الأحد 14 أيّار 2017

الأحد 14 أيّار 2017

14 أيار 2017
 
 
الأحد 14 أيّار 2017             
العدد 20
 
أحد السامريّة 
 
اللَّحن الرّابع        الإيوثينا السابعة
 
* 14: أحد السامريّة، إيسيذورس المستشهَد في خيو، ثارابوندُس أسقف قبرص، * 15: بخوميوس الكبير، أخلِّيوس العجائبيّ (لارسا) * 16: البارّ ثاوذورس المتقدِّس، * 17: الرَّسولان أندرونيكوس ويونياس، * 18: الشّهداء بطرس ورفقته، القدّيسة كلافذيَّة، * 19: الشّهيد باتريكيوس أسقف برصة، الشّهداء ثلالاوس ورفقته، نقل عظام القدّيس نيقولاوس، ليديا بائعة الأرجوان.
 
تأسيس كنيسة أنطاكيا العظمى
نقرأ هذا الأحد، من سفر أعمال الرسل، عن تأسيس كنيسة أنطاكيا، عاصمة المقاطعة السوريّة والمدينة الثالثة عالميًّا، وعن تحوّلها إلى مركزٍ للكرازة بالمسيح يسوع إلى جميع الأمم. وإنّنا نجد في هذا المقطع معلومات تاريخيّة ثمينة جدًّا عن تلك الفترة:
 
أوّلاً، لقد أسّس الجماعةَ المسيحيّةَ في أنطاكيا اليهودُ الهلينستيّون من أهل الشتات، من قبرص وقيرينيا، الذين لجأوا إلى أنطاكيا بسبب من اضطهاد اليهود للرسل والجماعة الأولى، وبدأوا بمخاطبة اليونانيّين مبشّرين إيّاهم بالمسيح.
ثانيًا، من أجل تمتين الجماعة الحديثة في أنطاكيا، بعث الرسل ببرنابا القبرصيّ من أورشليم، فقاد الجماعة بوعظه وإرشاده بالروح القدس العامل فيه وبإيمانه القويّ. لقد شكّل عمل الرسول برنابا المرحلة الثانية من تبشير العاصمة السوريّة العظمى.
 
ثالثًا، لقد استطاع برنابا أن يُقنع بولسَ بالمجيء إلى أنطاكيا والانضمام إليه، حيث أمضيا سنةً كاملةً في العمل التبشيريّ.
 
رابعًا، في أنطاكيا دُعي التلاميذ لأوّل مرّة “مسيحيّين”.
 
ويحرص لوقا الإنجيليّ على تأكيد أنّ نجاح البشارة يعود إلى يد الربّ التي كانت مع التلاميذ المبشِّرين.
وبينما قام يهود الشتات بتبشير الأمميّين، انحصر نشاط اليهود الأورشليميّين بتبشير اليهود من أهل
فينيقيا وقبرص وأنطاكيا. وهذه المعلومة عن تبشير
 المدن الفينيقيّة، أي ساحل مقاطعة سوريّا الوسطى الممتدّ من عكّا جنوبًا ولغاية النهر الكبير شمالاً، تُطلعنا على تأسيس جماعة مسيحيّة في عكّا وصور وصيدا، استكمالاً لنشاط الربّ يسوع التبشيريّ فيها، كما توضح المعلومة وجود إخوة كثيرين في هذه المدن حين زارها الرسول بولس في ما بعد، إمّا لوحده أو مع برنابا الرسول (أع ١٥: ٣؛ ٢١: ٣-٤. ٧؛ ٢٧: ٣).
 
هل نعرف أسماء الذين بشّروا أوّلاً أمميّي أنطاكيا؟ لا يخبرنا هذا السرد عنهم، لكن يذكر الإنجيليّ لوقا، من بين أسماء قادة الكنيسة في أنطاكيا، اسم لوكيوس القيرينيّ (أع ١٣: ١). ولعلّ نجاح عمل لوكيوس البشاريّ في أنطاكيا، منذ بداءته، وموهبة التعليم التي تميّز بها أهّلاه للجلوس بين طغمة الأنبياء والمعلّمين فيها. وربّما كان سمعان الذي يُدعى نيجر (أي الأسود) هو أيضًا قيرينيًّا.
 
