الأحد 31 أيَّار 2015

الأحد 31 أيَّار 2015

31 أيار 2015
 
الأحد 31 أيَّار 2015        
العدد 22
 
 أَحَدُ العَنْصَرَة المُقَدَّس
 
* 31: أحد العَنْصَرَة المُقَدَّس، الشَّهيد هرميوس، صلاة السَّجْدَة. * 1: إثنين الرُّوح القُدُس، الشَّهيد يوستينوس الفيلسوف. * 2: نيكيفورس المُعْتَرِف رئيس أساقفة القسطنطينيَّة. * 3: الشَّهيد لوكليانوس، الشَّهيدة بَاڤْلَا. * 4: مِطْرُوفَانِس رئيس أساقفة القسطنطينيَّة، مريم ومرتا أُخْتَا لَعَازَر. * 5: الشَّهيد دوروثاوس أسقف صور. * 6: وداع العَنْصَرَة، إيلاريون الجديد رئيس دير الدَّلْمَاتُن، الشَّهيد غلاسيوس.
 
كنيسةُ الــــحـَـقِّ
"قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «مَا هُوَ الْحَقُّ؟». وَلَمَّا قَالَ هذَا خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً" (يو 18: 38).
لكن، بيلاطس أَسْلَمَ يسوع إلى أَيْدِي اليهود، أَسْلَمَهُ للصَّلْبِ والموت. لم يكن مستعدًّا أن يخسَرَ شيئًا من أجل "الحقّ"، لأنّ "روح الحقِّ" لم يكن ساكِنًا فيه بل التّمَسُّك بروح سلطان العالم. كان لا يريد أن يتحمَّل مسؤوليَّة الحقّ، فغسل يَدَيْهِ ليرفَعَ عنه الذَّنْبَ، في نَظَرِه، فيكون "بريئًا من دم هذا الصِّدِّيق" (مت 27: 24). هل تبرَّأ حقًّا؟!...
 
* * *
 
"وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ" (يو 14: 16 و17).
 
المؤمنونَ بالمسيحِ سَكَنَ فيهِم روحُهُ القُدُّوس. صارُوا هيكلَ اللهِ وكلمَتَهُ المَنْطُوقَة بروحِه... صارُوا مِنَ "الحقّ"، لأنّ "الحقّ" صارَ حياتَهُم. وإذا كانَ الحقُّ غير مقبول، وروحه أيضًا، فهل أبناءُ الحقِّ مقبولونَ من العالم؟!... لكن، هم ليسوا يائِسِين بل هم أبناء الرَّجاء...
 
* * *
 
"أيُّهَا المَلِكُ السَّمَاوِيُّ المُعَزِّي روحُ الحقِّ...". دُعاءٌ وابْتِهَالٌ نَبْدَأُ به كلّ صلواتنا، لأنَّ العبادة يجب أن تـكـون "بـالـرُّوح والـحـقّ" (أنظر يو 4: 23 و24)، وإلَّا اسْتَحَالَت عبادَة باطِل... وما أكثر ما يَخدَعُ الإنسانُ نفسَه في علاقتِه مع اللهِ ظانًّا أنَّه يعبُدُه في البِرِّ والتَّقْوَى، ولكنَّهُ يكونُ هارِبًا من وَجْهِ اللهِ في وَجْهِ إلهٍ يخترِعُه جُبْنُه، إذ يُخْفِقُ في وَضْعِ الحَقِّ فوق كلِّ اعتبارٍ وفوقَ كلِّ إنسانٍ وخوف...
 
* * *
 
"وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللهِ مَعْمُولَةٌ" (يو 3: 21). مَنْ يُؤْمِنُ بالمسيحِ حَقَّانِيًّا، يُغَلِّبُ كلمةَ المسيحِ على كلِّ نِيَّةً ومَيْلٍ، لَدَيْهِ، يَأْتِيَانِ مِنْ حِكمةِ هذا العالمِ ومِنْ حساباتِه... الرَّبُّ هو السَّيِّدُ، وهو قادِرٌ أن يُجرِيَ كَلِمَتَهُ. لكن، "وَيْلٌ لِمَنْ تَأْتِي عَنْ يَدِهِ العَثَرَات..." (أنظر مت 18: 7 ولو 17: 1). 
 
