الأحد 6 حزيران 2021

الأحد 6 حزيران 2021

02 حزيران 2021
الأحد 6 حزيران 2021
العدد 23
 أحد الأعمى
اللحن الخامس الإيوثينا الثامنة


* 6: إيلاريّون الجديد رئيس دير الدلماتن، الشّهيد غلاسيوس، * 7: الشّهيد ثاودوتُس أسقُف أنقرة، الشّهيد باييسيوس (كفالونيّة)، * 8: نقل عظام ثاوذورس قائد الجيش، الشّهيدة كاليوبي، * 9: وداع الفصح، كيرلّلس رئيس أساقفة الإسكندريّة، * 10: خميس الصعود الإلهيّ، الشّهيدان ألكسندروس وأنطونينا، * 11: الرّسولان برثلماوس أحد الاثنَي عشر، برنابا أحد السبعين، إيقونة بواجب الإستئهال، * 12: البارّ أنوفريوس المصريّ، بطرس الآثوسيّ. 

الرّجاء في زمن الأزمات 

تُشبَّهُ الكنيسة بالسفينة، لأنّها تقودُ المؤمنين إلى مرفأ الخلاص، وعندما يكون البحر هادئاً تسير هذه السفينة بهدوء وسلام، وعندما ترتفع الأمواج وتلطم السفينة وتحاول تغيير مسيرتها يحدث الاضطراب ويكون الخوف والقلق. هكذا المؤمنون في العالم، أبناء هذه الكنيسة، يعيشون في كلِّ الأزمنة برجاء ربّنا يسوع المسيح. الأزمنةِ السلاميّةِ وأزمنة الاِضطراب. 

إذا عُدنا إلى الانجيل المقدّس، نرى القول: وأمّا الكنائس في جميع اليهوديّة والجليل والسامرة فكان لها سلامٌ، وكانت تُبنى وتسيرُ في خوف الربّ، وبتعزيةٍ من الروح القدس كانت تتكاثر (أعمال 9 : 31). 

هذا زَمَنُ سَلام، والكنيسةُ تنمو وتكبر وتتقوّى بمخافة الربّ بالسَّكينةِ وبتعزية الروح القدس. إذًا حتّى في أوقاتِ السلام نحن بحاجة إلى التعزية من الروح القدس، وإلى السُّلوكِ بمخافة الله، فلا وجودَ للتكبُّرِ ولا للتعجرُفِ ولا للتَّرَف. 

لكنْ أيضا هناك أزمنةٌ أخرى مرّت على الرّسلِ أنفُسِهم، أزمنةُ اضطهاد، أزمنةٌ صعبةٌ واجهوا فيها صعوباتٍ كثيرة، وبذلوا الدّم والتّضحيات من أجل أن تبقى هذه الكنيسة ثابتة ومن أجل أن يبقى الإيمان مصانًا بلا لوم ولا عيب، والإنجيل أيضا مليءٌ بأخبارِ تلكَ الأزمنة الصعبة التي عاشَها الرّسلُ والمؤمنون جميعًا، وما كان فيها من اضطهاداتٍ وقَتلٍ وتشريدٍ وتهجير.

اليوم نعيش في أزمنة صعبة، سواءٌ على الصعيد الكنسيّ أم الاجتماعيّ. فمن الناحيةِ الأُولى تواجهُ الكنيسةُ اليومَ تحدّياتٍ للإيمانِ بسبب الأوبئة وبسببِ تعاليمَ غريبةٍ تُواجهُ إيمانَ الكنيسة، ومن الناحيةِ الثانية، يُعاني الإنسانُ من أزماتٍ اجتماعيّةٍ اقتصاديّةٍ تعيشُها بلادُنا. 