ثمّ ينتقل السرد إلى إخبارنا عن المرحلة الثالثة من تبشير أنطاكيا. توجّه برنابا إلى طرسوس باحثًا عن شاول هناك، وهو كان من قرّبه قبل ذلك من الرسل والإخوة في أورشليم (أع ٩: ٢٧)، بعد أن رأى الربّ وكلّمه وآمن به واعتمد. أتى برنابا بشاول إلى أنطاكيا لكي يعملا معًا، انسجامًا مع وصيّة الربّ الذي لم يُرِدِ التفرّد بالعمل، بل دعا تلاميذه للذهاب اثنين اثنين، لأنّه يُسرّ بالذين يخدمون بقلب واحد وفكر واحد. وحين افترق برنابا عن بولس، لم يكملا سعيهما منفردَين، بل أخذ كلّ منهما رفيقًا آخر في مسيرة البشارة (أع ١٥: ٣٨-٤٠).

 
لا شكّ بأنّ سنة عمل الرسولين برنابا وبولس في أنطاكيا كانت بمثابة سنة النعمة التي حلّت على هذه المدينة. 
 
فهذان علّما جمعًا غفيرًا فيها، وبنتيجة عملهما دُعي مؤمنو أنطاكيا “مسيحيّين”. لقد صار لمؤمني أنطاكيا شرف حمل اسم المسيح أوّلاً، وعلى منوالهم دُعي، في ما بعد، جميع المؤمنين المتأسّسين على كرازة الرسل وتعليمهم “مسيحيّين”، دلالةً على انتمائهم إلى الربّ يسوع المسيح إلهنا العظيم ومخلّصنا. مسيحيٌّ هو من أحبّ يسوع، لا بالكلام، بل بالعمل، هو من غُرس مع الربّ يسوع في موت مشابه لموته ليقوم معه ويحيا له إلى الأبد.
 
صلاتنا في هذا اليوم، ونحن نفرح بسماع سرد الرسول لوقا، في سفر أعمال الرسل، عن مجيء الإنجيل إلى أرضنا وشعبنا، أن يحفظ الربّ الإله مسيحيّي أنطاكيا الرسوليّين من جميع الأخطار والشدائد، ولا سيّما من الذئاب الخاطفة التي لا تُشفق عليهم في محنتهم. لتكن يد الربّ يسوع دائمًا مع من حملوا اسمه أوّلا، لكي يثبتوا فيه ويحيَوا له فقط، ويستمرّوا بمخاطبة الشعوب بخلاصه إلى أن يأتي.
طروباريَّة القيامة باللَّحن الرّابع
 
إنّ تلميذاتِ الربّ تعلّمن من الملاك الكرزَ بالقيامةِ البَهِج، وطَرَحْنَ القضاءَ الجَدِّيَّ، وخاطَبنَ الرُّسُلَ مفتخِراتٍ وقائلات: سُبيَ الموت، وقامَ المسيحُ الإله، ومنح العالَمَ الرَّحمةَ العُظمى.
 
طروباريَّة نصف الخمسين باللَّحن الثّامن
 
في انتصاف العيد اِسْقِ نفسي العَطْشَى من مياهِ العبادَةِ الحسنةِ أيّها المُخَلِّص. لأنّك هتفت نحو الكلّ قائلاً: من كان عطشانَ فليأتِ إليَّ ويشرب. فيا يَنبُوعَ الحياة، أيُّها المسيحُ إلهُنا المجد لك.
قنداق الفصح باللَّحن الثامن
ولَئِن كنتَ نزلتَ إلى قبر يا مَن لا يموت، إلّا أنَّك درستَ قوَّة الجحيم، وقمتَ غالباً أيُّها المسيحُ الإله. وللنسوةِ حاملاتِ الطيبِ قلتَ افرحنَ، ولِرسُلِكَ وَهبتَ السلام، يا مانحَ الواقعينَ القيام.
الرِّسالَة
أع 11: 19-30
 
