المطلب الخاطئ للإنسان
[1]
هناك حقيقة ثابتة تؤكّد بأنّ عدم الرضا يتملّك الإنسان العصريّ وانعدام القناعة تسيطر عليه، لذلك فهو لا ينفكّ يركض ويلهث وراء المادّة لظنّه أنّها هي التي تملأ حياته وفراغه. لا شكّ بأنّ هذه الظاهرة يميّزها غالبيّة الذين يغبّطون الناجحين في حياتهم، ومع ذلك يلاحظون جوعهم المستمرّ إلى المزيد من السؤدد؛ أو أولئك المعتبَرين عظماء المجتمع، ورغم ذلك يجدونهم يتطلّعون إلى مزيد من السيادة والمجد؛ أو الذين يحيون حياة الرفاهية والبحبوحة لا يعانون من صعوبات ومشاكل اقتصاديّة، وبالتالي فكلّ الأمور المعيشيّة مؤمّنة لهم، ومع ذلك يلمسون عطشهم الدائم إلى رفاهيّة أكثر وبحبوحة أوفر. من هنا نستطيع الاستنتاج بأنّ الجوع والعطش هما الظاهرة الواضحة السائدة في مجتمع اليوم.
وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا، إذًا، لم يستطع الإنسان أن يُشبع نفسه طالما أنّ كلّ شيء متوفّر لإسعاده؟ بالتأكيد لا بدّ من وجود خلل ما في حياته! لا بدّ من وجود طريقة خاطئة يحياها ولو لم يعِها! ويأتينا الردّ بأنّ من يعيش ملء متطلّبات الحياة وأفراحها ومتعها، ويسعى لتحقيق آماله وأحلامه، قد ينسى، أو يجهل، بأنّ حياته هذه لا تتوافق، البتّة، بل لا علاقة لها مع الهدف الصحيح لوجوده هنا على الأرض. لأنّ الحقيقة تقول بأنّ عطش الإنسان وجوعه يجب أن يتّجها نحو الله وحده لكي يرتوي ويشبع، في حين نجده ينشدّ إلى امتلاك الأشياء، ويتعلّق بالمخلوقات المادّيّة التي وضعها له الله ليستخدمها، غير مدرك بأنّ كلّ من الانشداد والتعلّق يفصلانه ويحرمانه من بلوغ الحقيقة الإلهيّة التي ندعوها الملكوت السماويّ، الحياة الأبديّة، الفردوس.
يُعتبَر الإنسان نقطة التقاء الفساد بعدم الموت، الزمن الحاضر بالحياة الأبديّة، فهل يحقّ له، إذًا، أن ينحصر في حالة دون الأخرى، محطّمًا بذلك بعضًا من كيانه ومهشّمًا جزءًا من طبيعته؟! كلّا بالطبع. لذلك، فبإقصاء الإنسان نفسه عن سلوك الطريق إلى ملكوت الله، الذي هو في الحقيقة وطنه الأصليّ، يتغيّر موقفه جذريًّا ليس، فقط، من الله، بل ومن الأمور الدنيويّة أيضًا. وعلى هذا، فضمن هذا التغيير تكمن حلقة أخطائه كلّها التي تبعده، للأسف، عن معنى الحياة الحقّة، وتقوده إلى تعاسة روحيّة وبؤس. ولكي يخفّف من بؤسه وتعاسته، يميل إلى شهوة الامتلاك لتصبح الهدف الأساس لوجوده، وتغدو أشواق قلبه وثباتٍ من الفرح والغبطة المزيّفة، غير مدرك أنّ هذه الشهوة ما هي إلّا حاجز أو عائق يسجنه ويثبّته في الأرض بحيث لا يعود يمكنه، بعد، من الطيران والتحليق نحو العلويّات.
ولقد ألمح القدّيس بولس الرسول إلى هذا بقوله: "إنّ كلّ خليقة الله حسنة ولا شيء مرذول ممّا يتناول بشكر" (1تيموثاوس 4: 4)، فلا الطبيعة ولا المادّة تتعارضان مع ناموس الله وأعماله، إنّما هما علامة لحضوره وحكمته ومحبّته للبشر، ولقد أوجدهما الله لكي يتعرّف الإنسان من خلالهما إليه، ولكي تصبح حياته شركة دائمة معه. بناء على هذا، يصبح كلّ من الجوع والعطش إلى الاستئسار بالخيرات المادّيّة خطيئة تجاه محبّة الله وعنايته. بيد أنّ الأمور تأخذ منحًى آخر عندما يظنّ الإنسان أنّه بمقدوره الفصل بين الأرضيّات والسماويّات، راغبًا في أن يحتفظ لنفسه بما يخصّه من المادّة ليبقى بعد ذلك وحيدًا معها بعد أن سيطرت عليه وصارت الهدف الوحيد لحياته، وأمّا الأمور الروحيّة السماويّة فلا بأس من التخلّي عنها أو ازدرائها!!