لكي نتقوّى ونبقى ثابتين في الإيمان والرجاء ليس لنا إلا كلمة الانجيل، فكما أجاب بطرس المسيح "يا ربّ إلى مَن نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك" هكذا نحن أيضا نصرخ إلى الربّ يسوع المسيح ابن الله الحي، أنت هو المنقذ، أنت هو المُنجّي، فكلمة الله المحييةُ هي رجاؤنا، هي التي تُقَوّينا على تَجاوُزِ هذه الصّعوبات وعلى التدرُّبِ على مقاومتها.

في زمن الأزمات يقوى الإيمان وتَتّحد القلوب. التجارب كثيرة، لكنّ الأمانة للإيمان الأول الذي تَسلّمناه من الرسل هي ميزانٌ لالتزامنا المسيحيّ ولالتزام إيماننا الحقيقيّ. هذه التجارب هي لكي نُمتَحن كالذهب لنبقى على الأصالة الأولى. الربّ يسمح بهذه الأزمات لكي نَتَنَقّى أكثر، لكن كيف نَتَنَقّى أكثر؟

نتنقّى أكثرَ ونَثبُتُ بالعودةِ إلى الإيمانِ الحقيقيّ والتغذّي من الكلمة الإلهيّة والتجمُّعِ حولَ الكأسِ المقدَّسة. 

فالأزماتُ الإيمانيّةُ والاجتماعيّةُ والسياسيّةُ والاقتصاديّة، كلُّها صعبة، ولكنّها في الوقتِ ذاتِه مفيدة، لأنّها تساعدُنا لكي نجتازَ في النّارِ فنتنقّى. الرجاءُ الذي لا يَخيبُ هو الذي يأخذُ من الكلمة الإلهيّةِ منهجًا وطريقةَ حياة. الرجاءُ الذي لا يَخيبُ هو الذي يتغذّى من الكلمة الإلهيّة في أوقاتِ السِّلْمِ لكي لا يَسقطَ في الغرور والكبرياء، وفي أوقات الأزمات كي يبقى صامدًا في الإيمان ليحيا.

طروبارية القيامة باللّحن الخامس

لنسبِّحْ نحن المؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة الـمُساوي للآبِ والرُّوح في الأزليّة وعدمِ الابتداء، المولودِ من العذراء لخلاصِنا، لأنّه سُرّ بالجسد أن يَعْلُوَ على الصّليبِ ويحتَمِلَ الموت، ويُنْهِضَ الموتى بقيامتِهِ المجيدة.

قنداق الفصح باللّحن الثامن 

ولئن كنتَ نزلتَ إلى قبر يا مَن لا يموت، إلا أنَّك درستَ قوَة الجحيم، وقمتَ غالباً أيُّها المسيحُ الاله، وللنسوةِ حاملاتِ الطيب قلتَ افرحنَ، ولِرسلِكَ وَهبتَ السلام، يا مانحَ الواقعينَ القيام.

الرِّسَالة 
أع 16: 16-34
أنتَ يا ربُّ تَحْفَظُنا وَتَسْتُرُنا في هذا الجيل
خَلِّصْنِي يا ربُّ فإنّ البَارّ قَدْ فَنِي