ما أعظَمَ أعمالَكَ يا ربّ، كلَّها بحكمةٍ صَنعتَ.
باركي يا نفسي الربَّ
 
 
في تلكَ الأيّام، لمَّا تبدَّدَ الرُّسُلُ من أجلِ الضيقِ الذي حصَلَ بسببِ استِفَانُسَ، اجتازُوا إلى فِينيقِيةَ وقُبُرسَ وأنطاكِيَةَ وهمُ لا يكَلِّمونَ أحداً بالكلمِةِ إلاَّ اليهودَ فقط. ولكنَّ قوماً منهم كانوا قُبرُسِيِّين وقِيرِينيِّين. فهؤلاءِ، لمَّا دخَلُوا أنطاكيَةَ، أخذوا يُكلِّمونَ اليونانيّينَ مُبشِّرينَ بالربِّ يسوع، وكانت يدُ الربِّ مَعَهم. فآمنَ عددٌ كثيرٌ ورَجَعوا إلى الربّ، فبلغ خبرُ ذلك إلى آذانِ الكنيسةِ التي بأُورَشليمَ، فأرسَلُوا بَرنابا لكي يجتازَ إلى أنطاكية. فلمَّا أقبَلَ ورأى نعمَةَ الله فَرِحَ ووعَظَهم كُلَّهم بأنْ يثبُتُوا في الربِّ بعزيمةِ القلب، لأنَّه كانَ رجلاً صالحاً ممتَلِئاً مِن الروحِ القدُسِ والإيمان. وانضَمَّ إلى الربِّ جمعٌ كثيرٌ. ثمَّ خرَجَ بَرنابا إلى طَرسُوسَ في طلبِ شاوُل. ولمَّا وجَدَهُ أتى بهِ إلى أنطاكية، وتردَّدا معًا سنةً كامِلة في هذهِ الكنيسةِ وعلَّما جَمعًا كثيراً. ودُعِيَ التلاميذُ مَسيحيّين في أنطاكِيةَ أوّلاً. وفي تلكَ الأيّامِ انحدرَ من أورشليمَ أنبياءُ إلى أنطاكية، فقامَ واحدٌ منهم اسمُهُ أغابُوسُ فأنبأ بالروحِ أن ستكونُ مَجاعَةٌ عَظيمَةٌ على جميعِ المسكونة. وقد وَقَع ذلكَ في أيّامِ كلوديُوسَ قيصرَ، فَحَتَّمَ التلاميذُ، بحسَبِ ما يتَيسَّرُ لكلِّ واحدٍ منهم، أن يُرسِلوا خِدمةً إلى الإخوةِ الساكنِينَ في أورَشليم، ففعلوا ذلكَ وبعثوا إلى الشُيوخِ على أيدي بَرنابا وشَاوُلَ.
الإنجيل
يو 4: 5-42 
 
