أيضًا، بما أَعْطَيْتَهُ من سُلطَانٍ على كُلِّ بَشَرٍ ليُعْطِيَ كُلَّ مَن أعطيتَه لهُ حياةً أبديَّة. وهذه هي الحياة الأبديَّةُ أن يعرِفُوكَ أنتَ الإلهَ الحقيقيَّ وحدَكَ، والَّذي أرسلتَهُ يسوعَ المسيح. أنا قد مجَّدْتُكَ على الأرض. قد أَتْمَمْتُ العملَ الَّذي أعطَيْتَنِي لأعمَلَهُ. والآنَ مَجِّدْني أنتَ يا أَبَتِ عندَكَ بالمجدِ الَّذي كانَ لي عندَك من قَبْلِ كَوْنِ العالَم. قد أَعْلَنْتُ ٱسْمَكَ للنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَهُمْ لي مِنَ العالم. هم كانوا لكَ وأنتَ أعطيتَهُم لي وقد حَفِظُوا كلامَك. والآنَ قد عَلِمُوا أنَّ كُلَّ ما أعطَيْتَهُ لي هو منك، لأنَّ الكلامَ الَّذي أعطَيْتَهُ لي أَعْطَيْتُهُ لهم. وهُم قَبِلُوا وعَلِمُوا حَقًّا أَنِّي مِنْكَ خَرْجْتُ وآمَنُوا أنَّك أَرْسَلْتَنِي. أنا من أجلِهِم أسأَلُ. لا أسأَلُ من أجل العالمِ بل من أجل الَّذينَ أَعْطَيْتَهُم لي، لأنَّهم لك. كلُّ شيءٍ لي هو لكَ وكلُّ شيءٍ لكَ هوَ لي وأنا قد مُجِّدتُ فيهم. ولستُ أنا بعدُ في العالم وهؤلاءِ هم في العالم. وأنا آتي إليك. أيُّها الآبُ القدُّوسُ ٱحْفَظْهُمْ بـٱسمِكَ الَّذينَ أعطيتَهُمْ لي ليكُونُوا واحِدًا كما نحنُ. حينَ كُنْتُ معهم في العالم كُنْتُ أَحْفَظُهُم بٱسمِكَ. إِنَّ الَّذينَ أَعْطَيْتَهُم لي قد حَفِظْتُهُمْ ولم يَهْلِكْ منهم أَحَدٌ إلَّا ٱبْنُ الهَلاكِ لِيَتِمَّ الكِتَاب. أمَّا الآنَ فإنِّي آتي إليك. وأنا أتكلَّمُ بهذا في العالَمِ لِيَكُونَ فَرَحِي كامِلًا فيهم.
بعد العشاء السرّيّ الذي أقامه يسوع مع تلاميذه وفيه غَسَل أرجُلَهم وعزّاهُم بقوله لهم إنّه لا بدّ له من أن يتألّم ويذهب إلى الآب لكي يرسل لهم الرّوح القدس الذي سيرشدهم كلّهم إلى الحق (أنظر يو 13، 14، 15، و16)، يستهلّ الربُّ، في الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنّا، كلامه مع الآب بشكل محادثة εἶπεν على مسمعٍ من التلاميذ. صلاةُ يسوع هنا هي بجزءَين: من 1-5 يتكلّم على نفسه وعلاقته بالآب و6-13 يتكلّم على تلاميذه وتفاعلهم مع الكلمة المعطاة من الآب.
تذكِّرُنا هذه الصلاة بالصّلاة الربّيّة (أنظر متّى 6: 9-13) إذ يستهلّ كلامه بدعوى للآب، Πάτερ. نجد في إنجيل يوحنّا، بشكلٍ مكثَّف، إظهار الربّ يسوع المسيح لأقنوم الآب وتوضيحه علاقته به كإبنٍ. كذلك في هذا الإصحاح، فهو أوَّلاً يدعوه أبًا إذ لا يستطيعُ أحدٌ أن يدعوَ شخصاً أباً إلاّ إذا كانَ ابنًا أو ابناً إلّا إذا كان أبًا (أنظر متّى 3:17). فالآبُ ولد الإبن منذ الأزل والولادةُ هذه، إذ هي حاصلةٌ خارج الزمن، تدوم وتستمرّ إلى الأبد. فيسوع، أقنوم الإبن، هو في حالةِ ولادةٍ دائمةٍ.
