التعلّق للأب المغبوط سمعان كرايابولوس
كما أنّ الثالوث واحد من حيث الطبيعة وثلاثة من حيث الأقانيم، هكذا هي الإنسانيّة واحدة من حيث الطبيعة البشريّة المشتركة بين الكلّ، إنّما يتميّز كلّ واحد بشخصيّة مختلفة عن الآخر.
لا يستطيع الإنسان أن يقف على قدميه، ولا يستطيع أن يوجَد بمفرده، لأنّ في أعماق جذور وجوده وجودًا للآخرين، أيضًا، وهذا يعني بأنّ الإنسان لا يستطيع أن يتجاهل وجود الآخرين لا في فكره ولا في طريقة حياته. كما يعني، أيضًا، بإنّه إن لم يتّخذ الموقف الصحيح من الآخرين، الذين يشاركهم الطبيعة البشريّة، لن ينمو، بل لن يتمكّن من النمو بشكل صحيح طبيعيّ، وسوف يضيع روحيًّا وتتشكّل لديه عقد نفسيّة.
من هنا يحتاج الإنسان لأن يتّخذ الموقف الصحيح من الآخرين، وهذا الموقف بحسب الكتاب المقدّس هو المحبّة، المحبّة التي بحسب الله، المحبّة التي لا تتعلّق بأحد، لا تتحيّز، لا تعرف التردّد والتي لا تطلب ما لنفسها. توجد شركة محبّة تربط الأقانيم الثلاثة الإلهيّة ببعضها، وهكذا يجب أن تتوافر هذه الشركة المبنيّة على المحبّة بين الناس.
أقول هذا وأشدّد عليه بأنّ العلاقة بين الناس يجب أن ترتكز على المحبّة الحقيقيّة، فمرّات كثيرة نظنّ بأنّنا نحبّ، أو إنّنا نتعب فوق الطاقة لتكميل المحبّة، أو نقلب الدنيا رأسًا على عقب في سبيل المحبّة، فيما لا نملك في أعماقنا المحبّة الحقيقيّة. فقد تقوم الأمّ بتضحيات فائقة وتعمل ليلًا ونهارًا من أجل أولادها، ولكن يتبيّن، في نهاية المطاف، أنّ موقفها وكلّ أعمالها غير مستندة إلى المحبّة الحقيقيّة وإنّما قد تكون من أجل أمر آخر.
وهكذا، فعندما لا نتعامل مع الآخرين على أساس المحبّة الإنجيليّة الحقيقيّة، فإنّنا حتمًا سنتّخذ من الآخرين إحدى المواقف الثلاثة الآتية: إمّا موقف التعلّق بهم، وإمّا الموقف العدائيّ تجاههم، وإمّا موقف اللامبالاة والبعد عنهم.
حاجة الإنسان للتعلّق بأحد
الموقف الأوّل هو الحركة تجاه الآخرين، وهذا ما نسمّيه بالتعلّق بالآخرين. فالأمّ، مثلًا، تتعلّق بولدها، والزوج بزوجته، والزوجة بزوجها، والابن الروحيّ بأبيه الروحيّ. فكيف نفسّر عدم نموّ الابن الروحيّ في حياته الروحيّة، وهو الذي يمارس الاعترافات المتواصلة ويُعتَبَر من أكثر الأولاد الروحيّين إخلاصًا وأشد المسيحيّين التزامًا؟
فبما أنّه ليس موقفًا سليمًا تجاه أبيه الروحيّ، بل تعلّق به، فهو لن يتقدّم أبدًا في حياته الروحيّة. أناس كثر لا يستطيعون العيش دون أن يكونوا معتمدين على أحد، أي أنّ وجودهم متعلّق بشخص آخر، وهذا خطأ. إنّ هذا الإنسان لا يملك إيمانًا حقيقيًّا بالله، وهو لا يستطيع أن يقول "لديّ إله، أؤمن بالله، في داخلي يوجد الله، لقد أتى المسيح إلى العالم من أجلي أنا أيضًا". على الصعيد الروحيّ يمكننا القول بأنّ هذا التعلّق يبدأ من حبّ الذات، من الأنانيّة، من الإعجاب بالذات، من المخاوف ومن الشعور بعدم الأمان. والإنسان الذي يتعلّق بالآخر بهذه الطريقة، لا يستطيع أن يقف على رجليه بمفرده بل يجب أن يمسك بيد أحدهم.