*   *   *
 
"وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ" (يو 8: 32).
يُرْضِي اللهَ مَنْ كانَ مِنَ الحَقِّ، أي مَنْ كانَ حُرًّا بالحقِّ وفيه. وَمْن كانَ مِنَ الحقِّ هو الَّذي يَفحَصُ أعماقَهُ على الدَّوامِ في ضَوْءِ الكلمةِ الإلهيَّة. وَمَنْ كانَ كذلك، أَبْصَرَ النَّاسُ نورَهُ وأَحَبُّوا أعمالَهُ لأنَّهَا "باللهِ مَعْمُولَة" لِتَعْزِيَةِ المَسَاكِينِ والحَزَانَى والمُتَأَلِّمِين، وللشَّهادَةِ للحقيقةِ الإلهيَّةِ بانفتاحٍ ودونَ تَسْوِيف...

 
*  * *
 
"كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْدًا بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟" (يو 5: 44).
 
* * *
 
كنيسةُ الحقِّ هي مَنْ كانَ رُعَاتُهَا يَعْمَلُونَ كلَّ شيءٍ لمجدِ اللهِ ولا يَقْبَلُونَ مَجْدًا مِنْ أَحَدٍ، بَلْ يَرْفَعُونَ المجدَ والحمدَ والشُّكْرَ للثَّالوثِ القُدُّوسِ وحده، في اسْتِقَامَةِ تَمْييزٍ وتدبيرٍ لرعيَّة المسيح، حفاظًا عليها في الحقَّ والأَمَانَةِ لسُلَالَةِ الشُّهُودِ الَّذين حَفِظُوا الإيمانَ من الرُّسلِ إلى يومنا هذا...
كنيسةُ المسيحِ لا مكانَ فيها للبَاطِلِ، هي لا تَمُجُّهُ، فقط، بل تفرِزُهُ عن جسمِهَا، لأنّ الرّبّ قال: "كلّ غصن لا يأتي بثمر يقطعه ويلقيه في النّار" (راجع يو 15: 2 و6).
 
*        *       *
 
الكنيسة الّتي أنجبها السَّيِّد، سرِّيًّا على  الصَّليب، من جنب جسده المكسور حبًّا، هي الّتي وُلِدَت في العنصَرَة لتكونَ حواءَ الجديدةَ الّتي أَتَت من ضلعِ آدمَ الجديد في سُبَاتِ جسد الحُّبِّ الإلهيِّ، لِتَلِدَ بَنِينَ وبَنَاتٍ للهِ من "الكلمة المَبذُور" في جوهرِ الخليقةِ الجديدَة، الَّتي لا مكانَ فيها للباطِلِ بل هي أيقونةُ الحقِّ، عُربُون الدَّهر الآتي... إنَّها مَطْرَحُ العَنْصَرَة السَّرمديَّة...

 
طروباريَّة العَنْصَرَة باللَّحن الثَّامِن
 
مُبَارَكٌ أَنْتَ أَيُّهَا المَسِيحُ إِلَهُنَا، يَا مَنْ أَظْهَرْتَ الصَّيَّادِينَ غَزِيرِي الحِكْمَة إِذْ سَكَبْتَ عَلَيْهِمِ الرُّوحَ القُدُس، وَبِهِمِ اصْطَدْتَ المَسْكُونَة، يَا مُحِبَّ البَشَرِ، المَجْدُ لَك.
 
قنداق العَنْصَرَة  باللَّحن الثَّامِن
 
عِنْدَمَا نَزَلَ العَلِيُّ مُبَلْبِلًا الأَلْسِنَة كانَ للأُمَمِ مُقَسِّمًا. ولمَّا وَزَّعَ الأَلْسِنَةَ النَّارِيَّةَ دَعَا الكُلَّ إلى اتِّحَادٍ واحِدٍ. لذلكَ، باتِّفَاقِ الأَصْوَاتِ، نُمَجِّدُ الرُّوحَ الكُلِّيَّ قُدْسُهُ.
 
الرِّسَالَة
أع 2: 1 - 11
إلى كُلِّ الأرضِ خَرَجَ صَوْتُهُم  السَّماواتُ تُذِيعُ مَجْدَ الله
 
