مقتطفات للأمّ غابرييلّا بابايانيس
[1]
**تأتي المحبّة من النعمة الإلهيّة ونحن نولد فيها بما أنّنا مخلوقات الله، والله محبّة. لكن، من هو الله بالتحديد؟
يستحيل علينا أن نجد جواباً باعتمادنا على عقلنا المحدود. بالمقابل، الروح والنفس أزليّتان، ولذلك تشعر الروح بالله. لا يمكننا أن نرى الله بأعيننا الجسديّة، إنّما بعيون الروح. يعاين المؤمن الربّ بطريقة روحيّة سرّيّة. فإن كنت تؤمن بعمق ومن كلّ نفسك، سوف تشعر بحضور الله بشكل قويّ، وتنجلي أمامك حقائق إلهيّة بوضوح تامّ، وحينها تمسك أنت بيد الربّ ليقودك حيث يشاء.
قد تبدو للآخرين فاقد العقل أو غريب الأطوار أو غير واقعي، فيحكمون عليك ويدينونك. ولكن من الأفضل لك أن يدينك البشر وليس الله. وسوف يكون الأمر مرهوباً بالحقيقة عندما تقف أمام محكمة الربّ العادلة وتُجيبه على كلّ تهاون وتقاعس وقعت فيهما إرضاء للآخرين، غير مبالٍ بما لله.
** لقد منحنا الله المحبّة، لأنّه محبّة. فكلّ محبّة نبديها تجاه الآخرين، تكون آتية من النبع لتتدفّق عليهم، ثمّ تعود إلى مصدرها الأوّل. لا تعرف المحبّة حدوداً لكونها أزليّة. هذا، ويصف الرسول بولس المحبّة على أنّها: "تعذر كلّ شيء، تصدّق كلّ شيء، ترجو كلّ شيء، تصبر على كلّ شيء، المحبّة لا تسقط أبداً" (1كورنثوس: 13: 7-8).
** عندما تقدّم كامل المحبّة للآخر ويرفضها، فهي تعود إليك كما جاء في إنجيل القدّيس متّى: "... وإذا دخلتم البيت فسلّموا عليه، فإن كان هذا البيت أهلاً فليحلّ سلامكم فيه وإن لم يكن أهلاً ، فليعد سلامكم إليكم" (متّى10: 12-13). هكذا تجري الأمور في حياتنا، فكلّ عمل أو تمنٍّ صالح، وكلّ ما نصنعه بعزم صادق وطيبة يعود علينا بالفائدة. فيجب، إذًا، ألّا تكون لدينا أيّة أفكار سلبيّة تجاه أحد، لأنّها توقعنا في الظلام؛ وتنطبق هذه المعادلة على علاقات الناس فيما بينهم.
** أتفهمون ذلك؟ فلا نطلبنّ الشكر من الآخرين، بل علينا أن نشعر بالامتنان الدائم تجاه الله والناس. أمرٌ سخيف جدّاً أن ينتظر أحدنا شكر الآخرين، إنّما، بالحري، علينا أن نبتهج ونفرح من نكرانهم لما نعمله معهم من صلاح وإحسان لأنّنا نلقى أجرنا، عندئذ، من السماء. موطننا الحقيقيّ هو السماء لا الأرض. أشعر في داخلي أنّني أحيا منذ الآن في السماء. الفردوس هو هنا، فعلينا أن نعمل لكي نحظى به ونحن ما زلنا على الأرض أو نفقده إلى الأبد!
** الموت هو في يد الله، أمّا الحياة فهي بين يديك. يبدأ العمل منذ الآن ونحن في هذا الجسد الترابيّ. فإن أردنا أن نكون أحراراً، فلنتيّقظ لجعل ضمائرنا حيّة بما أنّها لا تموت. فالسقوط الأوّل يكمن في إماتة الضمير وذلك عندما نتغاضى عن فحصه، فيتصّلب، شيئاً فشيئاً، ويجعلنا لا ندرك خطايانا. قد نجد في الكنيسة أناساً جديّين ملتزمين يعتبرون ذواتهم من أبناء الله فيما ضمائرهم مائتة. يقترفون المظالم بحقّ الآخرين ويشكّون بهم ويدينونهم، فيتدرّج سقوطهم... إنّه لأمرٌ رهيب بالحقيقة!
** لقد خلقنا الله على صورته ومثاله ونفخ فينا روحه القدّوس، ونفخته هذه هي المحبّة ذاتها. فإن توقفّنا عن أن نحبّ يتوقّف، بالتالي، وجودنا، لأنّنا من دون روحه لا حياة لنا. إذاً، إن أحببت أحدهم وتغاضيت عن الآخر، هذا يعني أنّك لا تحبّ أحداً. أتفهم ذلك؟ لقد أعطانا الله المحبّة مثلما منحنا العيون والقلب، وكلّ عضو آخر للهدف عينه. لقد منحنا الله كلّ القوى النفسيّة حتّى نحبّ الآخر بالدرجة الأولى من كلّ القلب بحسب الوصيّة الإلهيّة الأولى:
"أحبب قريبك كنفسك" (لوقا 10: 27). فمحبّة القريب كالنفس تجعلنا لا نتميّز عنه، بل نكون وإيّاه شخصاً واحداً. من أنا لأقول عن فلان بأنّه سيّئ والآخر كاذب، لهذا لا يمكنني أن أحبّهم.. المحبّة ليست هكذا، فهي تشمل الجميع كما أحبّنا الله جميعنا رغم حالتنا التعيسة ورغم عيوبنا وخطايانا التي لا تُحصى ولا تُعدّ. ألا يوجد أسباب تمنع الله من محبّتنا؟ رغم ذلك فهو ما زال يحبّنا ويشرق "شمسه على الأشرار والأخيار ويُنزل المطر على الأبرار والفجّار". (متّى 5: 45).
** كيف يمكنك أن تفهم الآخر وتحكم عليه، هل بعد رؤيته؟ من نظرته؟ من طريقة كلامه؟ بعد الكثير من المحبّة والخبرة الطويلة الشخصيّة معه يمكنك أن تعرفه معرفة جزئيّة، أو أن تفهمه من هو من خلال شكله أو نظرته للأمور أو من كلامه وصوته وتصرّفه. ولكن لا يجب أن تجعلك هذه المعرفة أن تغيّر رأيك فيه كأن تكلّمه بخبث أو تتحاشاه، فلقاؤك به قد يُغيّره أو هو يُغيّر فيك شيئاً ما. هكذا يجب أن تسير الأمور. ومن هذا المنطلق المتجرّد يجب أن نطبّق المحبّة وليس بدافع العاطفة أو الميول الأهوائيّة تجاه بعض الأشخاص. فالمحبّة شاملة ولا تمييز فيها لكونها تبتغي الصلاح، والصلاح فقط.
[1] مقتطفات من مقالة عن الفرنسيّة مأخوذة عن كتاب " نسك المحبّة"
L’ascèse de l’amour par mère Gabrielle papayannis للأمّ غبرييلا (1897- 1992).