لا ريب في أنّ الإنسان، كلّ إنسان، يتطلّع إلى حياة داخليّة ثابتة مستقرّة رغم ما يحصل من تغييرات في الزمن متلاحقة، حياة جميلة نقيّة لا تزول أبدًا أيّ أبديّة، ولا غرابة في هذا الاشتياق لكون الإنسان جُبل على هذه الصفات. ولكنّ واقع ما يعيشه ويهدف إليه يتعارض، تمامًا، مع هذا المفهوم، إذ نرى قلق الموت يقضّ مضجعه، فيسعى، بكافّة الوسائل، إلى ما يطيل عمره، ويلجأ إلى حماية الغنى والمجد والراحة الجسديّة. وقد يميل، أحيانًا، إلى علاقة وقتيّة مع الله شرط أن تكون بعيدة عن محبّة الآخرين وإزعاجاتهم!! كما تصل به الحالة إلى الإلحاح على الله لتنفيذ إرادته وتتميم رغباته ومشيئاته بغضّ النظر عمّا إذا كانت صالحة أم لا!! يا لها من حالة مَرَضيّة موبوءة، ويا لها من سعادة فرديّة يعتبرها الكثيرون هي الحياة الحقّة!! ولكن هل في الفرديّة سعادة حقيقيّة؟!
وأمّا المسيح، فهو آدم الجديد، الإنسان الجديد، بداية كلّ خليقة جديدة. في شخصه لُقِّحت الطبيعة الإنسانيّة المفعَمة بالفساد والموت بلقاح إلهيّ، لقاحٍ جدّدها لكي تثمر ثمار القيامة والحياة. هذه الخليقة الجديدة كائنة في الكنيسة، جسد المسيح، وبهذه الحياة الجديدة في الكنيسة صار للإنسان المقدرة، بنعمة الروح القدس، أن يستعمل المخلوقات أو المادّة لا أن يستعبدها ويتملّكها، وهذه هي طريقة الحياة الأخرى الصحيحة التي أعطانا إيّاها المسيح القائم.
في الكنيسة، يدعو اللهُ الإنسانَ، بشخص يسوع المسيح، ليجلس إلى مائدة عشائه الروحيّ ليملأ احتياجاته النفسيّة، ليشبع جوعه الروحيّ ويطفئ عطشه الروحيّ. يريد المسيح ألّا يُحرَم الإنسان، كلّ إنسان، من عشائه هذا، من خبز الحياة الذي يقوّي ضعفه ويؤهّله للدخول إلى ملكوته السماويّ. غير أنّ إنسان الخطيئة اعتاد أن يتحالف والمادّة، أن يحبس نفسه في أطر عالم الأرض ويمحي اسمه من لائحة المطلب الأسمى: ملكوت الله، معتبرًا الله الوجه الذي يعاكس حياته الأرضيّة وما تتطلّبه. إنسان كهذا، وإن كان قد أمّن لنفسه الطعام والشراب المادّيّين إلّا أنّه سيبقى، أبدًا، جائعًا عطشًا. "ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ"، هكذا ترتّل الكنيسة.
ولكن هذا لا يعني، أبدًا، أن يعتزل الإنسان البشر أو يرفض التمتّع بالحياة الأرضيّة أو يتخلّى عمّا يؤمّن له استمراريّتها، بل بالعكس فالله أغدق عليه بكلّ شيء، وكلّ شيء هو صالح ومقدّس لأنّه هبة إلهيّة. فمن جهة يتذوّق الإنسان حلاوة الله وعظيم عنايته عبر هذه الهبات الإلهيّة، ومن جهة ثانية يثق بأنّ لا أحد آخر يسدّ له جوعه ويروي عطشه إلّا الله وحده، فهو الذي يملأ حياة الإنسان بالخيرات ويغني نفسه بملء حضوره.
لذا، بات من المؤكّد أنّ نقرّ بأنّ هناك خطأ ما في مطلب الإنسان، والسبب كائن في علاقته الخاطئة إن كان مع خالقه أو مع مخلوقات خالقه. فلنبتعِ، إذًا، الزمن الحاضر بتسلمينا الكلّيّ لتدبير الله، ولنسعَ وراء الأمور الأبديّة غير الفاسدة، مزدرين بما هو حاضر وقتيّ وباطل، وساعين وراء شركة دائمة مع الله ومع أخينا الإنسان: "أطلبوا ملكوت الله وبرّه، وهذا كلّه يزاد لكم"، "والله عالم بما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه".
[1] لأستاذة اللّاهوت كاترينا تساكيريس. مجلّة Πειραίκή 'Εκκλησία لعام 1997. شهر كانون الثاني.