في تلك الأيّام، فيما نحن الرُّسُّلَ مُنْطَلِقُونَ إلى الصّلاةِ، اسْتَقْبَلَتْنَا جاريةٌ بها روحُ عِرافَةٍ، وكانت تُكْسِبُ موالِيَهَا كسبًا جزيلًا بعرافتها. فطفقت تمشي في إِثْرِ بولسَ وإِثْرِنَا وتصيحُ قائلة: هؤلاء الرِّجال هم عبيدُ الله العَلِيِّ وهم يُبَشِّرونَكُم بطريق الخلاص. وصنعَتْ ذلك أيّامًا كثيرة، فتضجّرَ بولسُ والتَفَتَ إلى الرُّوح وقال: إنِّي آمُرُكَ باسم يسوعَ المسيح أن تخرجَ منها، فخرج في تلك السّاعة. فلمّا رأى مَوالِيها أنّه قد خرج رجاءُ مَكْسَبِهِم قبضوا على بولسَ وسيلا وجرُّوهُما إلى السُّوق عند الحُكّام، وقدّموهما إلى الوُلاةِ قائِلِين: إنّ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ يُبَلْبِلانِ مدينَتَنا وهما يهودِيّان، وينادِيان بعادَاتٍ لا يجوزُ لنا قَبُولُهَا ولا العملُ بها إذ نحن رومانيُّون. فقام عليهما الجمعُ معًا، ومزّق الوُلاةُ ثيابَهُمَا وأمروا أن يُضْرَبا بالعِصِيِّ. ولـمّا أَثْخَنُوهُما بالجراح أَلقَوهُمَا في السِّجن وأَوْصَوا السّجّانَ بأن يحرُسَهُما بِضَبْطٍ. وهو، إذ أُوصِيَ بمثل تلك الوصيّة، أَلقاهُما في السِّجن الدّاخليِّ وضبطَ أرجُلَهُمَا في الـمِقطَرَة. وعند نصف الليل كان بولسُ وسيلا يصلِّيَان ويسبِّحان اللهَ والمحبوسون يسمعونَهُما. فحدثَت بغتَةً زلزلةٌ عظيمةٌ حتّى تزعزعتْ أُسُسُ السِّجن، فانْفَتَحَتْ في الحال الأبوابُ كلُّها وانْفَكّتْ قيودُ الجميع. فلمّا استَيقظَ السَّجّانُ ورأى أبوابَ السِّجْنِ أَنّهَا مفتوحةٌ، اسْتَلّ السّيفَ وهَمّ أن يقتُلَ نفسَهُ لِظَنِّهِ أَنّ المحبوسِينَ قد هَرَبُوا. فناداهُ بولسُ بصوتٍ عَالٍ قائِلًا: لا تعمَلْ بنفسِكَ سُوءًا، فإنّنا جميعَنَا هَهُنَا. فطلبَ مصباحًا ووثَبَ إلى داخلٍ وخَرّ لبولسَ وسيلا وهو مُرْتَعِدٌ، ثمّ خرجَ بهما وقالَ: يا سَيِّدَيّ، ماذا ينبغي لي أَنْ أَصْنَعَ لكي أَخْلُصَ؟ فقالا: آمِنْ بالربّ يسوعَ المسيحِ فَتَخلُصَ أنتَ وأهلُ بيتِك. وكَلَّماهُ هو وجميعَ مَنْ في بيتِهِ بكلمةِ الربّ، فَأَخَذَهُمَا في تلكَ السّاعةِ من اللّيلِ وغسلَ جراحَهُمَا واعتَمَدَ من وقتِهِ هو وذووهُ أَجمَعُون. ثمّ أَصعَدَهُمَا إلى بيتِه وقدّم لهما مائدةً وابتَهَجَ مع جميعِ أهلِ بيتِه إذ كانَ قد آمَنَ بالله.