الاحتياج النفسيّ القهريّ (الضروريّ) في طلب الآخر
لنتكلّم عن الحركة الأولى، وهي الحركة تجاه الآخرين، أي التعلّق عندما يخضع المرء للآخرين، وعندما يتعلّق بهم، ماذا يحدث؟ كلّ إنسان يحبّ الآخرين قد يبدو له أنّه متعلّق بهم، ولكن بما أنّ محبّته تنبع من محبّته للمسيح، وهي المحبّة الأصيلة والصحيحة، فإنّها، أي هذه المحبّة، تنفي التعلّق بهم. ولكن عندما لا يملك الإنسان هذه المحبّة وعندما يكون مريضًا في العمق نفسيًّا وروحيًّا، فإنّ طلبه للآخرين يتّخذ طابعًا مرضيًّا، وتعلّقه وخضوعه لهم يخلقان لديه، أكثر فأكثر، حالة سيّئة، ولا يسمحان له بأن يحيا حياة روحيّة. وعلى الصعيد النفسيّ يُفقدانه التوازن ويحرمانه من الحرّيّة الداخليّة أي لا يدعانه يعيش كشخصيّة حرّة براحة وحرّيّة.
فالإنسان، في هذه الحالة، يطلب المحبّة من الآخرين، يطلب رضى الآخرين عليه، يطلب أحدًا آخر. وهذه كلّها يطلبها كحاجة ضروريّة، وكما يقول علم النفس هذه الحاجة هي حالة نفسيّة قهريّة. ولكي أكون أكثر وضوحًا أقول: كلّنا نطلب محبّة الآخرين، كلّنا نطلب، قليلًا أو كثيرًا، رضى الآخرين، كلّنا نطلب صحبة الآخرين. ولكن الذي يطلب كلّ ذلك ويشعر به كحاجة ملحّة، فإنّه عندما يرى بأنّ الآخرين لا يحبّونه، وأنّهم غير راضين عنه، وعندما لا يجد الرفقة التي يطلب، فإنّ اليأس يستولي عليه في الحال، وتستولي عليه، كذلك، حالة نفسيّة وروحيّة سيّئة. وهذه الحالة السيّئة لا تدعه يهدأ، لا تدعه يشعر بأنّه إنسان حرّ، ولا تدعه يقف على رجليه، إذ يفقد توازنه النفسيّ، ولا يعود باستطاعته التقدّم في حياته الروحيّة.
أرجو أن تصدّقوني عندما أقول بأنّ عدد المسيحيّين الذين يعانون من هذه الحالة هو أكثر ممّا نتصوّر، ولهذا السبب لا يتقدّمون روحيًّا، أو بالحري، لا يستطيعون التقدّم. فاسمحوا لي أن أقول بأنّ حياتهم المسيحيّة هي حياة كاذبة مرائية. هؤلاء الناس، إذًا، الذين لهم هذا الميل للخضوع، ويشعرون بالحاجة لهذا الخضوع يطلبون أن يتعلّقوا بشيء ما.
هذا يعني أنّ مثل هذا الإنسان، أو هذا المسيحيّ، قد يتعلّق بشخص آخر يكون قد قدّم لهما يطلبه، أو بالحري، قد أرضى حاجته للمحبّة، حاجته للرضى، وحاجته للرفقة. وهكذا يتعلّق هذا الإنسان بالشخص، أو بالأشخاص، الذين يشبعون حاجاته النفسيّة المرضيّة، فيلتصق بهم، أو به، بحيث يصبح غير قادر على أن يرى غيره أو أن يفصل نفسه عنه. يرى فيه، فقط، الفضائل أو الحسنات، وبالتحديد تلك التي ترضي حاجاته النفسيّة المرضيّة.
لذلك مرّات كثيرة قد نرى إنسانًا يتبع شخصًا آخر بشكل أعمى، وقد نتساءل ماذا يجد في هذا الشخص لكي يتبعه ويخضع له ويطيعه بهذا الشكل الأعمى وبكلّ إيمان؟
كيف لا يرى في هذا الشخص الذي يتبعه ويخضع له ويعتمد عليه ويرتبط به بعض الخطايا الكبيرة والصارخة؟ إنّه لا يرى كلّ ذلك.
وصاحب هذه الحالة المرضيّة قد يعمى لدرجة لا يعود يرى في نفسه شيئًا حسنًا يملكه هو ولا يملكه الآخرين ولا حتّى السيّئات التي قد توجد في ذاك المتعلّق به والتي تجعل منه مرشدًا غير أصيل بل يجعل منه مرشده والشخص الذي يستند عليه والذي يعتمد عليه في كلّ شيء والذي به يلتصق ويخضع له حرفيًّا وفي كلّ التفاصيل.
وأكرّر وأقول بأنّ هذا يحدث لأنّ الإنسان صاحب هذه الحالة لا يستطيع أن يقف على رجليه بمفرده ولا أن يشعر بحرّيّته، لا يستطيع كشخصيّة منفصلة عن الآخرين أن يتحرّك بمحبّة حقيقيّة ولا أن يرى الناس الآخرين بمحبّة وأن تكون له بهم علاقة صحيحة.
[1] كان أبًا روحيًّا للدير النسائيّ ميلاد العذراء/بانورما- سالونيك، كما أسّس ديرًا رجاليًّا آخر. رقد في العام 2015.