لمَّا حَلَّ يومُ الخمسين، كانَ الرُّسُلُ كُلُّهُم معًا في مكانٍ واحِدٍ. فَحَدَثَ بَغْتَةً صوتٌ من السَّماءِ كصوتِ ريحٍ شديدَةٍ تَعْصِفُ، ومَلَأَ كلَّ البيتِ الَّذي كانُوا جالِسِينَ فيهِ، وظَهَرَتْ لهُم أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا من نارٍ، فاسْتَقَرَّتْ على كُلِّ واحِدٍ منهم، فامْتَلَأُوا كلُّهُم من الرُّوحِ القُدُسِ، وطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ أُخْرَى، كما أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا. وكانَ في أورشليمَ رجالٌ يهودٌ أتقياءُ من كلِّ أُمَّةٍ تحتَ السَّمَاءِ. فلمَّا صارَ هذا الصَّوْتُ اجْتَمَعَ الجُمْهُورُ فتَحَيَّرُوا لِأَنَّ كلَّ واحِدٍ كانَ يَسْمَعُهُم يَنْطِقُون بلُغَتِهِ. فدُهِشُوا جميعُهُم وتعجَّبُوا قائِلِينَ بعضُهُم لبعضٍ: أَلَيْسَ هَؤُلَاءِ المُتَكَلِّمُونَ كلُّهُم جَلِيلِيِّين؟ فكَيْفَ نَسْمَعُ كُلٌّ منَّا لُغَتَهُ الَّتي وُلِدَ فيها، نحنُ الفِرْتِيِّينَ والمَادِيِّينَ والعِيلَامِيِّينَ، وسُكَّانَ ما بينِ النَّهْرَيْنِ واليَهُودِيَّةِ وكَبَادُوكِيَةَ وبُنْطُسَ وآسِيَةَ وفْرِيجِيَّةَ وبَمْفِيلِيَةَ ومِصْرَ ونواحِي لِيبِيَةَ عند القَيْرَوَان، والرُّومانِيِّينَ المُسْتَوْطِنِينَ، واليَهُودَ والدُّخَلَاءَ والكْرِيتِيِّين والعَرَبَ، نسمَعُهُم يَنْطِقُونَ بأَلْسِنَتِنَا بعَظَائِمِ الله!.
 
الإنجيل
يو 7: 37 - 52
 
في اليومِ الآخِرِ العظيمِ من العيد، كانَ يسوعُ واقِفًا فَصَاحَ قائِلًا: إن عَطِشَ أحدٌ فَلْيَأْتِ إِلَيَّ ويَشْرَب. من آمنَ بي، فكما قالَ الكتابُ ستَجْرِي من بطنِهِ أنهارُ ماءٍ حَيٍّ. (إنَّمَا قالَ هذا عن الرُّوحُ الَّذي كانَ المؤمنونَ به مُزْمِعِينَ أنْ يَقْبَلُوهُ إذ لم يَكُنِ الرُّوحُ القُدُسُ قد أُعْطِيَ بعدُ، لأنَّ يسوعَ لم يَكُنْ بعدُ قد مُجِّدَ). فكثيرونَ من الجمعِ لمَّا سَمِعُوا كلامَهُ قالُوا: هذا بالحقيقةِ هو النَّبِيُّ. وقالَ آخَرُون: هذا هو المسيحُ، وآخَرُونَ قالُوا: أَلَعَلَّ المسيحَ من الجليلِ يأتي!. أَلَمْ يَقُلِ الكتابُ إنَّه، من نسلِ داودَ، من بيتَ لَحْمَ القريةِ حيثُ كانَ داودُ، يأتي المسيح؟. فحَدَثَ شِقَاقٌ بينَ الجمعِ من أجلِهِ. وكانَ قومٌ منهم يُرِيدُونَ أنْ يُمْسِكُوهُ، ولكِنْ لم يُلْقِ أحدٌ عليه يدًا. فجاءَ الخُدَّامُ إلى رؤساءِ الكهنَةِ والفَرِّيسيِّينَ، فقالَ هؤُلَاءِ لهُم: لِمَ لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟ فأجابَ الخُدَّامُ: لم يتكلَّمْ قَطُّ إنسانٌ هكذا مِثْلَ هذا الإنسان. فأجابَهُمُ الفَرِّيسيُّون: أَلَعَلَّكُم أَنْتُم أيضًا قد ضَلَلْتُم!. هل أحدٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أو مِنَ الفَرِّيسيِّينَ آمَنَ بِهِ؟. أمَّا هؤلاءِ الجَمْعُ الَّذينَ لا يَعْرِفُونَ النَّامُوسَ فَهُم مَلْعُونُون. فقالَ لهم نِيقودِيموُسُ الَّذي كانَ قد جاءَ إليه ليلًا وهُوَ واحِدٌ منهم: أَلَعَلَّ نامُوسَنَا يَدِينُ إنسانًا إنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أوَّلًا ويَعْلَمْ ما فَعَلَ!. أجابُوا وقالُوا لهُ: أَلَعَلَّكَ أنتَ أيضًا من الجَليل!، إِبْحَثْ وانْظُرْ، إنَّهُ لَمْ يَقُمْ نبيٌّ مِنَ الجَليل. ثُمَّ كَلَّمَهُم أيضًا يسوعُ قائِلًا: أنا هُوَ نُورُ العَالَمِ، مَنْ يَتْبَعْني فلا يمشِي في الظَّلامِ، بل يَكُونْ لهُ نورُ الحياة.
 