يطلب يسوع من الآب أن يمجّده. فقد أتت ساعة المجد. إنها ساعةُ الآلام. فيسوع يدعو هذا العمل، أي الآلام والصلب، مجداً. فالصلب هو عملٌ ثالوثيٌّ مشتركٌ تتمجّد فيه أقانيم الثالوث. هذا لأنّه عملٌ تنازل فيه الإله لكي يتمّ. فهو عملُ إخلاءٍ للذّات κένωσις (أنظر فيليبي 2: 6-10)؛ فالآب أخلى ذاته وارتضى أن يتجسّد الإبن، والإبنُ أطاع قرار الآب، والروحُ القدسُ بعد القيامةِ أخلى ذاته وأفاض على المسكونة موهبة الحياة القياميّة. فكلّ هذا يصير ممكناً من الآبِ في الابنِ وبواسطةِ الروح القدس. لهذا مجدُ الصليبِ هو مجد الثالوثِ لا محالة.
يتابع يسوع كلامه ويعلن أيضاً شيئاً جديداً: الآب أعطاهُ سلطاناً على كلّ ذي جسدٍ. هذا يعني أنّ الربّ أتى ليخلّص كلّ العالم وليس اليهود فقط بل من كانوا من الأمم، الذين كانوا يؤمنون بكثرةِ الآلهةِ. هذا السلطان يهدف إذاً أن يعطي البشر أجمعين الحياة الأبديّة. فبعد قيامة الربّ يسوع وصعوده إلى السماء أرسل الروحَ القدس إلى العالم، إلى الأبد، ليقدِّسَ الناس ويفيض في نفوسهم أنهار ماء الحياة الأبديّة. وما هي الحياة الأبديّة؟ أن يعرفوا الآب. المعرفة هنا ليست نظريّة فلسفيّة بل معرفة كيانية تحصل بفعل اتّحادنا بيسوع المسيح بواسطة الروح القدس. إذن، معرفةُ الآبِ تحصل من خلال يسوع المسيح، الذي أرسله ὅνἀπέστειλας (هذا التعريف نجده في إنجيل يوحنّا كلّه)؛ الآب أرسل الابن لكي يتمّم عمله، أي أن يعلن اسمه للبشر ويصنع العجائب ويموت من أجل الخلاص (أنظر أشعياء 52؛ 62).
من الآية 6-13 ينتقل يسوع ليخصَّ التلاميذ بكلامه. التلاميذ هم الناس الذين أعطاهم الآب للابنِ. كما يشرح القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، يسوع يتكلّم بتواضع وبطريقةٍ بشريّةٍ، إذ إنَّ الصلاة تتمّ على مسمعٍ من التلاميذ. التلاميذ كانوا في ذلك الوقت متعلقين بيسوع ولم يكونوا بعد مقتنعين بأنّه سيموت وسيقوم. هو الآن يُسمعهم أنّ هناك بينه وبين الآب عمليّة أخذٍ وعطاء. فما يخصّ الآب يخصّ الاِبن أيضاً والعكس صحيح، وهذا ليحفظهم في الإيمان وعدم اليأس بسبب رحيله.
لكنّ يسوع يذهب إلى ما هو أبعد من هذا وأعمق. فالتلاميذ حفظوا τετήρηκαν الكلمة التي هي من الآب في الابنِ. أي أنّهم عملوا بوصايا يسوع (أنظر يو 14: 12 و15)، ولهذا عرفوا (الآية 7) الآب والابنَ معاً ؛ أي أنّهم عرفوا أنّ كلّ ما للآب هو للابنِ وكلّ ما للابنِ هو للآبِ، كما وأنّهم عرفوا أنّ الابن إله كالآبِ (الآية 8ب). لهذا السبب يطلب يسوع من الآب أن يحفظهم τήρησοναὐτούς (الآية 11)في الإيمان الواحد وأن يحفظهم من الاِنقسام. فالكلمةُ واحدةٌ والايمانُ واحدٌ.