الإنجيل
يو 9: 1-38


في ذلك الزّمان، فيما يسوعُ مُجتَازٌ رأى إنسانًا أَعْمَى منذ مَوْلِدِه، فسألَهُ تلاميذُه قائِلِين: يا رَبُّ، مَن أَخْطَأَ أهذا أَمْ أبواهُ حتّى وُلِدَ أعمَى؟ أجاب يسوعُ: لا هذا أخطأَ ولا أبواه، لكن لتظهَرَ أعمالُ اللهِ فيه. ينبغي لي أنْ أعملَ أعمالَ الّذي أرسلَنِي ما دامَ نهارٌ، يأتي ليلٌ حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل. ما دُمْتُ في العالَمِ فأنا نورُ العالَم. قالَ هذا وتَفَلَ على الأرض وصنع من تَفْلَتِهِ طِينًا وطَلَى بالطِّين عَيْنَيِ الأعمى وقال له: اذْهَبْ واغْتَسِلْ في بِرْكَةِ سِلْوَام (الّذي تفسيرُهُ الـمُرْسَلُ)، فمضى واغتَسَلَ وعَادَ بَصِيرًا. فالجيرانُ والّذينَ كانوا يَرَونَهُ من قَبْلُ أنّه أعمى قالوا: أليسَ هذا هو الّذي كان يجلِسُ ويَستَعطِي؟ فقالَ بعضُهُم: هذا هو، وآخَرونَ قالوا: إنّه يُشْبِهُهُ. وأمّا هو فكان يقول: إِنِّي أنا هو. فقالوا له: كيف انفَتَحَتْ عيناك؟ أجاب ذلك وقال: إنسانٌ يُقال له يسوع صنع طينًا وطلى عينيّ وقال لي اذْهَبْ إلى بِرْكَةِ سِلْوَامَ واغتَسِلْ، فمضَيتُ واغتَسَلْتُ فأبصرتُ. فقالوا له: أين ذاك؟ فقال لهم: لا أعلم. فأتَوا به، أي بالّذي كان قبلاً أعمى، إلى الفَرِّيسيِّين. وكان حين صنعَ يسوعُ الطِّينَ وفتح عينَيهِ يومُ سبت. فسأَلَهُ الفَرِّيسيُّون أيضًا كيف أَبصَرَ، فقال لهم: جعلَ على عينَـيّ طينًا ثمّ اغتسَلْتُ فأنا الآن أُبصِر. فقال قومٌ من الفَرِّيسيِّين: هذا الإنسانُ ليس من الله لأنّه لا يحفَظُ السّبت. آخَرون قالوا: كيف يقدِرُ إنسانٌ خاطِىءٌ أن يعملَ مثلَ هذه الآيات؟ فوقعَ بينهم شِقَاقٌ. فقالوا أيضًا للأعمى: ماذا تقول أنتَ عنه من حيثُ إِنّه فتحَ عينَيك؟ فقال: إِنّه نبيٌّ. ولم يصدِّقِ اليهودُ عنه أنّه كان أعمَى فأبصَرَ حتّى دَعَوْا أَبَوَيِ الّذي أبصرَ وسأَلُوهُما قائِلِينَ: أهذا هو ابنُكُمَا الّذي تقولان إنّه وُلِدَ أَعمَى، فكيف أبصرَ الآن؟ أجابهم أبواه وقالا: نحن نعلمُ أنّ هذا وَلَدُنا وأنّه وُلِدَ أعمَى، وأمّا كيف أبصرَ الآن فلا نَعلَمُ، أو مَنْ فتحَ عينَيه فنحن لا نعلَمُ، هو كامِلُ السِّنِّ فاسأَلُوهُ فهو يتكلّمُ عن نفسه. قالَ أبواه هذا لأنّهُمَا كانا يخافان من اليهود لأنّ اليهودَ كانوا قد تعاهَدُوا أنّهُ إِنِ اعتَرَفَ أحَدٌ بأنّهُ المسيحُ يُخرَجُ من المجمع. فلذلك قال أبواه هو كامِلُ السِّنِّ فاسألوه. فدعَوا ثانِيَةً الإنسانَ الّذي كان أعمَى وقالوا له: أَعطِ مجدًا لله فإنّا نعلَمُ أنّ هذا الانسانَ خاطِئ. فأجابَ ذلك وقال: أَخَاطِئٌ هو لا أعلم، إنّما أعلم شيئًا واحِدًا، أَنِّي كنتُ أعمَى والآن أنا أُبصِرُ. فقالوا له أيضًا: ماذا صنع بك؟ كيف فتح عينَيك؟ أجابهم: قد أَخبَرتُكُم فلم تسمَعُوا، فماذا تريدون أن تسمَعُوا أيضًا؟ أَلَعَلّكُم أنتم أيضًا تريدونَ أن تصيروا له تلاميذَ؟ فَشَتَمُوهُ وقالوا له: أنتَ تلميذُ ذاك. وأمّا نحن فإِنّا تلاميذُ موسى، ونحن نعلم أنّ اللهَ قد كلّمَ موسى. فأمّا هذا فلا نعلم مِن أين هو. أجابَ الرّجلُ وقال لهم: إنّ في هذا عَجَبًا أَنّكُم ما تعلَمُونَ من أين هو وقد فتح عينَيّ، ونحن نعلمُ أنّ اللهَ لا يسمَعُ للخَطَأَة، ولكنْ إذا أَحَدٌ اتّقَى اللهَ وعَمِلَ مشيئَتَهُ فله يستجيب. منذ الدّهرِ لم يُسمَعْ أَنّ أَحَدًا فتحَ عينَي مولودٍ أعمى. فلو لم يَكُنْ هذا من الله لم يَقْدِرْ أن يفعلَ شيئًا. أجابوه وقالوا له: إِنّكَ في الخطايا قد وُلِدْتَ بجُملَتِكَ، أَفَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا؟ فأَخْرَجُوهُ خارِجًا. وسَمِعَ يسوعُ أَنّهُم أَخْرَجُوهُ خارِجًا، فَوَجَدَهُ وقال له: أَتُؤْمِنُ أَنْتَ بابْنِ الله؟ فأجابَ ذاك وقالَ: فَمَنْ هو يا سَيِّدُ لأُؤْمِنَ به؟ فقال له يسوعَ: قد رَأَيْتَهُ، والّذي يتكلّمُ معكَ هوَ هُو. فقال: قد آمَنْتُ يا رَبُّ وسَجَدَ له.

