الخدّ الآخر
المحبّة هبة إلهيّة تدعم علاقة المؤمنين مع بعضهم البعض وتعضد تواصلهم في مسيرتهم الدائمة نحو الله. إنّ المحبّة الكاملة المزهرة ليست هي مجرّدة أو معنويّة، ولا تتحقّق في عزلة الإنسان وغربته عن بقيّة إخوته.
إنّها محبّة مجاهدة تتخطّى المعرفة البشريّة المحدودة. المحبّة المسيحيّة هي تعبير واضح ودقيق تجاه القريب سيّان كان أخًا أو رفيقًا مجاهدًا لاكتساب هذه الفضيلة السامية. محبّة الإخوة في مواقف محدّدة وصعبة هي المحبّة عينها تجاه الله.
إنّها كمال الوصايا الإلهيّة كافّة، تسمو على المال وتتعالى على الممتلكات وتفوق كلّ مجد وسائر الأمور المغرية الأخرى، بل وتتنزّه عن الجسديّات. تتجسّد المحبّة، فقط، حين يضحّي الإنسان بكلّ شيء من أجل القريب، وتجد كمالها في تقدمة المرء نفسه بكلّيّتها لله.
معرفة الله هي في محبّته، والمحبّة هي معرفة الحقّ الإلهيّ. لذلك، فكلّ تفريق في التعامل بين البشر يعني أنّ الإنسان فقد المعرفة والمحبّة. فبقدر ما يضلّ أثناء مسيرته نحو الكمال، في سائر مراحلها من حيث تحقيق الصلاح وإيجاد الحقّ الإلهيّ، بمقدار ما يرتبط ببعض الأوثان، وأعني خضوعه للحواسّ والعقل، واستسلامه للذّات أو لتخيّلات تتمركز كلّها حول تكبير الأنا. وهكذا يصل إلى أن يعتبر المحبّة صلاحًا لا يمكن تطبيقه، أو أمرًا لا يلائم الطبيعة الإنسانيّة. وبناء عليه، ينظر إلى العلاقة العدائيّة والهجوميّة تجاه القريب أمرًا بديهيًّا مشروعًا، متغاضيًا أو متغافلًا عن الحقّ والصلاح الإلهيّين.
وهكذا فإنّ المحبّة - بما أنّها بحسب الطبيعة نموّ للكائن البشريّ، أي عودته إلى ما هو بحسب صورة الله - فهي تملك قوّة لا محدودة تستمدّها من عظمة الله غير المحدود لا سيّما إن تنزّهت عن المراءاة. لذا، فإنّه من السهل جدًّا على من يملك هذه الملَكَة السماويّة أن يردّ خلوًّا من عنف، في أيّ موقف عدائيّ، بقوّة المحبّة التي "تركم جمرًا على رأس أعدائه" (رومية 12: 20).
إنّ تصرّفًا مليئًا بالمحبّة كهذا صعب، بل ويخالف الطبيعة حتمًا لا سيّما عندما تغيب عنها قوّة هذه المحبّة التي هي بحسب صورة الله. لهذا، فإنّ وصيّة السيّد بأن يدير المسيحيّ، السائر في درب الكمال، الخدّ الأيسر للمعتدي عليه لا تعني بأنّ إدارة الخدّ ناتجة عن ضعف أو جبن.
ولكن إن كان هذا التصرّف متأتّيًا عن ضعف، فعلًا، فإنّ الذي يدير خدّه ويحني رأسه يكره عدوّه حتّى الموت رغم احتماله وصبره، أو لنقل بتعبير آخر: إنّ احتماله الاضطراريّ هذا يولّد لديه كرهًا كبيرًا. فاللاعنف يفترض نفوسًا قويّة مفعمة بما هو على حسب صورة الله أي بمحبّة تفجّر داخل المرء صفحًا وتوّلد لديه قوّة إلهيّة. وحينها، وبكلّ تأكيد، لا تساعد، فقط، على تقدّم من يحبّ ويضحّي بتمركزه حول ذاته، ولكن، أيضًا، تربّي من يسيطر عليهم الحقد والعدائيّة.
إنّ تفسير نيتشه الذي يرى في المحبّة أخلاق العبيد ليس إلّا لهو على خطأ فادح، لأنّه يعتبر أنّ المحبّة تفترض التساهل الضعيف والمصالحة الاضطراريّة. ولكن تصرّفًا كهذا لا يحمل من المحبّة سوى اسمها، وحسب، بينما هو، في الحقيقة، معطّل لنموّ الإنسان الروحيّ ليصبح على صورة الله، "إلى قامة ملء المسيح"، ويزيد من تقديره لذاته وتمحوره حولها، ويؤجّج فيه مشاعر الجبن والكراهية الخفيّة والمميتة.
إنّ أمثال هؤلاء النماذج، الذين يخضعون لمن هم أعلى منهم باسم المحبّة المسيحيّة فإنّهم يدوسون بنيّة سيّئة من هم أدنى منهم. وهؤلاء الأصناف من البشر الذين يتزلّفون الأسياد والمقتدرين ويتملّقونهم إمّا يتحوّلون، في غالب الأحيان، خسيسين أنذالًا مبتذلين يسحقون بيسر ومن دون إحساس من هم أضعف منهم، أو في أسوأ الأحوال، يخضعون لأهوائهم الشرّيرة حالما تسنح لهم الفرصة بذلك. وحينما يتفاقم شرّهم، لدرجة كبيرة، لا يكتفون بحسد القريب على مناقبه ومواهبه، فقط، بل يزيدون من وشاياتهم ودسائسهم الصادرة من نفوسهم الملتهبة، فيهينونه ويقلّلون من قيمته، وفي نهاية المطاف يصبحون أضحوكة للشياطين وألعوبة في أيديهم.