يطلب الربّ يسوع أن يتمجّد فيهم (الآية 10)، لأنّهم، فقط إذا آمنوا وعاينوا القيامة، سوف يبشِّرون به ويموتون من أجله كما تماماً سيفعلون هذا من أجل مجد الآب. هذا بالضبط ما فعله التلاميذ بعد العنصرة. فقد بشّروا بيسوع كإلهٍ متجسّدٍ، تألّم وقبر وقام من أجلِ العالم. ولهذا السبب أيضاً ماتوا لأجله اقتداءً بمعلّمهم. وهكذا مجَّدوا الله وتمجَّدوا بالله؛ وإنّما هذا كلّه أيضاً ما نحن مدعوُّون إلى أن نقوم به.
كثيراً ما تكلّمنا على القدّاس وقليلاً ما تكلّمنا على أهمّيّة المناولة في القدّاس وكيفيّة الإقتراب منها! وما هو المطلوب من المسيحيّين لكي يتقدّموا إليها. ما نقوله أنّه على المسيحيّ ليس فقط أن ينتبه كثيراً أثناء القدّاس لكي يقترب من المناولة الإلهيّة إنّما هذا يتطلّب جهداً في مسيرة حياته. القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم يُضيف ويقول للّذين لا يتناولون لأسباب عدّة: "لأجلك ذُبح الحمل وأنت تتركهُ". من لا يقترب إلى المناولة المقدّسة كانت الكنيسة تُعاقبهُ بموجب القوانين الرسوليّة؛ ولأنّ هذه القوانين تُعتبر لإنسان اليوم قاسية لم تَعُد تُراعي حالة إنسان اليوم، نحن لا نقول ذلك أنّ حالة إنسان اليوم أصبحت أفضل من قبل، لذلك تُعتبر قوانين الكنيسة بالنسبة له كما يُقال بالعربيّة العامّة "رجعيّة"، لا! إنسان اليوم يعيش فتوراً روحيًّا وكسلاً يطال كلّ جوانب حياته.
المسيحيّون اليوم ما عادوا يعيشون حياة الفضيلة وهناك جوانب عدّة من حياتهم تتطلّب جهداً واعترافاً صريحاً. هذا لا يعني أنْ ليس هناك قلّة تعيش حياة كنسيّة وتُجاهد لذلك.
يجب يا أيّها المسيحيّون أن تتناولوا، وإذا سُئلتم لماذا؟ قولوا نحن أولاد الله كما تقول صلاة ال"أبانا"، ألا يحقّ لي أن أشترك في مائدة أبي؟! وإذا سُئلتَ: وهل أنت مستحقّ لذلك؟ قُلْ لا، لا بل أنا خاطئ وأجاهد لكي أُصبح أهلاً لذلك! قُل لأنّي خاطئ أنا أذهب للمناولة، لأنّ الكاهن عندما يناولني يقول: لمغفرة الخطايا، لأنّي مريض أنا أذهب لكي آخذ الدواء المناسب وهذا الدواء هو هذه المناولة المقدّسة، لذا علينا أن نجاهد روحيّاً لكي نكبح كلّ هوًى وضعف معشعش فينا ويخنقنا.
المناولة المستمرّة هي حاجة، ولكي تفعل فعلها فينا ونجني ثمارها يجب علينا أن نحفظ أنفسنا في طهارة، ولكي نحصل على هذه النعمة وعلى فرح المناولة المستمرّة يجب أن يكون لدينا هذا الإنتباه وهذه اليقظة المقدّسة. يجب أن تكون حواسّنا كرادار يلتقط كلّ غريب يخترق أمننا ويحاول زعزعة استقرارنا؛ وفي حال حصل هذا الخرق الأمنيّ، الأمر بسيط وعلاجه يتطلّب تحصينًا أكثر واعترافًا نصدّ بهما هجمات العدوّ. المسيحيّة بكلماتها بسيطة لكنّها تتطلّب دماً وعرقاً مع دموع وتضرّعات. الله قادرٌ على كلّ شيء ولكنّه لا يستطيع أن يتّحد مع نفسٍ غير طاهرة، وقلب ملوّث بالأهواء كما يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس.