في الإنجيل 

الإنجيليُّ يوحنّا يوجّهُ أذهانَ المؤمنين إلى أنّ الربّ يسوع هذا الذي قال عنه في بداية إنجيله "في البدء كان الكلمةُ والكلمةُ كان عند الله وكان الكلمةُ الله ...والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا" يُظهِرُ اليومَ حقيقتَه في عمليّةِ خَلْقٍ تُشابِهُ خَلْقَهُ الإنسانَ في بَدْء التكوين.

أعمى منذ مولده، بحسب الشُّرّاحِ الأقدمين لم تكن له لا جفنان ولا مقلتان ولا حتى علامة عينين أي أنه يعاني من نقص في التكوين والربّ جدّد تكوينه أو بالأحرى خلق ما لم يكن فيه. الربّ يسوع يؤكد بهذه الأعجوبة قوله الذي أعلنه تمامًا قبل هذا النصّ :"قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" والذي من أجله حاول اليهود رجمه، أيّ أنّ الله حاضر مع خليقته بابنه الوحيد يسوع المسيح.

أعمى شفيَ من عماه الجسدي واستنارت نفسُه، وأصحابُ العيونِ الصحيحةِ أظلَمَتْ بصيرتُهم. الأوّلُ سمحَ للنّورِ الإلهيّ أن يتغلغلَ في خلاياه فينيرَ كيانَه بمجمله ويَسكُبَ الفرحَ والطمأنينة فيه، كما حصل مع أبي الآباء إبراهيم "أبوكم إبراهيم تهلّلَ بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو 56:8). لقاءُ الربِّ وقَبولُهُ وسَماعُ كلامِه وحدَه ما يؤمّن الاستقرارَ والسَّلامَ الداخليَّ واكتشافَ الملكوت الداخليّ في كلّ مؤمن. 

بالتوازي مع الأعمى، يكشف الإنجيليُّ يوحنّا أيضًا، بسرده هذه الحادثة التي ينفرد بذكرها، نوعين من الناس: الجيران والفريسيّين قساة الرقاب. فالجيران مع أنّهم رأوا الأعمى الذي يعرفونه تمامًا أظهروا أنفسهم كَجُهّالٍ للحقّ، وكأنّ كلام النبيّ إشعيا ينطبق عليهم حين قال: "أعمى عيونهم لئلا يبصروا وأصمًّ آذانهم لئلّا يسمعوا"، وتوجّهوا بالأعمى إلى من يتّفق معهم بالرأي والمنطق، إلى الفرّيسيّين.

