مَن هو اليروندا أو الستاريتز؟
لسيادة المطران كاليستوس وير (١)
في 2/8/2021
يظهر العمل المباشر للمعزّي الروح القدس في التقليد الأرثوذكسيّ وسط المجموعات المسيحيّة عبر أشخاص متوشّحين بالروح هم الشيوخ أو الآباء الروحانيّون أو المتبالهون من أجل المسيح. ليس بالضرورة أن يكون اليروندا أو الستاريتز متقدّمًا في السنّ، بل أن يكون ممتلئًا من الحكمة، مختبِرًا الحقيقة الإلهيّة، مبارَكًا بنعمة الأبوّة الروحيّة، متمتّعًا بموهبة إرشاد الآخرين في الدرب الإلهيّ. ما يقدّمه اليروندا لأولاده الروحيّين ليس إرشادات أخلاقيّة أو قانون حياة، بل عيش علاقة شخصيّة. يقول دوستويفسكي: "الستاريتز هو من يأخذ نفسك وإرادتك داخل نفسه وإرادته". واعتاد تلاميذ الأب زخريّا (أحد شخصيّات دوستويفسكي) أن يقولوا عنه: "كان وكأنّه يمسك بقلوبنا في يديه".
الستاريتز هو شخص الهدوء الداخليّ حيث يستطيع الآلاف أن يجدوا الخلاص بقربه. هو من وهبه الروح القدس – كثمر لصلاته وإنكار ذاته – هبة البصيرة والتمييز اللتين تؤهّلانه لأن يقرأ أسرار القلوب. وهكذا يجيب ليس، فقط، على الأسئلة التي يطرحها الآخرون، بل، وأيضًا، على الأسئلة التي لم يفكّروا حتّى بإلقائها عليه. يتمتّع، أيضًا، بموهبة الشفاء الروحيّ، هذه القوّة التي يستعيد بها نفوس البشر ويشفيها من ضعفاتها، وقد يشمل الشفاء، مرّات كثيرة، الجسد أيضًا. هذا الشفاء الروحيّ لا يتمّ بكلمات الإرشاد، وحسب، وإنّما بصمته وحضوره الشخصيّ. فبقدر ما هو مهمّ إرشاده بقدر ما تكون صلاته المتشفّعة أكثر أهمّيّة وعمقًا. يصل اليروندا بأولاده إلى الكمال عبر صلاته الدائمة لهم، حاملًا على كاهله نير إزعاجاتهم وقلقهم، فلا يمكن أن يصير ستاريتزًا، ولا بأيّ حال، إن لم يصلِّ بإصرار من أجل الآخرين.
إن كان الستاريتز كاهنًا، فرسالته تتمّ، عادة، عبر سرّ الاعتراف. ولكنّ الستاريتز في المفهوم الكامل والعميق كما يصفه دوستويفسكي بشخص الأب زخريّا هو أكثر من كاهن معرّف، ولا يستطيع أن يملك البصيرة الروحيّة عبر رتبة أو سيادة عليا، وإنّما يتكلّم الروح القدس مباشرة في قلوب المؤمنين، كاشفًا لهم بأنّ هذا الشخص أو ذاك باركه الله وأسبغ عليه نعمته ليرشد الآخرين ويشفيهم. إذًا، الستاريتز الحقيقيّ، بهذا المعنى، هو شخص نبويّ وليس شخصًا ذا رتبة رسميّة. وأمّا إن كان كاهنًا راهبًا، أو كاهنًا متزوّجًا، أو راهبًا بسيطًا أو راهبة أو علمانيًّا، فهو يسمع مشاكل الآخرين ويسديهم النصائح اللازمة، ثمّ يرسلهم إلى كاهن لكي يمنحهم الحلّ بسرّ الاعتراف.
العلاقة بين الابن الروحيّ واليروندا تختلف وتتنوّع، فالبعض يزورونه مرّة أو مرّتين في حياتهم في اللحظات الحرجة جدًّا. بينما البعض الآخر يلتقي به مرّة كلّ شهر وقد يكون كلّ يوم. لا توجد قاعدة، فالرباط يكبر ويشتدّ تحت الإرشاد الروح القدس المباشر. ولكنّ العلاقة هي، دائمًا، شخصيّة. لا يعطي الستاريتز مجرّد قوانين مقتطفَة من أحد الكتب، ولكنّه يراعي كلّ حالة بمفردها سواء لرجل أو لامرأة، ويرشدها مستنيرًا من الروح القدس. يحاول أن ينقل، فقط، إرادة الله لهذا الشخص الموجود أمامه. ولأنّ الستاريتز الحقيقيّ يفهم ويحترم شخصيّة كلّ فرد، فهو لا يضغط على حرّيّته الداخليّة، إنّما ينشّطها ويقوّيها. لا يهدف إلى انتزاع الطاعة انتزاعًا لتأتي آليّة، بل يقود أولاده إلى درجة النضوج الروحيّ بحيث يستطيعون أن يتّخذوا القرارات بأنفسهم. يعرّف كلّ واحد إلى شخصيّته الحقيقيّة التي كان الجزء الكبير منها مخفيًّا عليه قبلًا.