قبل المناولة والإشتراك بها يجب، وبكلّ تأكيد، أن نصوم، والكنيسة لم تحدّد الوقت الذي يجب أن يتم فيه ذلك، هذا يتوقّف على قدرة كلّ نفس بشريّة وصحّتها، كما أنّ عدد المرّات التي يجب أن يشترك الواحد فيها بالمناولة هذا يحدّده أب روحيّ مستنير يعرف حاجة كلّ شخص وما هو المناسب له.
للإقتراب من المناولة المقدّسة يجب اقتناء مستوًى روحيّ معيّن أو على الأقل التدرّب على ذلك بشيء من الرهبة والإحترام، وليس بكثرة الكلام والضجيج كما يحصل في كثير من المرّات في بعض الرعايا الكبيرة.
كل منّا عليه أن يقف بهدوء ويصلّي بداخله حتّى يأتي دوره. العبرانيّون عندما كانوا يأكلون الحمل الفصحيّ كانوا يقفون مسمّرّين وماسكين بيدهم عصا. كيف الحال لنا نحن المقبلين إلى حمل فصحيّ لا عيبَ فيه وذبيحة إلهيّة غير دمويّة! العصا في العهد القديم ترمز إلى الصليب اليوم، لذلك علينا أن نقف باحترام ووقار راسمين إشارة الصليب بكلّ وقار. وعندما نقترب من المناولة فلنَضَع بكلّ وقار المنديل المقدّس المسمّى بالكالما تحت الذقن ونفتح فمنا جيّداً ونأخذ الجسد والدم الإلهيَّين بشيء من الشغف ونذهب بصمت. علّموا أولادكم ذلك وهم ليسوا بحاجة لمن يُساعدهم على ذلك. اتركوا الأولاد يتقبّلون المناولة بمفردهم، لأنّهم بذلك يقومون بدورهم حتّى أفضل من الكبار. الأمّ المؤمنة تُعلّم أولادها في البيت وليس في الكنيسة. نحن، عن عدم خبرة، كثيراً ما نزجر أولادنا في الكنيسة بدون سبب لأنّهم يجهلون ما يفعلون. التعليم يبدأ في البيت ويستمرّ في الكنيسة، فكثيراً ما نرى أولاداً لا يتناولون ليس لأنّهم لا يُريدون، لا، بل لأنّهم لم يتعوّدُوا مع أهلهم على ذلك.
أخيراً، هذه اللحظة الحاسمة والأساسيّة في القدّاس هي جوهر كلّ هذه الليتورجيّة المقدّسة فلا نضيِّعنَّها بشيء، من اللّامبالاة وعدم الإحترام. نحن نعرف أنّ أكثريّة شعبنا بحاجة إلى إعادة تثقيف روحيّ، وكلّ منّا هو مسؤول عن جهل الآخر إذا اعتبرنا أنفسنا كنيسة شركويّة حقّاً. هذا يتطلّب جهداً أكثر وتوعية أكبر لكي تكون هذه الخدمة المقدّسة حاجة لنا وتتفاعل فينا لتقدّمنا ونموّنا.
عظيمة أعمال المسيح الخلاصيّة التي تُجسّدها الكنيسة كلّ مرّة تُقيم فيها القدّاس الإلهيّ. وهذه الأعمال هي لخلاصنا، هي ليست مشهداً نراه ويختفي. كم نحن بحاجة إلى كهنة مُصلّين، وخدّام للهيكل مُنضبطين، وأعضاء جوقة يرفعون الشعب الحاضر إلى حيث الملائكة؛ فهم مسؤولون أيضًا لأنّهم فم الشعب الذي يوافق على كلّ ما يقوم به الكاهن لكي تُصبح هذه الليتورجيّة تناغماً إِلهيّاً وتسبيحاً شاروبيميّاً... وتُضحي كنائسنا ورعايانا، في كلّ مرّة نقيم فيها القدّاس، محلّاً سماويّاً... رحباً كبطن والدة الإله التي وسعت الحاوي الكلّ في أحشائها، آمين.