جوهر الكبرياء وماهيّتها للأب المتوحّد سابا أوستابينكو
جوهر الكبرياء وماهيّتها
للأب المتوحّد سابا أوستابينكو[1]
 
 
طلبتُ من الله أن يأخذ منّي كبريائي، فرفض قائلًا: "لا. الكبرياء لا تُنزع، بل تُترك".
الكبرياء مرض عقليّ رهيب يصعب علاجه وشفاءه. ليس هناك خطيئة أعظم وأكثر حقارة وقباحة عند الله من الكبرياء، ولذلك يسمّيها الآباء القدّيسون: "بذرة الشيطان". الكبرياء هي الثقة الشديدة بالنفس والزهو الذي بلا حدود، مع رفض ونبذ كلّ مالا يخصّني؛ هي مصدر للغضب والسُخط والغيظ والقسوة والتهيّج والضجر والحقد والضغينة والحَنَق والعداوة، ومن خلال هذا كلّه هي رفض لمعونة الله في حين أنّ المتكبّر، بالحقيقة، من هو بحاجة ماسة إلى الله لكون البشر لا يستطيعون إنقاذه، وبخاصّة عندما يصل المرض إلى مرحلته النهائيّة.
 
 لقد أخطأ مخترع الخطيئة ومبتدعها، أي ملاك الظلام الساقط، هو نفسه بمقاومة الله مسوقًا من كبريائه، وصار تاليًا يقود الجنس البشريّ بأكمله، مخضعًا إيّاه إلى هذه التوق المدمّر. كلّ خاطئ يرضي شغفه وشهوته، لا بدّ له من أن يخوض حربًا ضدّ الله، كما أثار الشيطان، ذات مرّة، تمرّدًا وحربًا في السماء ضدّ الله، شاقًّا عصا الطاعة ليعيش بحسب إرادته. فعندما يشبع المتكبّرون والمتغطرسون والمغرورون ومحبّو الذات والمتعطّشون والقساة والحسّاد والغاضبون والعصاة، وغيرهم ممّن تغشاهم الرذائل والأهواء، إلى المجد والشهرة والسلطة ويُذلّون الآخرين لحساب "أناهم" الخاصّة، يماثل هؤلاء من يرفعون سيفًا على الله ويقولون للمسيح :"لا نريد اتّباع مثالك، أي أن نكون ودعاء ولطفاء. نحن لا تعجبنا شريعتك ولا نحبّها. فليطعْنا الآخر ويخضع لنا ويخدمْنا، لا نحن له".
 
عن طريق كلّ خطيئة، حتّى ولو كانت صغيرة، تضعف نعمة الله في النفس، وعبر الخطيئة المميتة يفقدها الإنسان كلّيًّا، ويُصبح مستحقًّا العقاب الأبديّ. يُخرج المتكبّرون ذواتهم من تحت سلطة الله، ولذلك يحرمون أنفسهم من حمايته ورعايته، فينهزمون في كلّ مسالكهم. الذين يعيشون بحسب الجسد، هم بالفعل أموات في الروح؛ وحتّى أثناء حياتهم على الأرض يعانون من عذاب الجحيم، فالشعور بالوحدة واليأس القاتم مع الحزن والغضب والكراهية بالإضافة إلى العقم الروحيّ والظلام والإكتئاب، أفليست هذه جميعها مشاعر جحيميّة؟
 