في ذلك الزمانِ أتى يسوعُ إلى مدينةٍ منَ السامرَةِ  يُقالُ لها سُوخار، بقُربِ الضيعةِ التي أعطاها يعقوبُ ليُوسُفَ ابنِهِ. وكانَت هُناك عينُ يعقوب. وكانَ يسوعُ قد تعِبَ مِنَ المَسير، فجلَسَ على العين، وكانَ نحوُ الساعةِ السادسة. فجاءتِ امرأةٌ منَ السامِرةِ لتستَقيَ ماءً. فقال لها يسوعُ: أعطيني لأشرَبَ- فإنَّ تلاميذَهُ كانوا قد مضَوا إلى المدينةِ ليَبْتاعوا طعاماً- فقالت لهُ المرأةُ السامريّة: كيفَ تَطلُبُ أن تشربَ مِنيِّ وأنتَ يهوديٌّ وأنا امرأةٌ سامريَّةٌ، واليهودُ لا يُخالِطونَ السامِريِّين؟ أجابَ يسوعُ وقالَ لها: لو عَرَفتِ عَطيَّةَ اللهِ ومَن الذي قال لكِ أعطيني لأشربَ، لَطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حيّاً. قالت له المرأةُ: يا سيِّدُ إنَّهُ ليسَ معكَ ما تستقي بهِ والبئْرُ عميقةٌ، فَمِنْ أين لك الماءُ الحيُّ؟ ألعلَّكَ أنتَ أعْظَمُ مِنْ أبينا يعقوبَ الذي أعطانا البئرَ، ومنها شَرِبَ هو وبَنوهُ وماشيتُهُ؟! أجابَ يسوعُ وقالَ لها: كلُّ من يشرَبُ من هذا الماءِ يعطشُ أيضاً، وأمَّا مَن يشربُ من الماءِ الذي أنا أُعطيهِ لهُ فلن يعطشَ إلى الأبد، بَلِ الماءُ الذي أُعطيه لهُ يصيرُ فيهِ يَنبوعَ ماءٍ يَنبُعُ إلى حياةٍ أبديّة. فقالتْ لهُ المرأةُ: يا سيِّدُ أَعطِني هذا الماءَ لكي لا أعطشَ ولا أجيءَ إلى ههنا لأستقي. فقالَ لها يسوعُ: إذهبي وادْعِي رجُلَكِ وهَلُمِّي إلى ههنا. أجابتِ المرأةُ وقالت: إنَّهُ لا رجُلَ لي. فقال لها يسوعُ: قد أحسَنتِ بقولِكِ إنَّهُ لا رجُلَ لي. فإنَّهُ كان لكِ خمسَةُ رجالٍ والذي معَكِ الآنَ ليسَ رَجُلَكِ؛ هذا قُلتِهِ بالصِّدق. قالت لهُ المرأة: يا سيِّدُ، أرى أنَّكَ نبيٌّ. آباؤنا سجدوا في هذا الجَبلِ وأنتم تقولون إنَّ المكانَ الذي ينبغي أن يُسجَدَ فيهِ هُوَ في أورشليم. قال لها يسوعُ: يا امرأةُ، صدِّقيني، إنَّها تأتي ساعةٌ لا في هذا الجبلِ ولا في أورَشَليمَ تسجُدونَ فيها للآب. أنتم تسجُدونَ لما لا تعلمون ونَحنُ نسجُدُ لما نعلَم، لأنَّ الخلاصَ هُوَ منَ اليهود. ولكن، تأتي ساعة -وهيَ الآنَ حاضِرَة- إذِ الساجدونَ الحقيقيُّونَ يَسجُدونَ للآبِ بالروح والحقّ. لأنَّ الآبَ إنَّما يطلُبُ الساجدينَ لهُ مِثلَ هؤلاء. اللهُ روحٌ والذين يسجُدون لهُ فبالروح والحقّ ينبغي أن يسجُدوا. قالت لهُ المرأةُ: قد عَلِمتُ أنَّ مَسيَّا، الذي يقالُ لهُ المسيح، يأتي. فمَتى جاءَ ذلك فهُوَ يُخبرُنا بكُلِّ شيءٍ. فقال لها يسوعُ: أنا المتكلِّمَ مَعَكِ هُوَ. وعندَ ذلكَ جاءَ تلاميذهُ فتعجَّبوا أنَّهُ يتكلَّمُ مَعَ امرأةٍ، ولكِنْ لم يَقُلْ أحدٌ ماذا تطلُبُ؟ أو لماذا تتكلَّمُ مَعَها؟ فترَكتِ المرأة جرَّتها ومضَتْ إلى المدينةِ وقالت للناس: أُنظروا إنساناً قالَ لي كُلَّ ما فعلتُ. ألعلَّ هذا هُوَ المسيحُ؟! فخرجوا من المدينة وأقبلوا نحوَهُ. وفي أثناء ذلكَ سألَهُ تلاميذُهُ قائلينَ: يا مُعلِّمُ كُلْ. فقالَ لهم: إنَّ لي طعاماً لآكُلَ لستم تعرِفونهُ أنتم. فقالَ التلاميذُ فيما بينهم: ألعلَّ أحداً جاءَهُ بما يَأكُل؟! فقالَ لهم يسوعُ: إنَّ طعامي أنْ أعمَلَ مشيئَةَ الذي أرسلَني وأُتَمِّمَ عملَهُ. ألستم تقولون أنتم إنَّهُ يكونُ أربعةُ أشهرٍ ثمَّ يأتي الحَصاد؟ وها أنا أقولُ لكم إرفعُوا عيونَكم وانظُروا إلى المزارع، إنَّها قدِ ابيضَّتْ للحَصاد. والذي يحصُدُ يأخذُ أجرةً ويجمَعُ ثمراً لحياةٍ أبدَّية، لكي يفرَحَ الزارعُ والحاصدُ معًا.
 
ففي هذا يَصْدُقُ القولُ: إنَّ واحداً يزرَعُ وآخرَ يحصُد. إني أرسلتُكُم لتحصُدوا ما لم تتعَبوا أنتم فيه. فإنَّ آخَرينَ تَعِبوا وأنتُم دخلتُم على تَعبِهم. فآمنَ بهِ من تلكَ المدينةِ كثيرونَ مِنَ السامريِّينَ من أجلِ كلامِ المرأةِ التي كانت تشهَدُ أن قدْ قالَ لي كلَّ ما فعلْت. ولمَّا أتى إليهِ السامريُّونَ سألوهُ أن يقيمَ عِندهُم، فمكَثَ هناكَ يومين. فآمنَ جَمعٌ أكثرُ من أولئكَ جدّاً من أجل كلامِهِ، وكانوا يقولونَ للمرأةِ: لسنا من أجل كلامِكِ نُؤمنُ الآنَ، لأنَّا نحنُ قد سمعْنا ونَعْلَمُ أنَّ هذا هُوَ بالحقيقَةِ المسيحُ مُخلِّصُ العالَم.
في الإنجيل
أمامنا في هذا الإنجيل حدث حوار الربّ يسوع مع المرأة السامريّة عند بئر يعقوب.
 