في الإِنجيل
 أَحَدُ العَنْصَرَة
 
قِصَّةُ العَنْصَرَة كما يَرويها كاتبُ سفرِ أعمالِ الرّسل مُعَبِّرَة جدًّا. فهي تتكلّم على:
1. حلول الرّوح القدس على الكنيسة كلّها. فالنصّ في أصله يتحدّث على الجماعة كلّها. فالمقطع السّابق، الَّذي يتكلّم على اختيار مَتِّيَّا رسولًا ثانيَ عَشَرَ بدلًا من يهوذا الإسْخَرْيُوطِيّ، يبتَدِئ بذِكر الجماعة كلّها: "وفي تلك الأيّام قام بطرس في وسط التّلاميذ ـ وكان هناك جمع عدد أسمائهم معًا نحو مئة وعشرين ـ فقال: ...". ومن ثمّ يأتي المقطع الَّذي يتكلّم على حلول الرّوح القدس على هذا الجمع: "ولمّا حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنَفْسٍ واحِدَة. وصار بَغْتَة من السّماء صوت كما من هبوب ريح عاصِفَة ... وامتلأ الجميع من الرّوح القدس، وابتَدَأُوا يتكلَّمُون بألسنة أُخْرَى ...". ولكن فاتِحَةَ هذا المقطع، كما يُقْرَأُ في الكنيسة، تُقَدِّم لنا قراءة للنَّصّ، هكذا: "لمّا حلّ يوم الخمسين كان الرّسل كلّهم معًا في مكان واحد. فحدث بغتة صوت...". فبدلًا من "الجميع"، أوردت "الرّسل". إذًا، النّصّ يتحدَّثُ، أصْلًا، على حلول الرّوح القدس على الجماعة كلّها، وامتلائهم جميعًا منه. وهو ما تكلّم عليه يسوع في إنجيله: "من آمن بي تجري من جوفه أنهار ماء حَيّ ...".
 
2. الرّوح القدس نَبْعُ وَحْدَةِ البشريّة. فعلى خلفِيَّة حادثة بلبَلَةِ الأَلْسُن أَبَّان محاولة بناء "برج بابل"، الّتي تَرِدُ في سفر التّكوين، والَّتي زادَت في تمزيق وَحْدَةِ البشريّة؛ قدَّم كاتب سفر أعمال الرّسل الصُّورة النَّقيض، حيث يَمْنَحُ روح الله البشر، من كافّة الأمم واللُّغات، أن يتواصَلُوا ويتفاهَمُوا. فحين أراد البشر أن يتَّحِدُوا في مُضَادَّة الله وتحدِّيه، تفرَّقُوا وتشتَّتُوا. أرادوا بلوغ السّماء فعجِزُوا وما وَجَدُوا إلى ذلك سبيلًا. فأَنْزَلَ اللهُ الرّوحَ السّماويَّ إلى الأرض، آتى أهل الأرض قَبَسًا من النّور الَّذي يَغْشَى السّماوات، فكان نبع وَحْدَة واجتماع. فإنّ وَحْدَة البشريّة إنّما تتأتَّى من انقيادِهِم بروحِ اللهِ للعملِ بمشيئةِ اللهِ وقَبُولِ إنجيله. وهذا ما يجعَلُهُم يتفاهَمُون بلغةٍ واحِدَة "لغة الحبّ الإلهيّ": "لأنّ محبّة الله قد انْسَكَبَت في قلوبنا، بالرّوح القدس المُعْطَى لنا" (الرّسول بولس، رو 5: 5).
 
وهذا ما عبَّرَ عنه كاتب قنداق عيد العَنْصَرَة، بقولِه: "عندما انحدرَ العَلِيُّ مبلبلًا للألسن، كان للأمم مقسِّمًا؛ ولمّا وزَّع الألسنة النّاريّة دعا الكلّ إلى اتّحاد واحِد، فلذلك نمجِّد بأصوات متّفقَة الرّوحَ الكلّيَّ قُدْسُه".
 