أعراض المرض وتطوّره
 
خطيئة الكبرياء لها عدّة مراحل في تطوّرها، وهي تبدأ بالغرور. ومن أعراضه: التعطّش إلى الثناء والمدح؛ نفاد الصبر من التوبيخ والتأنيب، العتاب ولوم الغير؛ الارتياب والشكّ، والحقد والانتقام. إنّ الحكم على الآخرين وصعوبة طلب المغفرة والبحث عن طرق سهلة للحياة يشهد، أيضًا، على غرور الإنسان. الغرور لعبة مستمرّة بحضور الغرباء، أو مسرحيّة تقدَّم بهدف إظهار الجانب التقويّ للذات، وإخفاء الأهواء والرذائل بعناية فائقة. يتوقّف فيه الإنسان عن رؤية خطاياه ملاحظة عيوبه، ويبدأ في التقليل من ثقل ذنبه أو إنكاره تمامًا، وأحيانًا يلقي باللوم على الآخرين. يبدأ في المبالغة في تقدير معرفته وخبرته وقدراته وفضائله. ومع تقدّم المرض يرتفع رأيه في نفسه إلى العظمة واستحقاق المجد. ولهذا السبب يسمّى هذا المرض: جنون العظمة، إذ في مثل هذه الحالة لا يدين الشخص الآخرين، فحسب، بل يشرع في احتقارهم وبغضهم، بل ويؤذيهم، أيضًا، إن أمكنه ذلك. وعندما يبدو للمريض بالكبرياء أن لا أحد يفهمه ولا أحد يحبّه، وإنّما يلاحقه الجميع مريدين له الأذى، فإنّ مرضه  يسمّى في هذه الحالة "هوس الاضطهاد أو الملاحقة". إنّ جنون العظمة وأوهام الاضطهاد هي أكثر أشكال الأمراض النفسيّة شيوعًا. ترتبط هذه الأمراض بزيادة ارتفاع الشعور بالذات وتقديرها والمبالغة باحترام الذات ما يؤدّي إلى ازدراء الناس والعداء لهم. فالشخص المتكبّر غير راضٍ عن الناس المحيطين به وعن ظروف حياته، ولهذا يصل، في غالب الأوقات، إلى اليأس والتجديف والوهم والضلال، وأحيانًا إلى الانتحار.
 
قد يصعب التعرّف إلى الكبرياء في المرحلة الأولى. فقط الشخص الروحيّ ذو الخبرة أو الطبيب النفسيّ  يمكنه تحديد أصل هذا الهوى بدقّة. إذ يتصرّف فيه الإنسان بشكل طبيعيّ، لكنّ العين البصيرة الخبيرة ترى فيه بداية المرض. يرضى الإنسان عن نفسه، وحينما يكون في مزاجه الجيّد يُرنِّم ويبتسم ويضحك كثيرًا، وفي بعض الأحيان يُقهقهُ بصوت عالٍ دونما سبب؛ يتصرَّف بغرابة ويُنَّكِتْ؛ يقوم بحيل مختلفة لجذب انتباه الحاضرين؛ يحبّ التحدث كثيرًا، وفي محادثته يمكن للمرء سماع  كلمة "أنا" بلا حدود. ولكن من كلمة واحدة مستهجَنة يتغيّر مزاجه بسرعة إلى الذبول والخمول، ثمّ إن وُجِّه إليه بعض الثناء، يزهو ويزهر وجهه من جديد، فيبدو مثل وردة الربيع إشراقًا ويبدأ بالرفرفة كالفراشة. بشكل عامّ، يظل مزاجه مشرقًا في هذه المرحلة.
 
علاوة على ذلك، إذا لم يدرك الإنسان خطيئته ويعيها، ولم يتب ولم يصّحح نفسه، فإنّ المرض يتطوّر ويتفاقم. فتظهر لديه ثقة صادقة في تفوّقه على الآخرين، ثمّ تتحوّل هذه الثقة بسرعة إلى شغف للقيادة، ويبدأ في تحويل انتباه الآخرين واستغلال وقتهم والتصرّف في قوّتهم وفقًا لتقديره الشخصيّ ورأيه الخاصّ. يصبح متعجرفًا ووقحًا، يأخذ على عاتقه كلّ شيء حتّى لو أفسد الأمر ويتدَّخَل في كلّ شيء. تتدهور، في هذه المرحلة، الحالة المزاجيّة للشخص المتكبّر وتنحرف، لأنّه غالبًا ما يواجه رفض المحيطين به ومقاومتهم. فيصبح، تدريجيًّا، سريع الانفعال والتهيّج وعنيدًا صلبَ الرأي، غضوبًا شكِسًا مماحكًا، ليغدو لا يُطاق ولا يُحتمل من الجميع، وبطبيعة الحال، يبدأون في تجنّبه. لكنّه يبقى مقتنعًا بأنّه على حقّ، ويعتقد أنّه يتصرّف ببساطة غير أنّه لا أحد يفهمه، لذلك ينفصل عن الجميع. يستقرّ الحقد والكراهية والازدراء والاحتقار والغطرسة ويتجذّرون في قلبه، فتصبح النفس قاتمة وباردة؛ وأمّا العقل، فيغدو مظلمًا يقود إلى شقّ عصا الطاعة. ينحصر هدفه في تثبيت خطّه ورأيه ليخزي الآخرين ويذهلهم. إنّ أمثال هؤلاء الأشخاص المتكبّرين هم الذين يخلقون الانشقاقات والبدع.
 