كلمته خلّاقة وحيّة تؤهّل الآخر لكي يقوم بأعمال باهرة، والتي كانت قبل ذلك تبدو مستحيلة. وينجح الستاريتز في هذا كلّه لكونه يحبّ كلّ شخص عبر علاقة متبادلة. لا يستطيع اليروندا أن يساعد الآخر إن لم يبدِ هذا الأخير الرغبة في تغيير نمط حياته وأن يفتح قلبه بثقة مرنة للستاريتز. من يقصد الستاريتز بروح الانتقاد والفضول سيعود، دون أدنى ريب، فارغ اليدين دون أيّ تأثير واضح داخله. لذلك، فاليروندا لا يستطيع مساعدة الجميع بالتساوي، بل أولئك المرسَلين من قِبَل الروح القدس. وبناء عليه لا ينبغي أن يقول التلميذ: "هذا اليروندا هو أفضل من الآخرين"، إنّما أن يقول: إنّه الأفضل لي".
ينتظر الأب الروحيّ في الإرشاد إلهام صوت الروح القدس لمعرفة إرادة الله. يقول القدّيس سيرافيم: "أنطق، فقط، بما يقوله لي الربّ بإلهام الروح القدس". ويقول الأب زخريّا: "مرّات كثيرة لا يعرف المرء ماذا سيقول. الربّ الإله نفسه يتكلّم بفمه. لذلك يجب أن يصلّي الإنسان هكذا: أيّها الربّ، إحيَ داخلي. تكلّم من خلالي. إعمل من خلالي. فعندما يتكلّم الربّ بفم أحدهم، تكون لكلماته، عندئذ، نتيجة، وكلّ ما يقوله يتمّ. الشخص نفسه الذي يتكلّم يعتريه الذهول من هذا، لذا لا يجب أن يقاوم الحكمة الموحى بها إليه". يتّضح لنا من هذا بأن لا أحد له الحقّ التصرّف بهذه الطريقة إلّا من سلك بنسك وصلاة، ومن اكتسب، بشكل منقطع النظير، معرفة حضور الله في حياته.
العلاقة بين الابن والأب الروحيّ تمتدّ إلى ما بعد الموت، حتّى يوم الدينونة. فالأب زخريا يؤكّد لتلاميذه: "بعد موتي سأكون حيًّا ممّا أكثر أنا عليه الآن، فلا تأسفوا لموتي". وطلب القدّيس سيرافيم أن تُنقَش هذه الكلمات القيّمة على قبره: "عندما أموت تعالوا إلى قبري، تمامًا كما كنت حيًّا، وبقدر ما تكثرون المجيء يكون ذلك لكم أفضل. ارموا فوق قبري، وأنتم راكعون على التراب، كلّ مرارتكم وما في نفوسكم وما يحصل معكم، وسأسمعكم فتتلاشى مرارتكم. وكما كنتم تكلّمونني وأنا حيّ، افعلوه الآن، أيضًا، لأنّي حيّ وسأبقى حيًّا دائمًا".
قد يقول البعض إنّنا نفتّش لنجد أبًا روحيًّا ولا نجد فماذا نفعل؟ طبعًا، من الممكن أن نتعلّم من الكتب سواء كان لنا مرشدًا أم لا، وأن يكون الكتاب المقدّس مرجعًا لاستمداد الإرشاد المستمرّ. ولكنّ الصعوبة في اللجوء إلى الكتب هو أنّنا قد لا نعرف، تمامًا، ماذا يناسبني شخصيّا في هذه اللحظة بالذات من سفري الأرضيّ. فإن فتّش هؤلاء بتواضع سيعطى لهم المرشد الذي يطلبون. ليس من الضروريّ أن أجد ستاريتزًا كالقدّيس سيرافيم والأب زخريّا، فالله قد يعطيني شخصًا غير معتَبَر في نظر الآخرين يكون هو ذاك الأب الروحيّ الذي يمكنه أن يقول لي، شخصيًّا، كلمات ملتهبة أنا بحاجة إلى سماعها قبل كلّ شيء.
(١) عن اليونانيّة. من كتاب الشيخ بورفيريوس شهادات وخبرات لكليتوس أيوانيذيس: ~O Ge.ron Porfu.rioj Marturi.ej kai. evmpeiri.ej( Klei/toj VIwanni.dhj)