لا بدّ لنا، أوّلاً، من أن نذكر أنّ بين اليهود والسامريّين عداوةً مزمنة تعود جذورها إلى زمن الملك رحبعام بن سليمان الذي في عهده انقسمت المملكة إلى قسمين:
 
مملكة إسرائيل - مملكة السامرة - وعاصمتها "شكيم" 
 
مملكة يهوذا وعاصمتها "أورشليم"
 
قصّة هذا الإنقسام نجدها تفصيليّاً في سفر الملوك الأوّل الإصحاح 12. يأتي الربّ يسوع إلى سوخار، مدينة في السامرة، ويطلب من امرأة سامريّة أن تعطيه ليشرب... تُنبِّهه المرأة  السامريّة مشيرة إلى عمق القطيعة بين الشعبين: "كيف تطلب منّي لتشرب وأنت يهوديّ وأنا سامريّة، واليهود لا يخالطون السامريّين؟" (يو 4: 9). يتدرّج الحوار بينهما إلى الإعتراف بأنّ يسوع هو السيّد الربّ والمسيح – الإله.
 
ترغب المرأة السامريّة، أوّلاً، في التعلّم معه: "يا سيّد إنّه ليس معك ما تستقي به..."، ومن ثَمَّ تعود وتطلب منه ماء الحياة "يا سيّد أَعطني هذا الماء...."، وتعترف به أنّه نبيّ" يا سيّد أرى أنّك نبيّ...."؛ وبعدها يبدأ الكلام على السجود والعبادة.
 
السامريّون كانوا يعبدون الله على جبل "جرزيم" واليهود في أورشليم"  اقرأالمزيد في 1 ملوك 12).
 
وأخيراً، تؤمن المرأة به أنّه= المسيّا وتعلن  لشعبها "تعالَوا انظروا أنّ سيّداً قال لي كلّ ما فعلت، ألعلّ هذا هو المسيح؟"؛ فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامرييّن لأنّهم علموا أنّ هذا بالحقيقة المسيح مخلّص العالم" (يو 4: 42).
 
العبادة الحقيقيّة هي "بالروح والحقّ" (يو 4: 23). المؤمن هو عابد لله بالروح والجسد، يعبد الله بكلّ كيانه. يُقرّ بأنّه هو السيّد الوحيد على حياته كما حصل مع توما الرسول؛ فبعد قيامة المسيح من بين الأموات وظهوره ثانية لتلاميذه، يسجد توما بعد التدقيق ويقول "ربّي وإلهي" (يوحنّا 20: 28)، سيّدي ومخلّصي.
 
إذ تعيش الكنيسة، في هذه الفترة الفصحيّة، فرح قيامة الربّ يسوع المسيح من بين الأموات، تصرخ بأفواه عابدة لله بالروح والحقّ معلنة، مع المرأة السامريّة التي أضحت القدّيسة فوتيني، أنّ الذي مات وقام "هو بالحقيقة المسيح مخلّص العالم" (يو 4: 42).
الساجدون أم امكنةُ السجود؟! 
يُعتبر هذا المقطع الإنجيليّ من أغزر المقاطع الإنجيليّة التي تُتلى في آحاد سنتنا الطقسيّة، مضموناً وعمقاً. فالذهبيّ الفم قد فسّره بخمس عظات شكّلت مؤلَّفاً كاملاً من مؤلّفاته. كما أنّ كيريلّس الإسكندريّ قد استعان، في تعليقه على الآية 24 من هذا المقطع (اللهُ روحٌ...)، بمؤلَّفٍ واسعٍ احتَلَّ جزءًا كاملاً (الجزء 69) من سلسلةِ الآباءِ الهلّينيّين.
 
المسألة التي يناقشُها السيّدُ مع السامريّة مسألةُ مكانِ السجودِ لله. فاليهودُ يحصرون السجودَ لله في هيكلِ أورشليمَ بحسب وصيّةِ الله في العهد القديم. بينما كان السامريّون يسجدون لله ويذبحون له في عدّةِ أمكنةٍ دون أورشليم، وذلك بسبب الخلافِ التاريخيِّ الدمويِّ الذي كان بين مملكة السامرة ومملكةِ يهوذا.
 