لم يكن اللقاء هيّنًا بالنسبة للأعمى، فمن امتلأ بفرح الشفاء، وابتهج قلبُه بالربّ، يواجه النّقد والمنطق والجدل على أمل أن يُنكِرَ عمليّة شفائه، وذلك فقط لِكَونِ أصحابِ الجَدَلِ أرادوا أن تَظهرَ عظَمتُهم مقابلَ اتِّضاعِ السيّد، وبقيت هذه العلّةُ فيهم وتأصّلَتْ إلى حدِّ رغبتهم بإطفاء النور وقتل الحقّ (إنّما أسلموه حسدًا). 

أمامَنا نموذجان: أعمى يتّصفُ بالبساطة والهدوء يحصل على نعمة الله ونوره صائرًا في عِدادِ مَن قالَ لهم الربّ "أنتم نور العالم"، وبالمقابلِ إنسانٌ يعتبرُ نفسَه مبصرًا وفهيمًا وقد أغلقَ قلبَه عن نعمة الله بأهوائه وأناه، فبقي ثابتًا في خطاياه وفي عتمة القلب.
المسيح لا يتعامل مع خطيئة الإنسان كديّان وإنّما كطبيبٍ محبٍّ وعطوف. الله يريد الكلّ أن يخلصوا وإلى معرفة الحقّ يُقبلوا، أما مَن أغلق عينَيه طوعًا عن نوره فتتمّ فيه كلمة الربّ التي قالها متألّمًا لأصحاب القلوب الجافّة:" لدينونةٍ أتيت إلى هذا العالم حتى يُبصر الذين لا يُبصرون ويعمى الذين يُبصرون". آمين.

مبصرون وعميان 

معجزة اليوم من أكثر المعجزات ثباتًا ووضوحًا. أرادها يسوع أكثر علانيّة وإعلانًا من باقي المعجزات. هدفه كشف نفاق الفرّيسيّين واضطرابهِم العصبيّ أمام حقيقة شخصه التي يصرّون على رفضها.

أمام هذه المعجزة التي حقّقها يسوع علنًا بين جمهور من الناس، نرى الفرّيسيّين يتعاملون معها بسلوك أقلّ ما يقال فيه أنّه نفاق وعدم اتّزان نفسيّ. هذا كلّه يظهر عبر استفسارهم المشكِّك عن المعجزة من الأعمى ومن أهله وتكرارهم لهذا الاستفسار رغم جلاء المعجزة ووضوحها. 

يفتّشون عن علّة في هذا الحدث الجليّ، فوجدوها في واقعة حدوثها يوم السبت. "هذا الإنسان ليس من الله لأنّه لا يحفظ السبت".

في تكرار سؤالهم للأعمى، بعد أن تأكّدوا من أهله أنّه ولد أعمى، نرى الخبث والتهديد والإرهاب:" مجّد الله، نحن نعلم أنّ هذا الرجل خاطئ"، بمعنى أنّنا نحن رأينا هذا الرجل خاطئًا، ولك أن تقرّ بخطيئته وبهذا تمجّد الله. يدفعون الأعمى إلى الكذب وإلى كبت قناعاته تجاه هذا الإنسان الذي وصفه هو بـ "الذي يتّقي الربّ ويعمل مشيئته" وبـ "النبيّ". في حال عدم التجاوب مع قولهم فهو لا يمجّد الله. 

وكأنّ تمجيد الله يكمن في نعت يسوع بالخاطئ رغم إحسانه تجاه الأعمى منذ مولده.

أمام إلحاحهم وتكرار سؤالهم يجيبهم الأعمى ببساطةٍ غلبت علمهم ومعرفتهم الدينيّة وتقواهم العمياء: "قلت لكم فلم تسمعوا لي... ألعلّكم ترغبون أن تصيروا أنتم أيضًا تلاميذه؟" جوابه دفعهم إلى فقدان صوابهم:" أنت تلميذ ذاك أمّا نحن فتلاميذ موسى". 