في المرحلة التالية من تطوّر المرض، ينفصل الإنسان عن الله، ناسبًا إلى نفسه كلّ ما يملك من قدرات وفضائل، وواثقًا بأنّه يستطيع تنظيم حياته وتدبيرها من دون مساعدة خارجيّة، كما يمكنه الحصول بنفسه على كلّ ما يحتاجه للحياة. يشعر وكأنّه بطل جبَّار حتّى ولو كان في حالة صحّيّة سيّئة. يفتخر بحكمته وعلمه وبكلّ ما لديه، وهكذا تغدو صلاته غير صادقة، باردة، بلا انسحاق قلب، إلى أن يتوقّف عنها نهائيًّا. تصبح حالته الروحيّة قاتمة ويائسة بشكل لا يوصف، لكنّه، في الوقت نفسه، يبقى مقتنعًا بصحّة طريقه وصدقها فيواصل السير نحو دماره بسرعة.
 
كيف تتعرَّف إلى الكبرياء في نفسك؟
 
عندما سُئل كيف تتعرّف إلى الكبرياء في نفسك، كتب جاكوب رئيس أساقفة نيجني نوفغورود، ما يلي: "لكي تفهم ذلك وتشعر به، إنتبه إلى شعورك وإحساسك عندما يفعل الذين من حولك ما يعاكس طريقتك، أو ما يخالف إرادتك".
** فإذا لم يكن تفكيرك في تصحيح خطأ ارتكبه الآخرون بوداعة، بل باستياء وكدر وسخط وغضب، فاعلم، إنك متكبّر، ومُتكبّر للغاية.
** وإذا كان يحزنك ولو أدنى فشل في شؤونك ويجعلك تشعر بالملل والثقل، ولا تفرِّحك فكرة مشاركة العناية الإلهيّة في شؤونك، فاعلم، أنّك متكبّر، ومُتكبّر للغاية.
** وإذا كنت متحمّسًا لاحتياجاتك الخاصّة وباردًا تجاه احتياجات الآخرين، فاعلم، أنّك متكبّر، ومُتكبّر للغاية.
** وإذا كنت تشعر بالسعادة وأنت تحت رحمة الآخرين، حتّى أعدائك، ولكنّك تشعر بالحزن لرؤيتك السعادة غير المتوقّعة لجيرانك، فاعلم، أنّك متكبّر، ومُتكبّر للغاية.
** وإذا كانت الملاحظات المتواضعة لعيوبك ونقائصك تسيئك، والثناء والمدح والإطراء على  فضائلك ووقارك  يسرّك ويسعدك، فاعلم أنّك مُتكبر، بل شديد الكبرياء.
 
ماذا يمكنك، أيضًا، أن تضيف إلى هذه العلامات لتتعرَّف إلى كبريائك؟ وهل تعرّض الإنسان لحروبات الخوف والرعب هي علامة أخرى مع أنّها إحدى دلائل الكبرياء؟ لقد كتب القدّيس يوحنّا السلّميّ عن ذلك قائلًا: "النفس المتكبّرة هي عبدة للخوف؛ تثق بنفسها، وتخاف من الأصوات الخافتة للمخلوقات وحتّى من الظلّ نفسه. غالبًا ما يفقد هؤلاء الخائفون عقولهم، لأنَّ الربّ يسمح بهذا لكي يتعَّلم الآخرون ألّا يتكبّروا". ويكتب أيضًا: "صورة الكبرياء الأقصى هي أن يُظهر الإنسان، بمراءاةٍ ونفاق، فضائل ليست لديه حبًّا بالمجد".
 
[1] تعريب الراهبات عن الروسيّة. عن الموقع الكنسيّ. الأب سابا هو راهب متوحّد رقد في العام 1980 في دير الكهوف في كييف.