فالمرأةُ اعتبرت أنَّ السجودَ"في هذا الجبل" (غريزين) شرعيٌّ وفيه سجدَ الآباءُ، أمّا اليهودُ فاعتبروا أنّ كلَّ سجودٍ وذبيحةٍ يُقدَّمان في غير أورشليمَ هما غيرُ شرعيَّين. تجاه هذا الخلافِ المكانيِّ، والذي يخفي خِلافاً تاريخيّاً، عقائديًّاً وناموسيًّا، جاء يسوعُ، كعادتِه، ليطرحَ جِدَّةَ فكرِه وعهدِه لهذه المرأة: "إنّ الساجدين الحقيقييّن يسجدون للآبِ بالروح والحقِّ، لأنّ الآبَ إنمّا يطلبُ الساجدين له مثلَ هؤلاء. الله روحٌ والذين يسجدونَ له فبالروحِ والحقَّ ينبغي أن يسجدوا". ينقل يسوعُ ثِقلَ المسألةِ من مكان السجود إلى الساجدين: "تأتي ساعةٌ لا في هذا الجبل ولا في اورشليمَ تسجدون فيها للآب". استقامةُ السجودِ لا تكمنُ في المكانِ بل في الإنسانِ الساجدِ، فكلُّ الأرض المسكونة هي أمكنةُ سجودٍ إذا ما وُجدَ الساجدُ الحقيقيُّ.
 
هذا ما كانت عليه الكنيسةُ قبل بناءِ الكنائس، إضافة إلى أنّ قبرَ الشهيد كان المذبحَ الذي يلتقي حولَه المؤمنون لإقامةِ الذبيحةِ الإلهيّةِّ في ذكرى استشهادِ هذا الشهيد أو ذاك. هذا يعني أنّ ذروةَ السجود كانت في دمِ الشهيد الذي هو صورةٌ عن دمِ المسيحِ المسفوكِ على الصليب والذي على أساسِه شُكّلتْ أسسُ الكنيسة، في أيّ مكان وُجدَتْ فيه.
 
الإنسانُ هو القيمةُ الأكثر سُموًّا في العبادةِ وله تُسخَّر كلُّ الأمكنةِ وكلُّ الإبداعات البنائيّة. فهو الذي يرفعُ العبادة لله وهو الذي يتقدّسُ بها وتُقدَّسُ، من خلاله، المعمورةُ كلّها. إذا ما وُجِدَ الساجدُ وُجدتِ العبادةُ المستقيمةُ. المباني والحجارةُ وكلُّ ما فيها لا تقدّمُ عبادةً لله، بل هي إطارٌ مكانيٌّ مقدّسٌ أوجدته الظروف التاريخيّة لخدمةِ عبادةٍ يُقيمها الإنسانُ الساجدُ "للآب بالروح والحقِّ". الإنسان المتقدِّسُ هو القناةُ التي تعبرُ من خلالها قداسةُ الآب وقداسةُ الحقِّ وقداسة الروحِ لتقدّس دُورَ العبادةِ وكلّ الأمكنة. هذا ما يؤكّده تاريخُ بناءِ الكنائسِ عبر الأزمنة. فتَشكُّلُ هندسةِ أبنيةِ العبادةِ إنّما جاءَ ليخدمَ الإنسان الساجدَ في ليتورجيّته العباديّة للآب وليس العكس. فكلّ بناءٍ كنسيّ لا يراعي حاجاتِ الساجدين العباديّة، في المكان والزمان، ويبقى أسيرَ أشكال بنائيّة سابقةٍ لزمانه وغريبةٍ عن مكانه، أسيرَ حضارةٍ مهما بلغتْ روعةُ هذه الحضارة، كلُّ بناءٍ كنسيٍّ كهذا يجعلُ الساجدين في خدمة الأبنيةِ لا الأبنيةَ في خدمة الساجدين.
 
البناءُ الكنسيُّ ليس متحفاً يخلّدُ آثارَ حضارة قديمة بل هو مكانُ عبادةٍ لا يتنكّرُ لما في التراث والتاريخ بل ينقله إبداعاً إلى حاضرنا ليكونَ في خدمة الساجدين للآب في "الآن" وفي الـ "هنا". إنّ التمسّك الجامدَ بالماضي الحضاريّ المجيد يُقصي المجدَ الإلهيَّ عن حاضرنِا، ويقضي على إبداعاتِ الروحِ في هذا الحاضرِ وفي حضارِته.