ينكشف كذبهم أمام الناس عندما ادعوا "أنّهم لا يعلمون من هو" يسوع. هم يعرفونه ويعرفون من أين هو. سبق لهم أن تذمّروا منه عندما قال: "أنا الخبز النازل من السماء"، فقالوا:" أليس هذا يسوع ابن يوسف ونحن نعرف أباه وأمّه " (يو6،42). 

وفي موضع آخر تعرّفوا إليه كجليليّ لا يمكن أن يكون المسيح:" أمن الجليل يأتي المسيح؟ ألم يقل الكتاب أنّ المسيح يأتي من نسل داود ومن قرية بيت لحم؟ " (يو7، 41 -42).

جوابهم تجاه بساطة الأعمى وصدقه كان: "أتعلّمنا وأنت كلّك ولدت في الخطيئة، وطردوه". لنفترض أنّ يسوع أخطأ في منحه البصر! ولكن بِمَ أخطأ الأعمى؟ هل لأنّه لم يَعُدْ أعمى؟ لقيه يسوع ليكشف له ذاته. الملفت في هذه المعجزة أنّ المنعَم عليه بها لم يكن يعرف يسوع ولا رآه. سأله يسوع: "أنت، أتؤمن بابن الله"؟ "أنت" مقابل "هم"، أي الفرّيسيّن. "أجابه من هو سيّدي لِأُومِنَ به؟ يجيبه يسوع: قد رأيته هو الذي يكلّمك". 

فعل "رأيته" غريب عن قاموس الأعمى، عبارة جديدة دشّنها باعترافه بيسوع ابنًا لله. يذكّره يسوع، عبر هذا الفعل، بإحسانه إليه مقابل اتّهام الفرّيسيّن له بالخاطئ. يعترف الأعمى بيسوع ابنًا لله ويسجد له.

هنا ينتهي النصّ الإنجيليّ الليتورجيّ. لكنّ عمق هذه المعجزة نجده في ما قاله يسوع بعد ذلك: "جئت هذا العالم لإجراء الحكم حتّى بيصر الذين لا بيصرون ويعمى الذين بيصرون ". 

"يبصر الذين لا بيصرون": العميان حسّيًّا سيبصرون النور الحسّيّ والمعتبَرون، من طرف الفرّيسيّين، جهّالًا وخطأة هم من سيبصرون أيضًا النور الذي لا تدركه حواسٌ، نورَ الله المكشوف لهم بشخص يسوع الناصريّ. لقد اقتنى الأعمى بقوله:"آمنت يارب" رؤيا أسمى من الرؤيا الحسّيّة التي أنعم يسوع عليه بها.

"ويعمى الذين يبصرون": الذين، بسبب أنانيّتهم، يقتنعون أنّهم يبصرون جيّدًا ويمتلكون المعرفة وينيرون آخرين سيصيرون عميانًا. قبل المسيح كانت الأمور مشوّشة: العميان بأنانيّتهم يظنّون أنّهم بيصرون الحقيقة، والمبصرون بتواضعهم وبساطتهم يُعتبَرون عميانًا. مع المسيح جاء "الحكم" المستقيم، فالذين يظنّون أنّهم بيصرون هم بالحقيقة عميان، والذين يُعتبَرون عميانًا هم الذين بيصرون حسّيًّا ويبصرون أيضًا كشوفاتٍ ساميةً، يبصرون يسوع كابن لله.

فَهِمَ الفرّيسيّون الرسالة فقالوا: "أفنحن أيضًا عميان؟" يجاريهم يسوع في قناعاتهم أنّهم بيصرون ليثبّت خطيئتهم في أنّهم، كعارفي الشريعة ومعلّميها، رأوا الإحسان معاديّا لمجد الله ورأوا ابن الله البريء من العيب خاطئًا. أمّا الكفيف والجاهل والخاطئ في نظرهم فقد اكتسب بتواضعه وبساطته بصيرتَين حسّيّة وروحيّة.