3. الرّوح القدس مُنْزِل الشّريعة الجديدة في قلوب أبناء الله. لقد كان عيد العَنْصَرَة، في اليوم الخمسين بعد الفصح، تَذْكَارًا لإعطاء الشّريعة في سيناء على يد موسى. وأعمدة الشّريعة الموسويّة هي الوصايا العشر الَّتي دُوِّنَت على لوحَين حجريَّيْن. لذا، كان ذلك اليوم هو اليوم الأنسب لحلول الرّوح القدس على الكنيسة، فيدوِّنُ "شريعة الله الجديدة"، "شريعة المحبّة"، في القلوب وليس على ألواح حجريَّة، بحسب قول الرّسول بولس: "مكتوبة بروح الله الحيّ، لا في ألواح حجريَّة بل في ألواح قلب لحميّة" (2 كو 3 : 3).
وهذا ما اسْتَوْحَتْهُ ترانيمُ سَحَرِ العيد: "إنَّ الأَلْكَنَ اللِّسَان (أي موسى) لمّا انْحَجَبَ في الغَمَامِ الإلهيّ، كَرَزَ بالشّريعة المدوَّنَةِ من الله ..."، "يا أولادَ البِيعَةِ المُنِيرِيِّ الشَّكل، إِقْبَلُوا نَدَى الرّوحِ المُتَنَسِّمِ نارًا، ... لأنّ الشّريعة قد خَرَجَت الآن من صِهْيَون بشكلِ أَلْسِنَةٍ نارِيَّة، الَّتي هي نعمةُ الرُّوحِ القُدُس".
 
مجالس العَزاء عندنا (رأيٌ نقديّ)
 
إنّ الجماعة الّتي نؤلِّفُ باسم يسوع المسيح، والَّتي بروحها نقول إنّنا واحدٌ، هي صَنيعةُ المحبّة الَّتي فاضَت من جنب السّيّد على الصّليب دمًا زكيًّا مُهراقًا به تمّت صياغة الكنيسة. ولهذه المحبّة ما يعبِّر عنها ويترجمها. ومن ترجماتها قد تكون -ولِمْ لا- التّعازي الَّتي نتبادلها فيما بيننا في الشَّدائد والأحزان. فالكنيسة الَّتي نحن أعضاؤها هي مقام التّعزيات بامتياز، فيها نتبادل التّعازي لنقول، أوّلًا وآخِرًا، إنّنا نحبّ بعضنا بعضًا بالمسيح الذي أحبّنا أوّلًا. أجل، نحن، أبناءَ كنيسةٍ، نعزّي بعضُنا بعضًا والَّذي يُعزّينا جميعًا واحدٌ وهو الرُّوح القدس. هذا الرُّوح القدس هو الَّذي به تُحَاكُ رحماتُ الله خيوطًا رقيقة لا تلحظها الطّبيعة البشريّة ولا العقل البشريّ، ولكن يلمُسُها الإنسان المصلّي بشفاعاتٍ وأنَّاتٍ لا تُوصَف. هذا الرُّوح القدس هو الَّذي باستدعائه تُسْتَهَلُّ كلّ صلاة من صلواتنا: "أيُّها الملك السّماويّ المُعَزِّي..." أجل، نحن قائمون في تعزيات تهبط علينا من فوق وتشدّدنا في ضيقاتنا والأحزان. تُبَلْسِم جراحنا فنتداوى بها. يتراءى لنا في تقاسيمها وجه الإله فنُشفَى. تكتنفنا فنتقوَّى من ضَعف ونتشدّد ونتماسَك بالبّر.
 
يقول بولس في رسالته إلى أهل رومية: "...بارِكوا ولا تلعنوا. فرحًا مع الفَرحين وبُكاء مع الباكين" (رو 12/14 و15). هذه وصيّة الرسول لنا: أن نتقاسم معًا الأفراح والأحزان. إنّ هذا، في النهاية، إلّا وجهٌ من أوجه الشركة الَّتي تجمعنا بيسوع المسيح وبها نقول إنّنا واحدٌ فيه. ولعلّه، تعبيرًا عن هذه الشَّركة، كانت مجالس العزاء.
 
لسنوات غير بعيدة خَلَت، كانت مجالس العزاء عندنا أكثرَ حصريّةً وبالتّالي أكثر حميميّةً، فلا ترى فيها إلاّ من تَلقّى ورقة نعي شخصيّ تدعوه لحضور جنّاز فلان أو فلانة. وغالبًا ما كان النّعيُ يقتصر على ذوي القُربى والأصحاب الأخصّاء. يأتي المدعوّ إلى بيت الفقيد أو الفقيدة، وفي البيت يقدّم تعازيه "الحارّة" كان بوسعك أن تقول "تعازيه الحارّة" لأنهّا كانت، فعلًا، كذلك. أمّا اليومَ فتغيّرَ المشهد. عُمِّمت التّعازي. لم تعد شخصيّة فخسرت الكثير من حميميّتها، وتاليًا من حرارتها. الكلُّ يُعزّي الكلَّ، حتّى لم تَعُدِ البيوت تتّسع لمجالس العزاء، ففُتحت لها قاعات الكنائس. تدخل القاعة بقصد التّعزية فيأخذك العَجَبُ، بل يصدمكَ أن ترى أنّ الغائب الأوّل عن مجلس العزاء هو العزاء نفسه، وأانّ الحاضِر الأوّل فيه هو أشياءُ أُخرى لا تَمُتُّ إلى العزاء بصلة، لعلّ أكثفَها حضورًا "السَّيَران" كي لا نقول "الثَّرثرة". وجوهٌ حائِرَة يستعرض بعضها بعضًا في شريط مُمِلّ لا يخلو من السُّخف في كثير من الأحيان. تأخذ ناحيةً في القاعة فيها لوحدك، إلَّا إذا وّفقتك الصّدفة بجار يُبادلُك أطراف الحديث ويرفع عنك عبء الشّعور بطول الوقت، مع أنّه برهةٌ لا يتعدّى أقصاها ربع السّاعة.
 
طبعًا لسنا نستهجن انفتاح مجالس العزاء عندنا وتعميمها على هذا النّحو. فهذا له ما يبرّره، إذ انّه مرتبط، في الأخير، بالعلاقات الإجتماعيّة الَّتي باتت تحتّل حيّزًا كبيرًا من اهتماماتنا والآخِذَة، تاليًا، بالتّوسّع بعدما كانت، لزمن يَسير مضى، ضيِّقةً ومحدودة. فكلّ واحد منّا، إذا انطلق من خبرته الشّخصيّة، يلاحظ أنّ دائرة معارفه باتت أوسَع من الَّتي كانت لوالده من قبله... وهكذا. فبعدما كان العمل خارج المنزل مقتصرًا، إلى حدّ كبير، على الأب، بات اليوم أكثر شموليّة. أفراد العائلة كلّهم، تقريبًا، يعملون، وكلّ واحد منهم، في نطاق عمله، ينسج شبكة علاقات تُتَرجَمُ على الأرض تبادلًا في الواجبات الإجتماعيّة واللَّياقات. لذلك، لسنا نستهجن انفتاح مجالس العزاء عندنا على هذا النحو لأنّها، بوجه من أوجهها، تصبّ في هذه الخانة. ولسنا سُذَّجًا إلى درجةِ أن نطالب بأن تعود إلى الحصريّة الَّتي كانت عليها ماضيًا، مع أنّنا نأسف لكونها خسرت الكثير من حرارتها بسبب فقدانها الكثير من حميميّتها. لكنّنا نتمنَّى، وهي على ما هي عليه، لو يَسُودُها بعضٌ من الجوّ الصّلاتي. الصّلاة هنا دُونها فائدتان: أُولاهُما أنّها تبلسِمُ الجراح المحتاجة إلى بلسمة، وتنزل في النفوس الحزينة منزل الرَّاحة والرَّجاء، وثانيتهما أنّها تساعد على إحلال الصَّمت الَّذي ينبغي أن يسود مقامًا كهذا مَهابةً واحترامًا.
 
يجب أن يكون مقام العزاء مقامًا للصَّلاة والصَّمت، ليتسنَّى له أن يكون -ولِمْ لا- مناسبة للتَّأمُّل في الموت، في ساعة الإنقضاء، وقطف العِبَر. هي بُرهةٌ يَسِيرَةٌ، صحيح، بَيْدَ أنّها، على يُسرِهَا، فرصةٌ للمعزّي لمراجعة حسابات وبَدء توبة.
 
آنَ الأوانُ، برأينا، لإعادة النَّظر في صيغة مجالس العزاء عندنا لتَغدُوَ أكثر انسجامًا مع الغاية الَّتي من أجلها كانت: العَزاء.